الاستعمار والشريعة: وإذ أهدى الطريقين التي أتجنب

(صدرت في السودان عن دار الخرطوم للصحافة والنشر الطبعة الثانية من كتابي “الشريعة والحداثة: جدل الأصل والعصر”. وهو موجز تقريباً لصورته الأخرى في الإنجليزية وعنوانها “هذيان مانوي: تحرير القضائية الاستعمارية الثنائية والإحياء الإسلامي في السودان، 1898-1985” (بريل 2008). ويحاول الكتاب الخوض في شأن “أسلمة الدولة” المستقلة عندنا بعد 1956 على ضوء مدرسة ما بعد الاستعمار( وهي منصة أكاديمية يسارية) بما يتجاوز التأجيج العلماني الذي اكتنف هذه المسألة منذ بروزها على السطح. و رددت زحف الإسلام الموصوف بالسياسي في كتابي إلى أصل في جغرافيا الدولة الاستعمارية أحسن وصفها المفكر الفرنسي (من أصول مارتينكية سوداء) وسماها بالجغرافيا المانوية. وتنقسم بها المستعمرة إلى فضاء حديث وفضاء تقليدي متشاكسين ضربة لازب. ولم ننجح بعد الاستقلال في تفكيك هذه الحغرافيا بإرادة وطنية غراء واعية. وأضطرب أمرنا وظللنا نتخبط في إسار هذه الجغرافيا بدلاً من تجاوزها إلى بناء الوطن المعافى من عقابيل الاستعمار.

وحرصاً على أن يقرأ الكتاب من في الاغتراب ولاسبيل لهم في الخرطوم إليه أنشر هنا فصله الأول منجماً. ويبدأ الفصل بسؤال قديم رن في كتاب زكي مصطفي عن قانون السودان القائم على القانون العام الإنجليزي (1971) وهو: ألم تكن الشريعة أولى بأن تكون هي قانون السودان على عهد الإنجليز حتى بشروط العدالة والوجدان السليم التي جعلوها مبدأ سامياً للقسط. وأردت باستعادة السؤال المحير تفكيك عقائد صفوية استقرت عن بؤس الشريعة كنظام حقوقي. وهي عقائد لم تقع لنا اجتهاداً منا وكدحاً بالفكر بل بالتابعية نطأطأ لها جبراً ونتبناها اعتباطاً بما عرف ب ” الاستشراق الداخلي”.

لن تلتزم عناوين المنشور من الفصل منجماً بعناوينها الأصلية).

وفي هذا الجزء الثاني نبحث في الجذر السياسي الثقافي لتجنبنا الشريعة وأخذنا بالقانون الوضعي المستمد من القانون الإنجليزي. فلو لم تتنصر المدرسة القانونية الإنجليزية التي تستهين بالشريعة في الهند على الأخرى التي ترى فيها أساساً لا بأس به للبناء من فوقه، لربما طبق الإنجليز بعض أقباس عدل الشريعة في الهند والسودان معاً وعلى سائر بلاد المسلمين. وبيان هذا في ما يلي:

اصطرعت في نهاية القرن الثامن عشر مدرستان استعماريتان فيما تعلق بالتقليد القانوني الهندي قبل استعمارها . والمدرستان هما مدرسة الدولة الثيوقراطية « الدينية » والتي تزعمها ورن هيستنق، الحاكم العام للهند في عام 1772م . فكانت هذه المدرسة ترى أن دولة المغول المسلمة قبل استعمار الهند كانت قد أسست قواعد مفصلة للسلوك لها قوة القانون . ونظرت هذه المدرسة بجدية في شريعة المسلمين وسننهم القضائية واعتبرتها أساسًا طيبًا لتطوير المؤسسات العدلية البريطانية الاستعمارية . ومن الجهة الأخرى ، وجد زرع الأفكار والطرق الغربية في صلب المؤسسات الشرقية معارضة من المدرسة الأخرى . وهذه المدرسة مما يمكن وصفه بمدرسة « الدولة الشرقية الطاغية » . فأهل هذه المدرسة يعتقدون أنه لو كان للهند شريعة « إسلامية » أو « هندوكية » سبقت قدوم الإنجليز فإنها شريعة الحاكم الطاغية المستبد العشوائي . وقد وُصِفَت هذه الشرائع الموروثة باعتمادها على منطوقات القضاة لا على قانون ثابت مستقر . وعليه فالشرائع الهندية التقليدية ، في نظر أصحاب هذه المدرسـة ، هي خبط عشـواء واعتسـاف لقيامها على أمزجة القانونيين لا نصـوص للقانون .

