في غضبة صلاح أحمد إبراهيم، في حلم عبد الخالق

كنت بصدد نشر وثيقة: “نحو حساسية شيوعية تجاه الإبداع والمبدعين” التربوية التي كتبتها خلال توليّ قيادة العمل الثقافي بالحزب الشيوعي في أكثر السبعينات. ونشرها الحزب في 1976 بالرونيو. وكان الهدف من ورائها تهذيب طبع الشيوعيين الذين بدأوا في تكشير أنيابهم في وجه كتاب أساسيين أخذوا عليهم “هنة” سياسية أو أخرى في التعاطي مع نظام نميري الديكتاتوري. وألهمتني كلمة ماركس: “الشعراء بحاجة إلى إعزاز” لكي استنقذ هؤلاء المبدعين، رأس مال الوطن الرمزي، من شراسة الشيوعيين المعلومة. ولكن وجدت من زكى أن أنشر كلمة لاحقة ل”حساسية” في التسعينات عن تجربتي، كمحرر لصفحة الميدان الأدبية في 1965، في الإلحاح على الحزب أن يكف أذاه عن صلاح أحمد إبراهيم الذي نشر ديوانه “غضبة الهبباي” وفيه تعريض غير موفق مشهور بأستاذنا عبد الخالق محجوب. واضطرني هذا إلى مواجهة مع الحزب خرجت بفضلها وثيقة راشدة عن منهج الحزب حيال الكاتب.

سأنشر أولاً قصة المواجهة ثم أنشر لاحقاً كلمة الحزب عن أدبنا مع الكاتب والمبدع.

قلت أقص عليكم هنا واقعتي مع المرحومين أستاذنا عبدالخالق محجوب والشاعر صلاح أحمد إبراهيم. وهي واقعة اسْـتَمِتُ فيها دفاعاً عن حرية التعبير أصالة عن نفسي ونيابة عن صلاح . ونعوذ بالله من تزكية النفس وإن بدا أحياناً أنها شر لابد منه . وكان صلاح قد نشر ديوانه “غضبة الهبباي” عقب ثورة أكتوبر 1964 وهو الديوان الذي نكأ حفيظة الشيوعيين عليه . فلم يقبل الشيوعيون بالطبع أن يُشبه أستاذنا عبدالخالق ? راشد ? بـ “أنانسي” وهو من أحاديث خرافة أهل غانا عن وطواط ذكي ، ولبق ، ومخاتل ، ومتآمر، وانتهازي . ولم يسعد الشيوعيون أيضاً لوصفه للمرحوم عمر مصطفى المكي بـ “الانتهازية” التي قال أنها متمكنة منه تمكن شلوخه . وكانت شلوخ المرحوم عمر مطارق تؤطر بأناقة لوجهه الذي قل أن لا يكون منفعلاً .

كان للشيوعيين بعد أكتوبر مهابة وصولة وسلطان. ولذا سرعان ما تجمعت سُحب الهجمة على صلاح بمقالة كتبها المرحوم عبدالرحمن عبدالرحيم الوسيلة ، رحمه الله وأحسن إليه وإلى ذريته بقدر شدوه للوطنية والعدل والحرية على منابر الجبهة المعادية للاستعمار وبقدر ذوقه في تعريب شكسبير . ومع ذلك كانت مقالته جافية لا موضوع لها غير التريقة وجر الشكل لا غير . وكان عنوانها ” الهايكو السوداني” سخرية من مقاطع شعرية في الديوان رتبها صلاح على تفاصيل ” الهايكو الياباني” الذي هو بحر من بحور الشعر الياباني أو هو جنس من أجناسه .

