الصحافة الحرية والمسؤولية

*(إنهم يَخشونَ من عقلك أن تفهم،
ولا يخشون جسدك مهما كنت قوياً!..).
– علي شريعتي-
.. الصحافة هذه المهنة كثيرة المتاعب كانت وحتى وقت ليس بالبعيد تعتبر من المهن التي تثير المشاكل للعاملين فيها, وأسوق هنا بعض الأمثلة من التاريخ العربي القريب فقد حدث مرة ان كان جمال الدين الأفغاني يحاور احد علماء الدين في الشام واسمه حسين الجسر وكان هذا الشيخ يكتب في جريدة اسمها طرابلس وكان يستخدم أسماء مستعارة وفي جو النقاش علا صوت الأفغاني وهو يجادل الشيخ فيما كتب فطلب منه الأخير إن يخفض صوته خشية ان يعرف الناس انه يكتب في الصحف فتنزل مكانته عندهم ..
فصاح الأفغاني لماذا تتخوف ولماذا تتخفى؟ إنني اكتب في الصحف وجميع الناس حكاماً وغير حكام يعرفون إنني أصدرت صحفاً في مصر.. وكتبت فيها العديد من المقالات وأصدرت صحيفة العروة الوثقى في باريس التي كانت تحظى بمتابعة واهتمام المسلمين في كل مكان ورغم الجرأة التي تميز بها الأفغاني فانه هو الآخر كان يتخفى في بعض كتاباته بأسماء مستعارة مثل (مظهر بن وضاح).
والمثال الثاني من مصر ففي ذلك الوقت انشغل الرأي العام المصري بزواج الشيخ علي يوسف صاحب ومحرر جريدة (المؤيد) بابنة السيد البكري شيخ مشايخ الطرق الصوفية في مصر فرفع أبوها قضية أمام المحاكم يطالب بفسخ هذا الزواج لأن شخصاً يعمل في الصحافة لا يعد كفواً لابنة السيد الحسيب النسيب, وقد حكم الشيخ أبو خطوة قاضي المحكمة الشرعية بالتفرقة بين الزوج وزوجته, وجاء في القرار إن من يعمل في الصحافة ليس كفؤاً لمصاهرة الأشراف ولم تحل هذه المشكلة التي شغلت الناس في مصر لفترة إلا بعد أن انعم الخديوي على الشيخ الصحفي بلقب الباشوية فارتفع بهذا إلي مرتبة تؤهله للزواج من بنت الأشراف وظل يعمل في الصحافة وصار معروفاً باسم الشيخ علي باشا يوسف!
وربما كانت تلك النظرة إلي العمل الصحفي والموقف منه دلالة على الوضع المتخلف للمجتمع وربما كان الناس يشعرون بشكل فطري بان العمل في الصحافة يعرض صاحبه إلي الإقتراب من حافة الآثام والخطيئة ولذلك فان مشكلة الصحافة في الماضي كانت تتركز في اللوم كله يقع على الصحفي ويحيطونه بالريبة والتخوف .
والمشكلة التي كانت وما تزال في صحافة اليوم تدور حول نقطة واحدة وهي هل ان كل خبر وكل رأي يمكن نشره في الصحف وهل يستطيع احد ان يعرف ما يمكن ان يترتب على نشر خبر ما أو رأي ما على صعيد الرأي العام المحلي وهل يمكن للكاتب الصحفي ان ينشر كل ما يجول في خاطره لا سيما وان هذا الرأي سيؤدي حتماً إلي إيذاء مشاعر العديد من الناس, وحتى لو اراد ان يؤلف به الناس ويثيرهم على وضع من الأوضاع القائمة في المجتمع أو انه أساء بكتابته إلي شعب آخر أو حكومة أخرى بما يؤزم الموقف معها أو حتى تناول شخصية عامة بالتجريح والتشهير وقد تكون هذه الشخصية غير قادرة على الرد لهذا السبب أو ذاك أو بسبب وضعها السياسي أو أنها شخصية فارقت الحياة.
والملاحظ ان حرية الصحافة أو تقييدها لا تنحصر في حدود الدولة بل تتعداها إلي الإطار الدولي فالصحافة الحرة يمكن أن تفسد العلاقات بين الدول وبين الشعوب وان تزرع في عقول ومشاعر الناس الشك والخوف والكراهية والعداء فيؤدي ذلك إلي تعرض الأمن الإقليمي أو العالمي إلي التهديد والحروب لأن الحروب وكما يشير ذلك دستور اليونسكو تولد في عقول الناس قبل أن تنشب في ميادين القتال .
إن خطورة الصحافة والإعلام في ميادين العلاقات الدولية دفعت بالأمم المتحدة إلي عقد مؤتمر خاص بحرية الإعلام في جنيف عام 1948 بهدف وضع اتفاقية دولية خاصة بحرية الإعلام وتحديد مسؤوليته في كل دولة من دول العالم إضافة إلي ما لعبته الدول الكبرى من ادوار انعكست على فشل المؤتمر حيث حاولت هذه الدول ان تدفعه باتجاه أهداف محددة بالشكل الذي يخدم أهدافها ومصالحها وحاولت الأمم المتحدة على مدى سنين طويلة ان تضع اتفاقية دولية تكفل حرية الصحافة وتحدد مسؤوليتها الدولية إلا أنها عجزت عن ذلك وكل ما توصلت إليه من نتائج هي إقامة نظام إعلامي جديد يقوم على أساس كسر احتكار إستقاء المعلومات والأخبار ونشرها في وسائل الإعلام للدول الكبرى وهي الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا وطالب النظام الجديد إعطاء دور للدول النامية في استقاء الأنباء ونشرها في العالم .
وهكذا فان الصحافة والإعلام بقيا يتأرجحان بين الحرية والتقييد فحرية الصحافة مشكلة وتقييدها مشكلة أكبر.
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..