الفصل الأول من رواية جديدة :- (ظلال وريفة)

ظلال وريفة

#تواشج الأمشاج#

“الفاتح و فتحية”
كلاهما غريبان
على أحياء أم درمان
“الفاتح سليمان”
أتي من الشمال
“فتحية مرجان”
خلاسية
ذات أعراق متعددة
أبوها حمدان ولد مرجان
خليط من الفور و العربان
أمها “رحمة”
وليدة تمازج النازحين
من أصقاع السودان
إلى حيث موطن الخصوبة
في الجزيرة بين شرياني الحياة
الأبيض و الأزرق
هنا بزغت “فتحية”
و أشرقت كنجمة ثاقبة
و اتسعت عيناها
على رؤية فضاءات لا نهائية
و حقول خضراء بلا حدود
هنا طُربت و أهتز جسدها الطليق
على إيقاع مواسم الحصاد
إندفعت منطلقة حتى اللهاث
بين حواشات القطن و الفول
هنا مازحت الرعيان و أخفت مع لداتها صغار البهم
خلف ترعة “الكنار” الكبيرة

* * *
“الفاتح سلمان”
سليل النهر و النخل
تواشج بهما منذ نعومة الأظفار
عبر نهر النيل عدة مرات
طاف بجزره الصغيرة مكتشفاً أسرار الطبيعة !!؟…
تسلق بواسق النخل مسقطاً أقنانها المتعثكلة …
متخيراً الأكثر سموقاً !!…
كافح الهدام لكبح جماح شهيته
توجس خيفة من قضم أطراف الشريط الضيق !!؟…
الذي يحمي قاطنيه من شرور الفيضانات
مارس ألاعيب الصبية خلف أضرحة الأولياء ؛؛؛
و على بصيص إنارة قبابها الخافتة
أنصت لكثافة الصمت في هزيع الليالي المقمرة ….
قرض الشعر على إيقاع أنين السواقي
حينما شكت شغاف فؤاد القلب سهام لحاظ “فاطمة السمحة” ؛؛؛
تدرج سراعاً على سلم التعليم العام حتى تربع على قمته
رسم على حجارتها بطباشير ملون موضع قدميه
غادر مسقط الرأس محفوفاً بوعد آت
* * *
مثل لوح الأردواز
علاه الخط
صافحه المحو
بدأت رحلة حياة جديدة من سنين العمر
أرض مختلفة
وجوه غريبة
كـأنها أقنعة أفريقية
في البدء
أنطوى على أناه
لم يدم طويلاً على ذات الحال
تواتر الأحداث مع تسارع الأزمنة بإقاعها المتلاحق
واختلاف الظروف مع انشقاق الأمكنة
أراحه !!؟….
أزاح عن كاهله هموم الأيام السالفة
أغدق عليه نعمة النسيان
بتر الحبل السري
حرره من طغيان تواشج أمشاج الماضي مع الآتي ؛؛؛
أبعد عن مرقده الفراش الوثير
وضع رأسه على وسادة المنبه
كان يصحو على ثلاثة
صياح ديك الفجر
صوت المؤذن
رنين ساعة المنبه
كان يدعو بلا كلل
يرفع كفيه إلى الأعلى همساً
تمضي الأرض و تبقى السماء
أين أرض الطفولة و الصبا ؟
هذه أرض الشباب و العنفوان
ثمة حياة جديدة
أشياء مغايرة
أناس آخرون
خطى أكثر اتساعاً
أنفاس لاهثة
أحاديث عاجلة
تحايا خاطفة
علاقات عابرة
* * *
(حي الموردة)
شبكة عرقية متداخلة
نسيج اجتماعي متباين
خلائق ودودون
يحفظون العشرة
يدينون بالولاء لأوليائهم الصالحين و شيوخهم المبجلين
ينكرون ذواتهم
من أجل أن تبقى أصالتهم أكثر معاصرة
من أجل ان يتجدد قديمهم من دون أن يُطمس !!!؟؟….
هنا على أعتاب مرسى الموردة
رمي “الفاتح سلمان” بقلاعه
والجاً عبر مداخلها إلى قلبها
ظل هناك مبهوراً !!…
وقف مرصوداً من عيون شتى
لم يعر العيون إلتفاتاً
أخذ يتملى بهاء مناحيها
مشغوفاً بتفاصيلها أناساً وأمكنة
قطن قريباً من سوقها
راصداً قوافيها
تستوقفه فواصلها
يغرق في بحورها شكلاً ومضموناً
ينتشي بإيقاعها رتيباً ومنوعاً
يظل قابعاً منذ بزوغ الفجر على “قيفة” النيل الأبيض
و قوارب الصائدين الصغيرة تجوب مناحيه
تتصيد أحياءه بلطياً و بياضاً وعجلاً
و خلال سويعات الضحى
يجلس على مقعده الأثير منزوياً