وانتهي اصطراع المدرستين بانتصار مدرسة الدولة الشرقية التي لا ترى أي ميزة أو نفع في شرائع أهل المستعمرة الهندية القديمة . وتمثل هذا الانتصار في الإصلاح القضائي الذي جرى في الهند في عام 1864م . وهو الإصلاح الذي جفف كل اهتمام أو بحث في شرائع الهند التقليدية إسلامية وغير إسلامية . فهذا التشريع جعل الهند حقلاً باكرًا خالصًا لتزريع القانون الإنجليزي العام بدون إيلاء أدنى اعتبار لتقاليد الهنود القانونية . وهكذا جاء الإنجليز إلى السودان وهم في حال جفاء مستحكم تجاه الشريعة الإسلامية ومزودين بالقوانين الهندية المتأصلة في القانون الإنجليزي العام . وقد ساغ لهم تجاهل الشريعة في إنشاء قوانين السودان الجنائية والمدنية « الحديثة » لأنهم كانوا قد أطاحوا ب”طاغية شرقي” هو المهدي عليه السلام الذي صوروه بأنه رأس دولة باغية فاسدة قائمة على الفوضى والظلم .

وقد صور تدمير هذا الحكم الشرقي المهدوي للإنجليز بأن عليهم أن يبدؤوا حكمهم في السودان من الصفر . فلم يكن هناك – حسب اعتقادهم – ثمة نظام إداري مستحق للاسم يبنون السودان « الحديث » من فوقه . وكما قال زكي مصطفى فقد تهيأ للإنجليز أنهم بصدد خلق كل شيء ، وعلى رأس ذلك النظام العدلي ، من جديد . ولذا لم يكن ممكنًا للسودان أن يتفادى مصير تبني القانون الإنجليزي العام في صورته الهندية . فقد كان الإنجليز يظنون أن قانونهم هذا هبة يمنون به على أهالي المستعمرات غير الأذكياء .

انتهينا في السودان إلى قوانين جنائية ومدنية متأصلة في القانون الإنجليزي العام في نسختها الهندية . فقد جرى تبسيط وتكييف للقانون الجنائي الهندي وتم اعتماده في السودان . وقرر الإنجليز أنه لا الشريعة الإسلامية ولا القانون المصري ولا حتى القانون الإنجليزي العام بصالحة في كلياتها لاستنباط قانون مدني سوداني . وبناء عليه تضمن القانون المدني نصًا مستفادًا من الهند وجه القضاة أن يستعينوا لدى النظر في النزاعات المدنية بأي قانون يصطفونه طالما لم يصادموا أو يفارقوا العدالة والإنصاف وأمالي الوجدان السليم .

وهنا مربط الفرس . فقد استخدم القضاة الإنجليز والرعيل الأول والثاني من القضاة السودانيين هذه العبارة ، الداعية إلى الإبداع والرحابة ، لفرض القانون الإنجليزي العام فرضًا في السودان . واستغرب زكي مصطفى كيف التوى هؤلاء القضاة بهذه العبارة السمحاء حتى أدخلوا من خلالها القانون الإنجليزي العام وحده في متن القانون السوداني دون القوانين الأخرى مثل الشريعة والقانون المصري .
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. سيب الفلسفة وعجن الكلام ولتو والانتلكجوال ماستربيشن بتاعك ده وورينا وقول لينا هل فى شريعة مطبقة الان فى السودان؟
    وعن اى شريعة تتحدث؟
    هل تقصد تلك التى تطبق وتنفذ فيمن لا ظهر ولاسند لهم وتعفى وتبرر لذوى النفوذ والجاه؟
    امشى واجى واقول ليك ده بيور انتلكجوال ماستربيشن

