النظر إلى العالم بالمقلوب

في 12 ساعة فقط.. نصف يوم فقط.. يروي لنا دان براون في روايته “الرمز المفقود” أسرار المدينة التي يحفها الغموض.. نيويورك.. في عمل يأتي مكملا لراوية براون ذائعة الصيت “شيفرة دافنشي”، من ناحية الأفكار لا الحكاية، وإن كان بطل الرواية الجديدة هو “روبرت لانجدون” الذي كان بطل الروايتين السابقتين للكاتب نفسه، “شيفرة دافنشي” و”ملائكة وشياطين”. طبعا صدرت بعد “الرمز المفقود” روايته الأخيرة “الجحيم”.
تأتي “الرمز المفقود” لتثبت قدرة هذا الرجل العجيب براون على المزج بين الحقائق والأساطير وخيال الكاتب الباذخ القادر على توليف عالم مواز تماما للعالم الذي نعيش فيه. بحيث يرتبك المرء أين هي الحقيقة؟
والمضحك في الأمر أن الكثيرين ينظرون إلى أعمال براون على أنها تفكك الرموز الدينية والعلموية لتقودها باتجاه الحقيقة.. يحدث هذا بنحو ما، لكن ليس بالنحو الذي يروج له في غالب الأحيان في وسائل الإعلام أو من قبل النقاد. فبراون وبشهادته الذاتية نفسه، ليس إلا كاتب مسلٍ.. يلعب على ثيمات ألفها البشر ليحولها إلى مادة قابلة للقراءة والمتعة، مع فتح الذهن أيضا.
إن الفن وبحسب مفهوم براون.. أو بحسب ما فهمت من أحاديث الرجل.. ليس إلا نوعا من اللعب الذكي الذي يوهمنا بأننا نعيش الحقيقة (حقيقة العالم).. لكننا وبأسف عميق بعيدون جدا.. فما يجري داخل النص ليس إلا تخيل ذكي قادر؛ بدرجة ما على تغيير معرفتنا بالعالم.
ومن ناحية ثانية في حين تبدو حقائق الأشياء متماسكة في الذهن.. فإن الفنون تأتي لتفتت هذا التماسك وتعيد تركيب الأشياء وفق منهجية جديدة تماما..
في هذا النوع من الكتابة ينجذب القارئ إلى مغامرة التحدي التي تجعله مشاركا في النص بوصفه بطلا غير مرئي.. يحاول أن يفكك اللغز بنفسه أو يوهم نفسه بذلك.. في حين أن الكاتب هو الذي يقوده إلى “حقائق العالم”.
في الرواية الأولى كانت “دان براون” يعمل على قصة مختلقة تقول بأن للسيد المسيح ذرية على قيد الحياة لكنهم متخفين.. وفي نهاية العمل سوف نكتشف أن الأمر لا يعدو كونه مجرد وهم. وفي كل أعمال بروان فالذي يتحقق للقارئ تقريبا هو المتعة.. متعة القراءة وتشغيل الذهن والاستكشاف.. أما الحقيقة فتظل جسما غامضا يصعب لأحد الإمساك به، وهو ما يلخص مشروع بروان الروائي.. الذي يقف كثير من النقاد ضده باعتباره كاتب قصص بوليسية تستعير المفردات والتراث الديني والميثولوجيا.. لكنهم لا يطلقون عليه صفة الروائي..
كذلك فإن الرجل كاتب غريب المزاج نوعا ما لنقول من ناحية الطقوس المتعلقة بالكتابة والتي هي أساسا تختلف من كاتب لأخرى ومرات يتم أسطرتها، فقد قرأت له في إحدى الحوارات، أنه يستريح أثناء الكتابة، بالوقوف بالمقلوب (وضع الرأس إلى أسفل)، ويصف هذا الوضع بأنه جيد جدا لرؤية الاشياء بزاوية مختلفة، كما أنه يساعده على بناء الحبكة الدرامية في السرد الروائي لأعماله.
وفي نظري فإنه لا يتعلق النظر إلى الاشياء، عند دان بروان، بالوقوف بالمقلوب جسديا ومحاولة فهم العالم بناء على هذا الوضع، بل أيضا، بالوقوف بالمقلوب في إعمال العقل تجاه قراءة العديد من الأفكار الإنسانية المتعلقة بالتاريخ وما يتضمنه دفاتره من قيء وحقائق ملوثة بالأكاذيب.
