القطن المعدل وراثياً وصراع الأفيال فى الخرطوم

د. أحمـد هاشـم/جامعة لندن

حينما تتصارع الأفيال تدمر كل ما تطأه أقدامها وتصله خراطيمها وفي الحالة السودانية أصبح ضحية هذا الصراع هو المزارع المغلوب على أمره الذى وجد نفسه محاصراً بين الصحراء شمالاً والسافنا الملتهبة بحرائق الحروب جنوبا،ً وتظلله سماءاً قل ان تمطر، وأرضاً جفت خصوبتها وشرد الماء من عروقها، وآفات متأهبة لالتهام كل أخضر يانع. ما زال الصراع محتدماً حول تبنى زراعة القطن المعدل وراثياً فى دوائر السياسة والتمكين وعلى رأسها وزير الزراعة، البرلمان، وزارة البيئة، مجلس القطن بالنهضة الزراعية، جمعية حماية المستهلك، مركز التقانة والسلامة الحيوية، بروفيسورات الإنقاذ وآخرين. هؤلاء شاركوا جميعاً فى ضياع الحياد العلمى والجهد الانسانى الخلاق الذى بدأ منذ اكتشاف تركيبة الحمض النووى بواسطة واتسون وكريك عام 1953، وإهدارجهود البحث العلمى الحديث الذى قدم بدائل للزراعة التقليدية التى ساهمت فى توالى المجاعات فى السودان منذ عام 1306 هجرية وإلى يومنا هذا. وهنا لا بد من التساؤل، لماذا ينظرالسودانيون إلى الإبتكار العلمى بأنه تهديد وليس فرصة للتنمية المستدامة؟ ولماذا يبذلون كل طاقاتهم فى أبشع أنواع الإقصاء والضرب تحت الحزام من أجل مصالح شخصية؟ هل تحكمت سيكولوجيا الحرب التى لازمتهم منذ عام 1955 وجعلت الصراعات الطاحنة بديل لإختلاف الرأى والحوار والتفكير الخلاق فى كل ضروب الحياة؟

للإجابة على هذه الأسئلة لابد من الغوص فى دواخل الأيدولوجية السودانية التى شخصها ووصفها د. عبد السلام نور الدين* بأنها “تنطلق من مسلمات غير قابلة للمراجعة أو النقد أو الدحض”. وكأنها تريد إعادة إختراع قوانين السلامة الحيوية للمحاصيل المعدلة وراثياً من جديد، أوانها ليست فى حاجة لتجارب الدول التى قامت بزراعة وتسويق هذه المحاصيل على مدى ستة عشرة عاماً. والدليل على إنكفاء النخبة السودانية على ذاتها هو هذا العدد الهائل من بروفيسورات الإنقاذ الذين لم ينشر معظمهم بحث واحد فى دورية عالمية ذات عامل تأثير يفوق درجة واحدة. إذ يمثل هؤلاء البروفيسورات أكبر تجربة غسل ذهنى تعرض لها حملة الدرجات فوق الجامعية فى تاريخ العالم الحديث. تتوالى الأسئلة: هل نحن الآن فى إنتظار إجازة تقاوى القطن المعدل وراثياً من مجلس السلامة الحيوية حسب قرار البرلمان؟ هل يسلم هذا المجلس من صراع الأفيال والصراع الداخلى بين الأعضاء؟ وهل يقتدى بنظيره الكينى بإرسال الأعضاء للتدريب فى دول آسيا وأمريكا الجنوبية للإهتداء بتجاربها؟ يصعب الإجابة على هذه الأسئلة ولكن يمكننا القول بكل ثقة، وبالنظر إلى توزيع عائدات النفط والمعادن والصراع الدائر حول عائدات القطن المتوقعة، لن يجنى صغار المزارعين فى الحيازات المروية والمطرية لوزات هذا القطن الذى يبشر بإخراجهم من حالتى الفقر والجوع كما فعل لصغار المنتجين فى الصين والهند وباكستان وميانمار وبوليفيا وبوركينا فاسو وجنوب أفريقيا.

