حمار مثقف وفهمان!

*(لا يمكن للمرءِ أن يحصل على المعرفة
إلا عندما يتعلم كيف يفكر..).
– كونفوشيوس-
.. يحكى أنه، في قريتي النائية عن قرى الجوار، لم يكن هناك طاحونةٌ لطحن الذرة والدخن، وكان الناس يرسلون أبناءهم إلى قرى بَلَغتها الحداثةُ صدفةً، فبنت لهم طاحونةً تطحن لهم قمحهم ودخنهم.
ولم تكن أم ثائر، الملقب بالبعشوم، استثناءً في هذا، فعندما بلغ ابنُها ثائر سن الشباب، أرسلته ليطحن لها مؤونة الدخن، مُطمئِنَةً قلقه وخوفه من الخروج من قريته وضياعه، بالقول: “لا تخف، الحمار يعرف الطريق”. والحق يقال، إن الحمير، على عكس البشر، قوية الذاكرة، وتحفظ طرقها جيداً، ولهذا قيل فيها “إن الحمار لا يقع في الحفرة ذاتها مرتين”.
ذهب ثائر وصحبه خلف الحمار إلى الطاحونة، في تجربةٍ تثبت بلوغهم سن النضج. وفي منتصف الطريق، دار بين الصحبة حديثٌ عن الثقافة، لكونهم من جيل المدارس والمثقف العضوي. وهكذا أخذوا يتباهون فهماً، ويتنافسون وعياً، مرددين من حينٍ لآخر، كمن أدمن على شيءٍ لا يستطيع تركه، القول بأن “الدين أفيون الشعوب”.
وبما أن ادعاء الفهم أصعب من الوساوس القهرية والنزعات التكفيرية، أخذ سجالهم الفهمي شكل صراعٍ ومشاحنةٍ، كلٌّ يحاول أن يثبت أنه أفهم من الآخر.وحين بلغوا حالة التعب، قرروا أن أفهمهم هو من يحق له امتطاء الحمار، متناسين أن الحمار يحمل – مسبقاً- أكثر من طاقته. وتحول صراعهم الفهمي إلى مشاجرةٍ استنفد فيها كلٌّ منهم قواميس الألفاظ النابية، كحال أي مثقفٍ حين خروجه عن النصوص المحفوظة.
كانت نتيجة سبابهم الفهمي، وصراعهم حول من هو الأكثر وعياً، أن سقط شوال الدخن، وهرب الحمار مذعوراً عائداً من حيث أتى. ولأنه، بدون الحمار، لا يعرف الشباب المثقف طريقهم، أخذ كلٌّ منهم يلوم الآخر، في سبابٍ ثقافيٍّ من السُّرَّة وما دون. لم يكن صعباً على أم ثائر أن تعلم بضياع ابنها المثقف بعدما عاد الحمار إليها وحيداً، فخرجت، وخرج معها بعض أهل القرية ليدركوا أبناءهم، قبل أن تأكلهم الذئاب وتعُضهم الكلاب. وحين وصولهم وجدوا أبناءهم في حالةٍ مزريةٍ، فمنهم من أكل أظافره خوفاً، ومنهم من بال على نفسه ذعراً، ولهذا أعطى أهل القرية لثائر ألقاباً جديدة منها “ثائر البوال” (نظراً إلى بوله على نفسه) أو “ثائر أبو الدقيق” (نسبة لقصة ذهابه إلى الطاحونة). والألقاب في قريتي إرثٌ راسخٌ، تماماً كما النميمة. فهكذا يمكن لشخصٍ أن ينسى اسمك، ولكن من المستحيل أن ينسى لقبك. وبقي الناس ينادون ثائر بألقابه حتى بعدما كبر، وأصبح له ترجماتٌ لكتبٍ ماركسيةٍ تَنقلُ في صحيحها نقلاً تواترياً أقوالاً لسماحة الفيلسوف كارل ماركس، محاولةً منه بأن يغير فهم الناس لماضيه، ولواقعة الطحنة، ولألقابه التي ارتبطت بها.
كتب ثائر، بعشوم، البوال كتاباً فلسفياً، بقراءةٍ ماركسيةٍ جدليةٍ، لفهم الماضي من خلال الحاضر، سماه “الحق على الحمار”. نُشر الكتاب من قبل وزارة الثقافة السودانية التي عمل فيها ثائر بعقدٍ يَمدَّد إلى الأبد، وأصبحت أطروحة كتابه نهجاً فكرياً ثقافياً يمجِّد الوعي، واضعاً الأمور في نصابها، مستنداً إلى حدسٍ فلسفيٍّ مفاده أن “ما للمثقف للمثقف وما للحمير للحمير”. وحين عاد ثائر، البعشوم سابقاً، والمفكر راهناً، إلى قريته النائية عن أوكار المدنية والصيرورات المتمفهمة، اكتشف أن ذاكرة الشارع القروي لا تنسى الماضي، لأنها دأبت على تحويله إلى تراثٍ؛ فكل ما هنالك أنها تضيف الجديد إلى القديم، ليجد أنه قد أصبح له، بفضل كتابه، ألقاباً جديدةً، من دون أن تُلغى ألقابه القديمة. وهكذا، أصبحوا يلقبونه: “ثائر البعشوم البوال أبو الحق على الحمار”.
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..