في أقصى أركان مطعم السُبكي لتناول وجبة إفطاره الطازجة من حمام النيل المجلوب مباشرة من الماء إلى النار
* * *
يبدو أن مشروع الجزيرة كان آخذاً في التراجع
لم يعد ذهبه الأبيض عموداً فقرياً للإقتصاد السوداني
كذلك المحاصيل الأخرى كفت أن تكون مصدراً للإعاشة
هجر المزارعون حواشتهم
بعضهم (كراها) لقاطني “الكامبوهات”
البعض الآخر تركها بوراً ومضى لا يلوي على شئ ….
لينتشروا حول حاضرة البلاد
كإحاطة السوار بالمعصم
حلت أسرة “فتحية مرجان” في أحد أحياء “البقعة”
و قد طاب لهم المقام على مشارف “أم بده”
جاوروا أناساً مختلفين
أطلت “فتحية مرجان” من خلالهم على عالم مخبوء الأسرار !….
لم يكن ? في البدء ? معهوداً لديها هذا التعارض بين الظاهر و الباطن
صديقتاها
“مريم” في القرية
“علياء” في المدينة
كنت أتحدث إلى “مريم” بصيغة الجمع كأنها شلة صديقات
يعلو صوتانا
يتلونان حزناً و حبوراً
و يحملنا طائر أحلامنا الصغيرة
إلى تخوم الحقول حيث “الكنار” الرئيس
“علياء” ليست “مريم”
– أنت يا ” فتحية” ساذجة
لكنها سرعان ما تبدد غضبتي معتذرة
– لم أقصد
– ماذا إذن ؟
– أريدك “فتحية” أخرى
– ماذا أفعل ؟
ثم بعد هنيهة
– هكذا خُلقت !…
“علياء” مستطردة في تلاحق
– أعني تفكيرك ، نظرتك للأشياء حولك
كيف تتعاملين مع الناس ؟…
كيف ترصدين سلوكهم ؟…
الناس هنا ليسوا مثلهم هناك
طوال تلك الليلة لم تنم
ظلت ترقب القمر
ترصد تحركات السحب
تصادمها
ذوبانها
إنقشاعها
تلبدها
حجبها لضوء القمر والأنجم
كأن صفحة السماء خشبة مسرح
يصطرع عليها أناس يمارسون شروط لعبة الحياة !!؟…
* * *
ما كان لقاءاً عابراً
لم ترتبه قصدية
ليس من صنع الصدفة
لعه تجاذب أرواح حتمي
كلقاء النيلين رغم تباعد منبعيهما !!؟…
قال لها
– أنت “فتحية مرجان” ؟…
قالت له بدهشة
– أنت “الفاتح سلمان” !…
كأن كليهما يبحث عن الآخر
كبحث الصادي في الأرض اليباب عن مدن السراب …
كانت برفقة صديقتها “علياء”
كان في معية أنواته
دعاهما لاحتساء فناجين “الجبنة” تحت تعريشة إحدى مقاهي منتزه “مقرن النيلين” …
إعتذرت “علياء” في الحال
لكن لدهشتها قبلت “فتحية” الدعوة دون تحفظ …
كان مشهداً مشهوداً
ثلاثتهم يجلسون على “البنابر”
يلتفون حول صينية “الجبنة”
تحوط قاعدتها “وقاية”
تعلو فتحتها “ليّفة”
ظلوا هناك يرتشفون قهوة البن المحوج في صمت و إنتشاء …
بغتة إستشعرت “علياء” غربة جارفة كمفردة مبتسرة في سياق نص شعري
كادت أن تنسحب ولو فعلت ما أعارها أحد إلتفاتاً
لعل ما إستبقاها فقط إحساسها بالمسؤولية تجاه هذه القروية التي بدت لها كأنها “فتحية” ثالثة !…
تجاوزت كثيراً “فتحية” الثانية التي خططت لبنائها …
هذه “بنية” مختلفة !…
نسيج مغاير
صيغة متمردة
فرسة جامحة
لا قبل لها بها !!؟…
بعد حين لم تطق صبراً
إنتزعتها إنتزاعاً من بين فخاخ هذا الغريب !….
كان رذاذ المطر شفيعها
بينما “فتحية مرجان” الثالثة تقاوم
ظلت في ذات الوقت تحتضن اللحظة
حينما لامس كفها كفيه
قابضة على أجنحتها
كانت دفقة شعورية
حارقة
جارفة
طازجة
لم تعهدها من ذي قبل
أدركها النداء
وهي بعد تخطو الخطوة الأولى
لا تخشى الفرار
لكنها ترهب الإستجابة
* * *
منذ ذلك المساء
ظل “الفاتح سلمان” مضاعاً
بدت له بعيدة و قبض ريح كمدائن السراب !!؟….
بل تجريداً لأمانٍ عذبة وهمية
ربما نقطة تلاشي
لكنه لم يقنط ….

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..