أعلن وزير الزراعة أن إنتاج الحبوب الغذائية لهذا العام بلغ 49,5% من انتاج العام الماضي وأن النقص الحالى فى الحبوب الغذائية يبلغ 2858 ألف طن! ومع هذا يصارع بكل قوة على إدخال القطن المعدل وراثياً وكأن أهل السودان يتغذون على موائد لوزالقطن وليس الذرة وقليل من القمح. هذا يعيدنا إلى الطريقة الملتوية لتفكير النخب السياسية والثقافية فى السودان وطريقة رسم أولويات التنمية التى تحكمها المصالح الخاصة وليست العامة. خاصة إذا أخذنا فى الأعتبار بأن السودان هو عضو فى رابطة تعزيز البحوث الزراعية فى شرق ووسط أفريقيا التى أسست أولوياتها نحو السعى الجاد لانتاج محاصيل معدلة بجينات تضيف للذرة خاصيات تحمل الجفاف، ومبيدات الأعشاب، ومقاومة الآفات، مما يؤدى لرفع إنتاج الهكتارمن واحد وربع إلى 7 طن بعد زراعة الذرة المعدلة وراثياً وبالتالى توفير الأمن الغذائى للمواطنين الذين يتعرضون لموجات الجفاف المتلاحقة.

لابد من شكر كل الذين شاركوا بابداء وجهات نظرهم حول المقالين السابقين عن زراعة المحاصيل المعدلة وراثياً بالسودان عبر التعليق أو المراسلة، وعلى وجه الخصوص الذين لم يوافقونى الرأى وطرحوا العديد من الأسئلة المهمة وسوف أحاول الاجابة عليها فى بقية هذا المقال. درج الانسان على تعديل المحاصيل الزراعية منذ تجارب قريقور مندل (1822-1882) فى نبات اللوبيا وتطورذلك على مر العصور مثل انتاج فاكهة اليوسفى من البرتقال والليمون، واستنباط ألوان جديدة من الزهور والورد، وادخال أصناف جديدة ذات إنتاجية عالية من القطن والفول والسمسم والذرة. أما على مستوى القرية نجد أن بعض المزارعين يمتلكون خبرة واسعة فى اختيار التقاوى ذات الصفات المميزة والانتاجية العالية وهم بمثابة مخزن البذور المحسنة وخبراء الهندسة الوراثية فى القرية. الفرق بين علماء اليوم وبين مندل وخبراء القرى هو الطفرة العلمية الهائلة التى حدثت فى خلال العقدين الماضيين خاصة عندما فك العلماء طلاسم المادة الوراثية وتحديد البروتين الذى ينتجه كل جين ومعرفة الصفات الوراثية التى يضفيها هذا أو ذاك البروتين الى النبات. هذا الفهم مكن الآن من تعديل النباتات لتكون قادرة مثلاً على مقاومة الأمراض وتحمل الجفاف مقارنة مع التهجين الذى قد يستمر لعدة أجيال ولسنوات عديدة.

الآن اثبتت زراعة المحاصيل المعدلة وراثياً على مدى ستة عشرة عاماً أنه لا يوجد أثر سلبى على الانسان أو الحيوان أو البيئة. وللاجابة على السؤال لماذا لم يطبق الأوربيون هذه التقنية المتطورة؟ يمكن تلخيص ذلك فى النقاط التالية: أولاً، أن الإتحاد الأوروبى له وفرة لا يمكن أن يتخيلها العقل من المواد ذات القيم الغذائية العالية، واستطاع بفضل الثورة الزراعية الأولى وادخال التقنية الحديثة فى الزراعة من مضاعفة انتاج الفدان الواحد عدة مرات عام بعد عام. ثانياً، الدعم المحلى للمزارعين والاعانات المباشرة التى يدفعها الإتحاد لهم للمنافسة عند ارتفاع تكاليف الانتاج، وعلى سبيل المثال يدعم الاتحاد الأوروبى المزارعين البريطانيين بمبلغ 3 ونصف بليون جنيه أسترلينى سنوياً. ثالثاً، دعم شركات التصدير الزراعى لاغراق السوق الافريقية بمنتجات أوروبية مثل الطماطم بأسعار تقل كثيراً عن أسعار الناتج المحلى وذلك لتوفير العمالة الدائمة للمزارعين فى الإتحاد الاوروبى. ورابعاً، وضع قيود لحماية الزراعة الأوروبية من خلال تقييد الواردات الأجنبية وذلك برفع الرسوم على الواردات. فى هذا السياق لابد من الاستشهاد بالدكتور الكينى فيليب مومباى عضو منتدى مركز التقنية الأحيائية الأفريقى حين” أتهم الاتحاد الأوروبى بالنفاق والغطرسة، وذكر بان لأوروبا متسع من الاختيار ونفوذ وقدرة على حرمان الكثيرين فى الدول النامية من الوصول لهذه التقنية التى يمكن أن تؤدى الى توفير الأمن الغذائى، وأن هذا النوع من النفاق والغطرسة يأتى مع الترف من بطون ممتلئة”.

