نحو مجتمع متحرر

لكل مجتمع من المجتمعات نظرته الأسطورية أو ميثولوجياته التي يشكل من خلالها أنساق علاقاته مع العالم والوجود الكلي من حوله، وفي السودان تبدو هذه المسألة جلية إلى اليوم فمع الاتجاه نحو الانفتاح الكبير الذي تشكل من خلال تفكك صورة المجتمع التقليدي أو الهجرة الواسعة إلى الخارج إلا أن الأشكال القديمة لفهم الحياة أو تصوراتها ما زالت قائمة تعشعش في الأذهان. وذلك “لعمري” ? تعبير استخدمه رغم مقتي له ? صورة من صور الهزال الفكري وعدم القدرة على الانعتاق من الأمس إلى المستقبل. قلنا الأمس والمستقبل لأن الحاضر لا وجود له ولأنه بتعبير كثير من الفلاسفة قيمة منفية وغير حاضرة أساسا، فهو حاضر بغيابه ونفيه وحركته. والمهم أن هذا الاغتيال الذي نعني ونعاني منه الكثير لا سيما على مستوى الإدراك الوجودي يجعلنا أسرى الماضي، حتى لو أن حقيقة ذلك الأمس كانت هي متخيلة وغير ذات وجود حقيقي.
في الفكر الفلسفي وقراءات التطور والنماء فإن بداية الانتقال الحقيقي في أي مجتمع كان، تتم في اللحظة التي يدرك فيها أنه بدأ صراعا جادا مع نظرته الأسطورية والتقليدية للعالم، فبمجرد أن ينفتح الذهن وفعل الممارسة مع هذه الحقيقة يكون التعافي قد بدأ، ولابد من تضحيات وضحايا في طريق ليس سهلا أو مفروشا بالورد كما درج القول إلى أن نصل إلى المبتغى الذي هو كـ “الحاضر” غاية متحركة وغير ثابتة ولا أحد متأكد تماما من هويتها وماهيتها بالضبط، فهي تخضع للمتغير من الظرفيات والشؤون والإرادات الفردية كانت أم الجماعية، كما أنها تتأثر بالمحيط المحلي والعالمي في عالم بات واحدا رغم جزر العزلة الهائلة فيه.
إذن وفي اللحظة التاريخية التي نقرر فيها أنه لابد من فصل الأسطورة عن الواقع، أي لابد للمجاز أن ينأى ليحل محله الحقيقي والصحيح والافتراض المؤكد.. فإنه تنشأ الصراعات القوية والهدامة بين قيم التجديد والتغيير وبين الممسكين بتلابيب الأساطير والخرافات والأكاذيب.. وحينها يتحالف الجهل والقديم وحتى الحديث المزيف والإدعائي مع بعضهم بعضا، بظن أنهم سيشكلون سدا منيعا وعصابة ضد المستقبل والألفة المقبلة وأنهم سوف يسدون بوابات الأمل ونوافذ الضياء. لكن لن يكون ذلك إلا لحيز معين إذ سرعان ما سوف تنتصر الإرادة القوية والملهمة والطاقة الكونية الخلاقة التي سوف تكون قادرة على إبادة الظلام والأقدار السيئة والهزال المتراكم من لدن قرون طويلة.
إن عملية إنتاج مجتمع معافي وجديد من رحم الصراعات والجريمة والانتقام والكراهية والتشرذم والأنا المتعالية التي صارت هي قيم اليوم.. في ظل التمسك بالتقاليد البالية كنوع من الغلاف الشكلي الباهت. هذه العملية تخضع لاختبار كبير حتى تستطيع الذات فعلا أن تنفذ إلى العالم الواقعي، إلى التمثيل المرئي والمعاش وتكون ذات أثر فاعل في البناء الاجتماعي وإحداث موجة التحول والانتباه في الوعي والعقل الإنساني ليكون متاحا نقله إلى حياة أخرى غير المألوف والمكرر والمشتهى بظن أنه الأفضل حتى لو كان مشوبا بكل هذه الآلام والظنون والقواسي من أدران الدهر وعذاباته التي هي من صنيع الإنسان نفسه.