ورأيت أن كلمة المرحوم الوسيلة كانت محض تحامل وأنها أثر من إحن خصومات مضت . ولم تكن تلك الخصومة هي شاغل جيلنا من شباب الستينات . وكان جيلنا يحب صلاحاً جداً فوق حاجز البغضاء المتبادلة الذي ترسب عن حالة فصله عن الحزب في 1958 أو نحوه وحملات جريدة “الميدان” ، و”جردات” بقادي التي فصلناها في حديث مضى عن قريب . أذكر أن صلاحاً كان يأتي من غانا ، التي درَّس فيها اللغة العربية في المعهد اليساري للدراسات الأفريقية الذي أنشأه الرئيس كوامي نكروما ، في العطلات فنغشى داره ، وندعوه إلى الحديث من على منبر جمعية الثقافة الوطنية : منبر الجبهة الديمقراطية بجامعة الخرطوم . وكان لا يتلعثم في قبول المجئ إلى الجامعة تلعثم آخرين ممن لم يرغبوا أن يُشاهدوا في وكر لمعارضة النظام الحاكم . وكان صلاح ? “دقر يا عين” يشرفنا جداً نحن معشر اليساريين . إذا تحدث في الثقافة السودانية كان حديثه حديث العارف ذا النسب فيها من لدن جده المؤرخ محمد عبدالرحيم مؤلف نفثات اليراع . وإذا تحدث عن ثقافة العالم شفى العطاش منا يومذاك وله نسب فيها من لدن ” قمة الأولمب” . وكانت أكثر سعادتنا به أنه يُخزي الأخوان المسلمين لأنه يجمع بين الأصالة والحداثة ، كما كان يقال ، بلباقة ، وقوة عارضة ، ونفاذ يفسد كل حجةٍ عن ريفية الأصالة التي كانت صورتها عند الأخوان على شاكلة “تموت تخليه” . وكان صلاح عُودنا الذي نعجمه نرمي به الخصم ، فنصيبه في مقتل . كان مثقفاً بمعنى جهادي : من ثَقَّفَ العود ، أي براه ، أي جعله سنيناً كالنصل .

ولم نكن نستشعر حرجاً من هذا الود لصلاح . فمن جهة لم يكن من الشيوعيين من يسد مسده في حاجتنا له في محافل الجامعة ومعركة الثقافة فيها . ومن جهة أخرى كانت وثيقة “إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير”، التي خطها أستاذنا عبدالخالق محجوب في تلك الأيام ، قد “حللت” لنا مواددة أمثال صلاح وغيرهم ممن كان الشيوعيون في فقه اعتدالهم قد وصفوهم بـ “المُنْفَنِسين” أي الذين تراخت ظهورهم وأصلابهم من حمل المبادئ والرسالة (ويا أهل الحي هل سأقرأ هذه الوثيقة اللماحة مرة أخرى قبل الممات ؟ هل من فتىً يعيرني إياها فيكسب ثواباً. وقراتها لاحقاً الحمد لله) .

كنت أشرف على صفحة “الميدان” الأدبية حين نشر المرحوم الوسيلة كلمته الهازئة وأحسبها إما نشرت في غير الصفحة أو بغير أذني لأنني لم أرها إلا وهي مطبوعة . ورأيت بسالفة صلاح علينا في رطش (رابطة الطلبة الشيوعيين) وجمعية الثقافة الوطنية ، ومهراً لإعجابي العظيم بديوانه “غضبة الهبباي” واحتراماً لذهني وإنسانيتي أن أكتب عن الديوان بما يرضي هذه الخاطرات والالتزامات جميعاً . وكتبت مقالة من ثلاث حلقات استسخفت فيها ، مع تفهمي للدوافع ، ثأرية صلاح الناشزة وجفاء عبارته بحق أستاذنا عبدالخالق والمرحوم عمر غير أني أعلنت الحب على صلاح بغير مواربة وعلناً ، وفي “الميدان” ، حباً لبطره السمح بالشعب ولخاطره السمح بفقراء الشعب وحباً لفيض سحره وفحولة لغته . ولم تعجب هذه “الهرطقة” أسرة تحرير الميدان فكفت عن النشر منذ الحلقة الثانية . وبقيت أسبوعاً ثم آخراً انتظر “الميدان” أن تعود إلى صوابها عن هذه الجردة ضد حرية التعبير ، ولم تفعل . فالتمست موعداً مع أستاذنا عبدالخالق ، واتخذت سبيلي إليه في الموعد في مكتبه بمركز الحزب المقابل لنادي العمال بالخرطوم . وحملت له شكاتي من الرفاق في “الميدان” . واستمع إليّ أستاذنا بسليقة عذبة وبمسئولية غيورة ولما فرغت قال لي إنه يُفرِّق بين صلاح الشيوعي السابق وصلاح الشاعر . فالذي صح باللائحة في فصله عن الحزب لا يصح في تقويم عطائه الأدبي. وصدق الرجل عندي . فقد سئل يوماً في الستينات أيَّ الأغاني أحب إلى نفسه فقال : “الطير المهاجر” . التي هي من كلمات صلاح أحمد إبراهيم وغناء محمد وردي وكانت لها شنة ورنة على أيامنا تلك وأحسبها ما تزال . وواصل أستاذنا الحديث قائلاً إن الفن عند الحزب صحصح وقفار ومهاجر مجهولة لا يصح أن نبدأ بزعم معرفتنا لسكناتها وحركاتها . وأفضل السبل عنده أن نفتح فيها باب الاجتهاد : فلا ناقد رسمياً حزبياً ولا خطة نقدية حزبية ولا مدرسة أدبية حزبية . ووعدني أن يعالج المسألة مع رفاقه ليرفع قلم الرقيب والحجر عن المقالات الملعونة . وصدق الرجل فقد نُشر المقال الثالث بتاريخ الجمعة الجامعة الموافق الخامس من نوفمبر 1965 وقد ذيلته حاشية من تحرير الميدان عن المنهج الذي حدثني عنه أستاذنا في اجتماعنا السابق . والذي يقرأ الحاشية سيعرف أنها من وحي وصياغة أستاذنا فأسلوبها هو أسلوب عبدالخالق الخالق الناطق . وسأنشرها في هذا الباب في أسبوعنا القادم .