فى الختام لا بد من الدعوة للتنمية المستدامة التى تلبى إحتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية إحتياجاتها، ويتطلب ذلك إتخاذ الإجراءات اللازمة لتحسين نوعية الحياة وإزالة عدم المساواة بين كافة المواطنين. والتوعية لإعتماد تقنية زراعة المحاصيل المعدلة وراثياً بحياد علمى بعيداً عن صراعات الدوائر السياسية والتجارية، وفق النظم والقوانين الدولية للسلامة الأحيائية التى أعتمدتها المنظمات العالمية وطبقتها الدول المنتجة للمحاصيل التقنية والحيوية. بلإضافة لتوضيح أثرهذه التقنية الحديثة على مزارعى الحيازات المطرية والمروية الصغيرة وأمكانيتها فى توفير الأمن الغذائى وازالة الفقرعن المستضعفين فى الأرض وليس لتبطين جيوب المافيا السودانية بالدولارات التى هاجرت مع إستقلال الجنوب.
د. أحمـد هاشـم، باحث فى كلية الملكة ميرى للطب جامعة لندن وسكرتير مؤسسة كردفان للتنمية.

المقالات السابقة عن المحاصيل المعدلة وراثياً فى منبر كردفان[url]www.kordofan.co.uk[/url] * د. عبد السلام نور الدين، الايديولوجية السودانية أو بروتوكولات آل سودان في عشية الاستقلال [url]http://bit.ly/M1T4cL[/url] [email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. الزراعة باالكيماوي والهرمونات المعدل وراثيا تسبب السرطان و تتلف الكبد والضعف الجنسي لانها تحتوي علي مواد سامه يعني بعد سنه كل السودانيين حايستعملوا المنشطات الجنسيه ياناس اتقو الله انتم تتدمرون بلادكم

  2. الدكتور أحمد هاشم لك التحيةوالشكر على تناول هذا الموضوع الهام وأرجو إ6سعافي بالاجابة على هذه التساؤلات: ماهي نتائج التجارب في زراعة القطن المحور وراثياً بالسودان مقارنةً بالقطن العادي؟ وهل سوف يعتمد السودان على إستيراد الحبوب المحورة أم يمكن إنتاج هذه الحبوب محلياً؟ سؤال أخير لماذا تفشل البحوث الزراعية بالسودان في استنباط عينات من القطن بالصفات الوراثية المطلوبة من ناحية الانتاجية ومقاومة الأمراض؟ مع تمنياتي.

  3. التحية لك دكتور احمد هاشم على هذا المقال العلمي الرائع
    لكن بالجد نود ان توضح للشعب السوداني الاثار المترتبة على
    زراعة المحاصيل المعدلة وراثياً في السودان من الناحية الصحية
    ومن الناحية المالية ( يعني ماذا يستفيد وماذا يخسر السودان
    من هذه التقنية الجديدة ؟؟) ولك شكري وتقدري الكبير .