  2. الى الاخ دكتور عبدالله على ابراهيم
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    بما انه قد بلغ الى علمى بانك حديث العهد بالاسلام فانى ادعوك للتسجيل فى اسرع وقت ممكن باحد برامج المعهد العالي للامر بالمعروف والنهي عن المنكر
    وكل هذا حتى يكتمل ويحسن اسلامك وتقترب رويدا من البدريين السودانين

    دكتور توفيق الجبل
    فارس فرسان العضة وامير امراء الجهادية النكاحية بالسودان
    والمشرف العام للمعهد العالي للامر بالمعروف والنهي عن المنكر

    اعلان مهم
    يعلن المعهد العالي للامر بالمعروف والنهي عن المنكر عن مواعيد الاختبارات التحريرية لحديثى العهد بالاسلام (البرنامج اجبارى ليتم اعتماد حديثى العهد بالاسلام) لبرامج المعهد للعام الدراسي 1436-1437هـ

    الماجستير في الحسبة. الماجستير فى تتبع عورات الناس. الماجستير فى معرفة الفستان القصير
    الخميس 7/ 5/ 1436هـ (الساعة: 8.30 صباحًا) اختبار تحريري
    الأحد 24/ 5/ 1436هـ (الساعة: 8.30 صباحًا) مقابلة شخصية للمجتازين في الاختبار التحريري
    الدبلوم العالي في الحسبة. الدبلوم العالى فى الهمز واللمز.. الدبلوم العالى فى حد سرقة النحاس
    الأحد 24/ 5/ 1436هـ (الساعة: 9 صباحًا ) مقابلة شخصية فقط
    دبلوم المدرب المعتمد في البرامج الشرعية
    الاثنين 25/ 5/ 1436هـ (الساعة: 8.30 صباحًا) مقابلة شخصية فقط

  3. شريعة الله التي بين دفتي المصحف والسنةالنبوية هي القانون الكامل لحفظ الحياة وهي شريعة صالحة لكل زمان ومكان ولاتبديل لها وان لم تكن اعدل شريعة فمن اين ياتي العدل كيف لنا ونحن مسلمون ولانعترف بان الشريعة هي قانون عادل لنا نعم التطبيق فية تخبط ولكن الشريعة ليس فيها ظلم للمجتمع وهي اعدل وادق من القوانين التي يضعها الناس واصلا الاسلام لم يمنعنا من الاستفادة من الاخرين حتي الكفار اباح لنا الاخذ منهم في الاشياء التي تسير امورنا وتنفعنا ولكننا لانحتاج الي شئ والقران كامل لانقص فية وكل القوانين التي في القران الغرب عنده مثلها للحفاظ علي مجتمعاتهم ونحن عندنا المصحف والحكمة ضالة المؤمن والان المجتمعات التي طبقت الشربعة افضلا مننا ومتطورة اكتر مننا ومن غيرنا بل كلنا نجري عليهم والمشاكل عندهم اقل والاستقرار اكتر بل انت الذي ترفض الشريعة نفسك تمشي اليهم وتعيش تحت ظل شريعة ربنا عندهم وفي امن وامان لماذا ترفضوها لنا كنظام وحكم ؟ولماذا لاتكون انت من ينادي بالشريعة الصحيحة العادلة كي يقف جميع الناس معك ؟ما هو المانع؟الم تكن مسلم وموحد لله الم يامرنا الله بتطبيق شرعة واتباع نبية بالقول والعمل ؟ماهو العيب في الشريعة ؟ولماذا يخجل الناس من تطبيقها وهم مسلمون ؟ متي سنعتز بديننا ونحن نفسنا نرفضة حكما لنا هل يكفي المسلم فقط حمل هوية اسلامية ام انها تطبيق عملي في الحياة ؟

