نائل اليعقوبابي.. من أين لك هذه الشفافية الجارحة؟!

[CENTER][/CENTER] [CENTER]
الدكتور نائل اليعقوبابي[/CENTER]

أسند كالملهوف صوته المتهدِّج الحزين وأطلق لمفرداته العنان، رافعاً آهاته وزفرات صوته ليبلغ العالم أجمع عن الحزن الذي ولَّده مَن قال له يوماً:”أما آن لهذا الحزن أن يترجَّل عن القلب ..
قبل أن تذوي زهرة العمر.. و تتصَّدَّع الروح… وتتناثر الأحلام فوق أرصفة البهاء..‏
أما آن لهذا الصمت أن يرحل عن مدننا.. وفضاءاتنا.. وسنابل قمحنا. وعشّاقنا.. قبل أن نرتمي تحت أقدام الشياطين.. ونندسُّ خوفاً في جحور الذّلِّ والخنوع.. ونتحوَّل إلى هياكل تأنف الديدان من الاقتراب منها في زمن الندامة والتَّشفّي..‏

وهو في غمرة انتظاره المرِّ، يعلن تلك الصَّيحات المتوالية باحثاً عنه بلوعة الغريب الذي تصعقه الغربة الجارحة ملايين الجروح، تاركة نزف مفرداته يسيل شوقاً كما الأمل المُضاع على حافة القلب.‏
” متى تأتي؟؟‏
لتقرأ آخر الأسفار‏
عن مدنٍ‏
نطاولَ ليلها دهراً‏
وأضحت في مهبِّ الرِّيح../ تائهةً‏
بلا قلبٍ..‏
بلا روحٍ..‏
بلا صوتٍ‏
متى تأتي؟..‏
لتبدأ رحلةَ الميلاد‏
من موتٍ إلى موتِ‏
والشَّاعر في غمرة تساؤلاته اللامنتهية لا يبرح أن يخبر صديقه المحزونِ كذلك عن ما آلت إليه الأحوال من تغيِّر وتفكك ويبثّه من ألمهِ ما يساوي ألمَه حزنه:‏
فقد نامت‏
ذئاب الشَّارع الخلفيِّ‏
قد نامت‏
كلاب الحيِّ…/ لا أحد‏
سوى ليلى../ تناديك‏
وأنت الذاهل الولهان… لا تسمع‏
فتسأل عنك كلُّ بيادر الصمت‏
وتسأل عنك‏
كلُّ نوافذ البيت‏
وتقرأ..‏
شعركَ الموزونَ للنسوة‏
وأنت تمارس القسوة‏
و لا تسمع…‏
لأنك كنت محترقاً‏
بنار الشِّعر…/ والقسوة‏
وما من شيء تمنحه ? سوى الأشعار‏
للأحباب.. إن ديناً..‏
وإن رشوة.‏
وصورة الصَّديق الحبيب لا زالت ماثلة في قلب ووجدان الشاعر حيةً أبداً لا تفارقه ولا تبارح مكانها من قلبه فهو الغائب الحاضر دوماً في ثنايا الروح والوجدان، بصورته الجميلة وهمته العالية وأنفاسه المتصاعدة وصوته المتهدِّج، صورة حقيقية له بكلِّ معانيها وأطيافها، في الصحو والخجل، في الحضور والغياب، في ثورته على المفردات التي يبعثرها قصائد على مرِّ الكلمات ليكن لها عنواناً وتكون له قصيدة:‏
/ جميل أنت في منفاك‏
جميل أنت إذ ألقاك‏
جميل أنت.. إن تأتي‏
وإن ترحل‏
وإن تصحو‏
ولا تخجل‏
لأنك سوف تبدعها‏
قصائد شعرك الأمثل‏
تفجِّرها../ تشوِّهها..‏
تبعثرها.. / تشتتها‏
فلا أحلى ولا أجمل/.‏
والشاعر في قصيدته لا يترك مكاناً منها إلا ويسأل عن صاحبه في مفرداتها وبين سطورها وضمن معانيها، نجده دائم البحث، دائم السؤال علَّه يجد مل يبحث عنه:‏
/ متى تأتي؟..‏
إلى ليلى التي أحببتها أبداً‏
لتنقشَ فوق خديها‏
عهوداً لا تفارقها‏
لكي تنسى‏
زماناً، كنت تسجنها‏
بقلبٍ مشرعٍ أبداً‏