  4. الشكر للإخوة ود الجزيرة وأبوبكر على التعليق والأسئلة. أولاً لم تظهر أى آثار صحية ضد الإنسان أو الحيوان أو البيئة حتى الآن من إستهلاك المحاصيل المعدلة وراثياً على مدى ستة عشرة عاماً منذ تسويقها خاصة فى أكبر الدول المنتجة لها فى الأمريكيتين وآسيا. غالبية الدول الأوربية الآن وافقت على زراعتها ما عدا ألمانيا وفرنسا التى بها أكثر المزارعين المستفيدين من الدعم الزراعى. كانت بريطانيا من أكثر الدول الأوروبية معارضة لزراعة واستهلاك المحاصيل المعدلة وراثياً ولكن يبدو أن هذه المعارضة بدأت فى التراجع عن ما كانت عليه فى عام 2003 وفق تقرير وكالة معايير الأغذية ووكالة شئون البيئة والغذاء والريف. كما دعا الاتحاد الوطنى للمزارعين بانجلترا زراعة المحاصيل التقنية والآن بدأت أولى التجارب الحقلية للقمح المعدل وراثياً بعد ايقافها عام 1999 نتيجة للاحتجاج والمظاهرات فى ذلك الوقت. وفى ذات السياق دعم وزير الزراعة (حزب المحافظين) ونظيره فى وزارة الظل (حزب العمال) وجهة نظر اتحاد المزارعين ودعوا الاتحاد الأوروبى لرفع الحظر عن تسويق المحاصيل المعدلة وراثياً أثناء حديثهم أمام مؤتمر المزارعين السنوى فى أكسفورد (صحيفة الغارديان 5/1/2012). هذه الدول التى تملك التقنية الحديثة فى كشف وفحص الآثار الصحية من إستهلاك هذه المحاصيل وصلت لقناعة كاملة إلى عدم وجود آثار صحية ضارة.
    الفائدة المادية للسودان يمكن مقارنتها بالهند حيث إحتفلت الهند بمرور عشر سنوات من الزراعة الناجحة للقطن المعدل وراثياً (هجين البى تى) وساهم بدخل 2 ونصف مليار دولار بتصديره لأمريكا، كما أخرج 7 مليون مزارع صغير وأسرهم من حدة الفقر، حيث إزداد دخل المزارع بنسبة تصل إلى 250 دولار للهكتار الواحد وكذلك خفض نسبة الرش بمبيدات الحشرات إلى 50%.
    يزيد القطن المعدل وراثياً نسبة الإنتاج خمس مرات للفدان الواحد مقارنة مع القطن المحلى ويوفر نصف تكلفة المبيدات الحشرية ووقت المزارع لمزاولة أعمال أخرى. يجب إستيراد البذور من الشركات العالمية حيث لا يملك السودان التقنية اللازمة لذلك فى الوقت الحالى. ساهمت البحوث الزراعية السودانية فى إستنباط أصناف ممتازة لكن تقنية التعديل الوراثى تفوق كل ما توصل له الإنسان سابقاً عن طريق التهجين. فى السودان إزدادات الكمية وليست نوعية التعليم العالى، ولم يجد البحث العلمى الدعم المالى اللازم وأضحت الدراسة العلمية شفهية أكثر من تطبيقية وفقدت معظم الجامعات المعامل والمعدات الحديثة والكادر الفنى الذى يستطيع نقل وتعليم ونشر التقنية الحديثة.
    لكم الشكر وأتمنى أن أكون قد أجبت على أسئلتكم ويمكن مراجعة المقالات السابقة فى منبر كردفان

  5. بعد البحث فى النت لمدة طويلة لم اجد ما يعيب الزراعة المعدلة وراثيا ..لكن ارتبط العديدمن المسؤلين بشبهة الفساد اصبح كل ما ياتى منهم مرفوض ومشكوك فيه ويرتبط بشبهة المصلحة الشخصية..
    وهذا حال المتعافى ..وهذه هى النفسية السودانية

  6. التجارب تدحض الافتراضات في بديه بحوث التحورالوراثي وضعت فرضيات المخاطر ولكن مع تقدم علم التقانه الحيويه والبحوث التي تمت في هذا المجال وخاصه في المحاصيل الزراعيه مثل القطن الصويا الذره الشاميه والارز لاتوجد اي اثار سالبه من زراعتها في كثير من دول العالم ولاكثر من 17 عام ومنها المنتجات الغذايه اما القطن في السودان تمت تجربته من كل النواحي واجيز من الناحيه الزراعيه وتبقت بعض الاجرات الفنيه الاخري الجدل في شنو ده علم ماسياسا ولا كوره

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..