ذكر لي هذه الوقفة عند ثغر حرية التعبير أخي الشاعر المُجيد مصطفى سند في بابه “مراجعات أدبية” بجريدة السودان الحديث بكلمة حياني بها (16/1996) لدى زيارتي للسودان عام 1996 . وهي كلمة وريفة عذبة من سنخ ما قال فيه الدكتور عبدالله الطيب “الإنسان كثير بأخيه” . سألت الله لك العافية دائماً يا سند وأطربني مزاجك الشم الذي لم تعكره الحادثات كما عكرت أمزجة ولم تلوثه العارضات كما لوثت عقول . وقاك الشعر يارجل . لقد تباطأت في عرفان ودك كثيراً . وقال أهلنا : “شد واتباطأ يا خيراً آتا ياشراً فاتا”. ودعوت الله ان يكون في تأخيري خيراً : جاء الخير وذهب الشر، وكان الشر زهوقا.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. ياقنوط ميسورى حندديك طرف الخيط فى يوم من الاْيام وهسع بنفكر ننشر القصة بعد مانعمل موازنةونستشير بعض الاْخوان عشان مانجرح الطرف المتضرر من الحكاية المؤسفة دى اللى كان بطلا الفيلسوف الكبير ده .

  2. ياقنوط ميسورى حندديك طرف الخيط فى يوم من الاْيام وهسع بنفكر ننشر القصة بعد مانعمل موازنةونستشير بعض الاْخوان عشان مانجرح الطرف المتضرر من الحكاية المؤسفة دى اللى كان بطلا الفيلسوف الكبير ده .

  3. اؤلئك يا برف الاجيال نفر لن يجود الزمان لهم دقة الفهم وسر المعرفه في اللامنتهي كانوا رجالا بحق وحقيقة اختلافنا نحن طلبتهم وكنا صغار نطلبهم لنتزيا بهم علي اختلاف الطيوف فشبعنا حتي التشؤ منهم رحلوا وتركونا كما تري عبد الخالق دقيق العبارة واسع الافق يعجب بالطير المهاجر في طرفه اخري عن حسين انه لم يكن يعرف شاعرها فقال قولته (هكذا يكون الشعر ) وكانه اختبار قالوا انها لصلاح فما زاد مع ابتسامه عطره (نعم صلاح من فحول الشعراء )ما انكشفنا وضربنا الا يوم ان اصبحت الخصومة اوتارا بيننا فحصدنا القعدة الابدية مع المصمصه !!!

  4. بتبالغ ياخ ..مرة كتبت عن صديقك الراحل صاحب التاونس الحمراءالاْستاذ بمعهد الادارة وفرحنا و قلنا ربنا هداك عشان تكمل جميلك وتكتب عن اْسرتو بعد ما استقرت فى بلاد العام سام ناس اليانكى يعنى ..لكن وااْسفاى خذلتناالمرة وراالتانية وده بيشجعنا نكمل المشوار .

  5. أكاد أشتم رائحة (( حسين خوجلي )) في الحكاوي !!! كنت ؟ قال لي ؟ سمعت ؟ حكي لي ؟ كان ؟ ذكر لي ؟ ,,,,,,,,, والجامع المشترك في الكل (( أموات )) الله يرحمهم . وبالطبع ليس بمقدورهم الرد علي ( بروف الأجيال ) كما وصفه أحد المعلقين أدناه ( سيف الدين خواجة ) ! وبروف الأجيال هذا الذي لم تسمع به الأجيال ما زال وما انفك يدور في حلقة واحدة كثور الساقية ( ساقية الحزب الشيوعي وعمودها عبد الخالق ) فكانت العقدة الراسخة في ذهنه حتي آخر عمره تلاحقه وهو في ميسوري – أميركا !!! . هم اثنان ( ناقضي غزلهم أنكاثا ) : ع ع أ – و – أحمد سليمان – الشهيد البطل عبد الخالق وهو يخطو هادئا ثابتا باسما نحو المشنقة – سألوه ماذا قدمت لشعبك ؟ قال : الــوعـــي .