فلا يغلق‏
وتبحر بين عينيها‏
تُطارد نظرة مجهولة الأبعاد‏
في صمتٍ‏
بلا زورق‏
متى تأتي‏
ولن تأتي‏
لأنك صرت لا تدري‏
بأيِّ زجاجة تغرق/.‏
هذا التكرار والاستفهام يدلنا أنَّ الشاعر يبحث بصدقٍ عنه، فهو ما انفكَّ وما فتىء يسأل ويبحث ويبحر في المعاني باحثاً عن مبتغاه وذلك من خلال التكرار الذي لمسناه واضحاً في ثنايا القصيدة والذي لم يؤثِّر على بنائها الشعري بل زادها قوَّةً ومتانة.‏ القصيدة هنا تدلف مجاهل السرد، تفضح كمائن اللغة، وكمائن النفس، وكمائن المكان، وكمائن الزمن. نائل اليعقوبابي يترك نفسه لفضاء الصرخة “صرخة الكون” في نص لا يمكنك إلاّ أن تقرأ..! تمني نفسك بمتعة وقت يدنيك من أسرار العالم وأسرار النفس. يعطيك ألذ ما في الدهشة.
الشاعر في قصيدته “الانتظار الصعب” يبحر ويغوص في عوالمه الداخلية يبحث بين ثنايا عقله الباطن عن تلك اللحظات التي جمعته بصاحب المفردات التي كتبها لأجله فلا تسعفه الذاكرة بشيء قدر المفردات والمعاني والخلجات التي فاضت به قريحته حباً وصدقاً ووفاءً، وقد دلَّ على ذلك حروف الهمس التي بدت واضحة من خلال المفردات الحزينة والآهات المشتعلة والقوافي التي تدلُّ على اللوعة مثل/ صوت، موت، صمت، بيت،/، وحروف الروي الدافئة الحزينة التي نسمعها بين ثنايا المفردات الحزينة حين يقول:/ يغلق، زورق، تغرق/.‏
وقد بدت مفردات الشعر في القصيدة واضحة جليةً للعيان لا يحتاج القارئ أو المستمع إلى قاموس ليتعامل معها، بل كان لصدق معانيها وألفاظها والمشاعر الموجودة فيها خير دليل على صدقها،‏ وقد برهن قدرة اللغة الهائلة في صنع ذاتها والغاء ذاتها كما برهن قدرة الشاعر في خلق اللغة الى ما لا نهاية.
الشاعر الدكتور نائل اليعقوبابي بدا من خلال قصيدته ملفوفاً بالحزن والهمِّ كصاحبه المحزون الذي يبحث عنه، فكلاهما في الحزن واحد، وهما في الحزن قصيدة، الذي أعلن في بدايتها: “أما آن لهذه الغربة أن تعلن عصيانها وتغادر أوطاننا إلى بلاد لم يمسها الضوء، ولم تتكئ على جدرانها الشمس والأغنيات”.‏
من أين لك هذه الشفافية الجارحة؟ شدني إلى قصائدك هذا التوهج الرائع وهذا الصدق النادر المصحوب بحماسٍ طفولي جميل لحب الشعر والذوبان في كونه وقد أذهلتني هذه اللغة الشعرية المتمكنة الشفافة التي تصدر عن روحه العاشقة المعذبة دون تكلف أو تصنع، ولأنه مخلص لتقنيات القصيدة الحرة التي أبرزته صوتاً شعرياً متميزاً ذا فرادة ونكهة خاصة.. وما ديوانه هذا إلا إضافة حقيقية في
سلم تطور شاعر راح يزاحم كبار الشعراء بمنكبيه.
وهو وافر العطاء ويتمتع بموهبة واعدة.
لقد قال بابلو نيرودا لناظم حكمت: أنك بهذا قد اجبت عنا جميعاً. وأنا أقول هذا لليعقوبابي.
—————————–
الدكتور/ فتح الرحمن البشاري
جامعة العلوم التطبيقية/ المملكة الأردنية الهاشمية