  4. ياسلام عليك يابروف انها حقا لجرعات دسمة وقوية من الانتلكجوال ماستربييشن
    فهل ياترى سينتبه ابناء وطنى لتناولها وتلقيها؟
    فهل من مزيد ومزيد كما قال المرحوم اوليفر تويست فى كتابه المشهور : ” واليفر ااسك فور موور”
    والذى قمت بترجمته الى العربية مؤخرا

  5. يا حرامي النحاس بتاع ميسوري:
    أنت فاكيها في نفسك ، و فكوها فيك صبية عبد الخالق زمان، و صبية شيخ حسن الآن، و طارحنك لنا باعتبارك مثقف استثنائي مثل إدوارد سعيد أو فريدريك جيمسون، و الله أنت و صاحبك كمال الجزولي ما تسوى قلامة ظفر لسعيد. لذلك سادين علينا الأفق بالهراء الذي تنشرونه في الصحف و مفتكرنه إنتاج فكري.
    و بعدين لزوم المسوح الأكاديمية شايفنك دائماً ما تزج لك بالكليشيهات الأكاديمية حتى توهم القارئ العادي بأنك عالم لا يشق له غبار- و دا قبل هذا قاله لك الخاتم عدلان. هل تتذكره؟! بالله مدرسة ما بعد الاستعمار دي دخلها شنو في مقالك دا؟ و بعدين منو القال لك هي مدرسة أو منصة يسارية؟! أنت صحيح كما قال لك الخاتم عدلان تفتقد للتصنيف الدقيق للمفاهيم زي ” حكاية الإنقاذ مستلة من شفرة جينية في الثقافة العربية و بالتالي نتحملها كلنا، و هي كانت محاولة رخيصة منك لتجريم الكل ، و تبرئة اللصوص و الزناة بشكل رخيص، حتى انبرى لك سادن الفكر الفحل/ الخاتم عدلان و عراك و فضحك و كشف أحابيلك وخزعبلاتك في التزلف للإسلامجية الرعاع الذين أوهموا ا السودانيين بأنهم مجموعة مثقفين، و في الأخير طلعوا مجموعة لصوص مثل الفئران و زناة مثل القردة- و دي تعابير أنت عارفها كويس زي جوع بطنك و عارف من صاحبها. و الان جاي في آخر عمرك تسوق بشكل رخيص و مبتذل لمشروع اللصوص و الزناة القردة. دا شغل أنا أسميه “القوادة الفكرية” بالمجان. ثم من الذي قال لك الخطاب ما بعد الاستعماري بكل تجلياته أصبح منصة؟! المنصة تستخدم لإطلاق الصواريخ أو القاذفات لكنني لم أسمع بمنصب لإطلاق الفكر!
    أنت و الهذيان المانوي و لا المنوي بتاعك دا تطيروا في السماء.
    الان نحن ما قادرين نأكل و لا نشرب، و البلد محتاجة لثورة حقيقية لقلع حطام اللصوص و الزناة، أنت جاي تُمارس في الماستربيشن بتاعك دا في تفريغ الشحن الثوري الذي نعمل فيه؟!
    كنا منبهرين بك، و بحكاية بروفسير ميسوري، لكن القبة طلع ما فيها فكي
    يا عبد الله أولوياتنا الاكل و الشرب و حاجة أخرى حامياني، و عشان دا يبقى لابد من قلع اللصوص الزناة في المقام الأول.

  6. ياعبد الله علي ابراهيم نرجوان تكتب لنا عن الجوع الذي يجتاح السودان , اكيد انك شبعان جدا جدا عشان كده بثير قضايا يحين وقت اثارتها بعد سقوط النظام ,الي متي تتعمد العرضة خارج الحلقةالآ تشعر بهذه المأساة ؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..