وفي تجربة الإنسانية وفي أعرافها الكلية فإنه لا يمكن لأي شعب أو مجتمع أن ينطلق إلى التغيير ويلبس لبوس التعافي الحقيقي ما لم يكن له ملكة الاستقلال في التفكير بأن يقوم في لحظته الراهنة “المتحركة” على إبداع فاعليته الأصيلة وليست تلك المستلفة سواء من الأمس أو المستقبل المرتجى كوهم وليس كعمل له أهداف وتقدم باتجاهه مؤسس له بالوعي والعلم والمعرفة والعمل. لا يمكن أن يتقدم الإنسان إلا بتطوير الفكر وتحريره من الضحالات والأوهام وغسله مرارا من البالي من التقليد والاتباع والمرارات التي ليس من وراءها سوى الوجع والألم والرذالة التي تقتل الإبداع والابتكار والرؤية البعيدة ذات الأثر الموضوعي والفاعل في محيط الكائن زمانه ومكانه. وهذا الرقي الفكري لابد أن يكون قصاده تضحية كبيرة يتبعها ألم في التخلص من أي سلطة دخلية تهدد الوعي الكلي والكبير والكوني، فالإنسان الذي يأثر فكره لمحيط محدد من الأشياء والعوالم ويحاول أن يرى العالم من منظور أنا مقيدة لن يكون مبدعا ولا إضافيا بل مُقنَّعا أشد ما يكون القناع قلقا ومواتا يعيده إلى الوراء دائما.
إن ظهور فكر جديد وأناس جدد لهم الشجاعة الكافية ليس بمفهوم المواجهة التقليدية والسلاح القديم، إنما بالوعي الخلاق والابتكاري الذي يتجاوز السلطة التقليدية بالتريث والأدب والخلق والعرفان، لهو غاية التقدم المنشود في ترقية العقل الراهن وحفزه ليكون مساهما في بناء وطنه وإنسانه وتعزيز الفكر البنّاء الذي يوجد معادلة الغد الجميل كما يتصوره البعض في الماضي في حين أنه ليس كذلك. فدائما أجمل الأشياء كما يقال لم تولد بعد.
إننا في أشد الحاجة إلى استدلالات جديدة وأفكار غير مسبوقة في كافة المناحي، من سياسية لاقتصاد لمجتمع لتربية وتعليم وغيرها بأن نبني أنساق وعي مختلفة عن الأمس، بأن نفكر بأننا في صراع مع ذواتنا ويجب أن نحقق الانتصار وبأن نجعل لحياتنا أهدافا واضحة وليس الركض في طرق “زقزاقية” ليس لها من بداية ولا نهاية أو أمل في التعلم منها سوى التيه والضلال المستمر بمعنى غير المعتاد ذهنيا في كونه مضاد للإيمان المتوارث، بل بمعنى العجز عن إعمال العقل والإصغاء للبعد الثاني المفقود من عوالمنا الدفينة والشجاعة التي تكبر “جوانا” دون أن نقدر على لمسها أو الإحساس بها جيدا، فكل منا يحتاج إلى يتدبر ذاته وأن يتكلم معها بصدق وبإحساس ليتعرف على ماهيتها دوت أن يكون معتمدا على معرفة خارجية فقط وصب من الأفكار والكلمات والتقاليد والقيم والمفاهيم التي تجعله لا يفكر إلا بقدر ما يسمح بتمرير المخزونات والواردات لا غير.
إن الجرأة على طرح الأسئلة ضرورية وليست حماقة إذا ما كانت تطرح بالشكل السليم وفي المكان المناسب والزمان الافتراضي له، لأن حيز الزمن قد يكون مضللا وغير واضح ما يجعلنا نخاف بغض الأحيان أو نتعجل أو نتوارى بظن أن الساعة لم تحن بعد للتحرر والانعتاق. وإذا كان داخل كل منا قيمة كبرى قد لا يراها. وداخل كل أمة من المستترات ونقاط القوة التي ? هي- تأتي من خلال تحرير التقليد والمتبع والمؤسطر والمؤرشف في الأذهان الجمعية. فإن الوصول إلى حيز الجرأة ليس هبة تقدمها الطبيعة أو التاريخ لأن فاعله “نحن” بكل ما فيها من ترسبات وأمراض وأوساخ. وثمة عمل كبير ينتظر كل منا ولكن أي رجل وأي أنثى فينا سيكون شجاعا بما يكفي ليقرر البداية من اليوم. وكما قال هيجل “إن مكانة العرافة قد احتلها الآن الوعي الذاتي لكل شخص يفكر”. فعلينا التحرر من تلك العرافة التي تسكننا.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. والله يا عمدة كلامك سمح وواصل فى مشكل المجتمع السودانى… بعتقد انو مشكل السودان اسه المجتمع وليس الحكومات لوحدها لسبب بسيط انو الحكومات دى جات من رحم المجتمع السودانى

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..