    ما يحيرني في كتابات ومقالات ع ع أ – ميسوري هو النظر بعين واحدة ويا ليتها عين الرضا ! بل عين السخط , وعين السخط تبدي المعايبا ( ويا ليتها كانت عيوباً ) فهو يبحث وينقب عنها كالغراب – ولكنه ( غراب الشؤم ) وليس الغراب الذي يواري سوءة أخيه !!! لقد كانوا أخوانك يوما ما يا ع ع أ – فعلام لا تصير الغراب الذي يواري السوءات ( ولا توجد بل في خيالك ) أأبدلتهم ؟؟؟ وبمن ؟؟؟ باخوان السوء الجدد !! المتأسلمين !!! أتستبدلون الذي هو أدني بالذي هو خير ؟ وما وجدت غير اقاويل واباطيل وأراجيف !!! الصياد يرسل الكلاب نحو الغزال – ودائما يسبق الغزال الكلب في الجري فلا يطاله ! فكان أن سأله يوما : لم تسبقني في الجري دائما ؟ قال الغزال : لأنني أجري لنفسي وأنت تجري لسيدك ,,,,,,, فهلا جريت يوما لنفسك ؟ , دع عنك نسور القمم الشامخة التي قدمت أعز ما تملك فداء لما تؤمن به , ولا تحسبنّ سكوتهم عنك أحياءً وأمواتا جزعاً أو خوفاً – بل تهويناً وهواناً – فإن الزرازير لما قام قائمها *** توهمت أنها صارت شواهينا * ظنت تأنّي البزاة الشهب عن جزعٍ وما درت أنه قد كان تهوينا * .

    والعاقبة للمتقين .

  6. 【رأس مال الوطن الرمزي】

    لنصبوا معا ليوم يكون فيه المبدعين في بلادي اكثر من (فقط) راس مال وطنی رمزی، بل (ایضا) راس مال مادی ملموس یدر ابداعهم وانتاجهم المعروف والمحبوب والمرغوب عالميا الملايين من العملات الصعبة في الخزينة العامة عبر ضرائب الانتاج والدخل (شان مبدعي العالم الغربي المعاصر مثلا _ مثل السوري/امريكي الراحل ستيف جوبس صاحب Apple، او اصحاب Google و facebook و Whatsup و من جر جرهم، او الكتاب الذين اسمعت كلماتهم حتي من به صمم علي وجه هذة البسيطة (ككاتبة الاطفال K J ROWLINGS مخترعة سلسلة هاري بوتر)، او الرياضيون موفورو الموهبة المبدعة (الارجنتيني ميسي كمثال علي راسه نار يكفي). والامثلة لن تنضب وان قضي المرء في سطرها اياما. خلاصة القول ان الابداع مورد اذا تم الاستثمار فيه سيعود بالربح مركبا: روحيا (في شكل الاستمتاع بالمنتوج الابداعي)، ماديا (كما ذكرت اعلاه _ وكلمة موهبه = talent اغريقية الاصل كانت العملة السائدة في يونان ارسطو وافلاطون)، رمزيا (ليكون لنا رمز آخر يعرفنا به العالم غير _ مثلا وعفوا _ عمر البشير)، وانسانيا (لنترك _ علي الاقل _ ارثا واحدا يعرفه ويؤمن عليه العالم كاضافة سودانية ثانية لارث الانسانية بعد اهرامات جبل البركل منذ اكثر من 3000 سنة.

  7. عبدالله على ابراهيم. لكى لا يتحدث عن ازمة الثقافة الراهنة فى ظل الديكتاتورية نراه دائماً يهرب الى الماضى ويتحاشى بجبن مصادرة الصحف واعتقال الكتاب والمثقفين ومصادرة الكتب وإقفال المراكز الثقافية ومراكز التنوير وبالطبع لانه يخاف على نفسه لا يستطيع ان يمس الانقاذ بسنة قلمه حتى بل انه يعازلها بالكتابة عن اعداء الانقاذ فينبش فى سيرتهم دائماً

    هذا هو عبدالله على ابراهيم

  8. أن تكتب , لكن أن تكن الحقيقة , والكتابة عن من ذهبوا عن الدنيا, فهذا هو النجر زاتو بي صفاتو, من أين يمكن إثبات الحقيقة, وأنت يا ع.ع.إ. ليس موثوق فيك, فيما تكتب. فأنت بهذه الكتابات المنجورة نجر, إنما تبصق علي نفسك, والحزب الشيوعي والشيوعييون ما من قِلة شغلتهم عشان ينصرفوا ويتفرغوا ليك…… شوف ليك نحاس لقطوا.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..