ومثل الكاتب الإيطالي إمبرتو إيكو كما في روايته المشهورة “اسم الوردة” يعمل دان براون على حبكة رواياته بطريقة تجمع بين العمل البوليسي والعمل التاريخي الناقد، الذي يغور بعيدا في إعادة قراءة المقدسات وهدم المخيال الجماعي والأسطوري تجاه المقدس، بما يعمل على زعزعة ذهن القارئ. وبعد الفراغ من قراءة أي عمل لهذا الكاتب، وغالبا ما تتم عملية القراءة مرة واحدة – رغم طول الأعمال- ، يحدث ذلك بفعل عامل الإمتاع والجذب والحبكة البوليسية الصارمة، يجد القارئ (نفسه) أمام صورة لعالم جديد غير الذي ألفه وعاشه، وكأنما لم يكن موجودا في العالم من قبل.
يحكي دان براون عن تجربته في الكتابة، بقوله: بدأت الكتابة عندما قرأت إحدى الروايات التي إشار الناس لأهميتها، فأكتشفت أنني سأكتب أفضل منها.
لا أدري ما هي الرواية التي يتحدث عنها براون، ولكن على أقل تقدير فقد نجح براون في أن يقدم أعمال مثيرة للجدل والنزهة والاختلاف والدهشة، وغيرها من المفردات التي يمكن أن توصّف حالة الاستغراب والإحساس بالجديد.
” شفرة دافنشي” ليست مجرد عمل إبداعي روائي، فني، يقرأ بهدف المتعة، ولا أظن أن كاتبها فكر في هذا الشيء بالدرجة الأولى، بأن يكتب رواية تمتع القارئ، بقدر ما فكّر في إثارة أسئلة ملحة تتعلق بتاريخ المسيحية وكيف تداخلت العديد من الطقوس الوثنية القديمة في بناء العقيدة المسيحية، والملفت للنظر في هذه التجربة، الدقة التي يتمتع بها براون في النظر إلى الأشياء، بناء على طريقته المبتكرة في النظر بالمقلوب للعالم، فهو قادر على مفاجأة القارئ بهدم قيم وأفكار تصب في صلب المتوارث، بناء على أسلوب منطقي يشبه طريقة الباحث العلمي المدقق.
إن براون لا يكتب رواية بالمعني الحرفي للرواية، بقدر ما يتخذ الرواية كجسر نحو القول والبحث المضن في قضايا شائكة ومعقدة، قد يكون البوح فيها بالشكل المباشر، على شكل كتاب فكري أو علمي أو بحث تاريخي ناقد، غير مجدي. وعنده تتحول الرواية إلى بحث مقلق، وعمل كبير يحتاج إلى المرجعيات والمصادر، بيد أن المحصلة ليست هي التاريخ فقط، بل هي النزوح إلى صلب القضايا الراهنة والأزمات التي يمر بها الإنسان العصري، حيث أن الأزمة الراهنة ليست إلا غصنا يكاد يسقط من شجرة غرست جذورها في الماضي.
وقد يدور سؤال مبدئي عن علاقة دافنشي (1452 ـ 1519) الذي يعتبر ولا يزال واحد من العبقريات الإبداعية ومعلم من معلمي عصر النهضة، بموضوع الرواية، هنا سنقف أمام نقطة هامة تتعلق بالتداخل بين الفن والدين، هذا الإشكال المُلبس والمعقد، والذي يناقشه بروان بطريقة سلسلة ومذهلة.
هناك مقولة منسوبة لدافنشي، يستعين بها بروان في الرواية، وهي (كثيرون إتخذوا من الأوهام والمعجزات الكاذبة تجارتهم، مضللين البسطاء من العوام)، وهناك مقولة أخرى(الجهل الأعمى يضللنا.. أيها البؤساء الفانون، إفتحوا أعينكم!).
مثل هذه المقولات لا تأتي اعتباطا ولا هرطقة (الهرطقة تعني “الاختيار” في أصلها اللاتيني)، بل تصب في عمق نهر العمل الذي يحفز الذهن الإنساني نحو المزيد من السؤال والقلق، أن تفكر في العالم بشكل جديد، وأن تقرأ الحياة بناء على نظرة تقوم باستبعاد المألوف والعادي والمكرر، إنه الجنون والعبقرية والتحدي، المغامرة التي لا يصمد في طريقها إلا قلة من الناس.
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..