تعليق واحد

  1. شكرا فتح الرحمن فعلا د/نائل وعد وفتح وذخيره عامرة الوجدان للانسان انه الحزن العام والخاص انها كنوز انسان السودان المشتت والموزع بغير انتظام كالسيف مجوهر من غير نظام قالها صلاح للطير للمهاجر داخل فاصبحنا بحكمة نبي كلنا نحترق لوطن لا نلقاه ولغربة لا ترحم شكرا علي الاضاءة وواصل في هذا العطاء الممتد فنائل يستحق اكثر مع وافر العطاء الشكر لك وله مع محبتي !!!

  2. الدكتور نايل طاقة خلاقة يرجى منها الكثير، وهو من خيرة شباب السودان المكافح المقاوم بالقلم والكلمة.. نايل كاتب مبدع اصدر العديد من الكتب/ وهو كاتب منوع واستاذ جامعي له بصماته في الجامعات السودانية والعربية/ ونحن من درسنا على يديه/ شكراً دكتور البشاري وهنئياً لنائل وإلى الأمام.

  3. الدكتور نائل ، رغم اختلافي معه في بعض الافكار ، الا انني اقر واعترف بأنني من اكثر محبي كتاباته في الراكوبة الغراء وهو قلم اكثر من مبدع وبصراحة لم اقرأ له هذا الكتاب او (الديوان) المرفقة صورته اعلاه، ولكن تكفي هذه الابيات الشعرية الجميلة الرائعة لتجعلك تزداد لهفة وشوقا لقراءته واقتناءه ، وهو مبدع في النثر والفلسفة كإبداعه في شعره ، واجمل مافيه انه من الرموز الادبية المنحازة للشعب السوداني في ظلمه وحسرته في ظل هذا النظام . فله التحية والتقدير وللكاتب الذي نبهنا بمثل هذا الكتاب.

  4. أولاً نشكر د. البشاري على هذه الإضاءة هذا ما أعرفه عن نايل شهادة للتاريخ
    لم اجد شخص في ثقافته وفصاحته. أصغر طالب يحصل على درجة الدكتوراه وكان عمره 25 عاماً دكتوراة دولة طبعاً من جامعة نيوكاسل وهي في الاقتصاد والعلاقات الدولية وانتقل إلى الهند لجامعة مدراس وكان استاذناً خلوقاً، محباً للسودان وإنسانه، كما ادهشني براعته في اللغة الروسية والصربية، ومتمكن من الكتابة والتعبير بهذه اللغات، آخر مرة رأيته فيها من سبع سنوات أو أكثر كان محاضراً في أكاديمية العلوم الروسية، وهو من مؤسسي قناة روسيا اليوم. نايل مبدع حقيقي، لكن للأسف السودان لا يقدر المواهب ولا الإبداع وهو يعيش في منفى اختياري منذ ثلاثون عاماً ويزيد.. نايل حرام لا يلتفت إليه إلاّ في إضاءات بسيطة، لذا شكراً للدكتور فتح الرحمن فعلاً هذا المبدع يستحق الكثير منا، وهو الذي ملأ وجداننا إبداع وعلم وثقافة.. بالمناسبة نايل قاص وشاعر وروائي، وطبعاً هو من عائلة صوفيه معروفة بالزهد والتقوي، وهو صاحب أطول لسان في التاريخ وممكن يحول أي شيء عادي إلى لوحة زاهية الألوان. معليش أنا لا أجيد التعبير مثل الأساتذة الذين سبقوني، وأرجو من كل من يقرأ كلماتي أن يبحث عن موسوعة قصصية مكونة من ألفي2000 صفحة تصور الحياة السودانية وبالذات مجتمع القرية اسوداني، ولو نايل لم يكتب غيرها لدخل موسوعة الأدب السوداني والعربي.
    شكراً بروف البشاري.
    كلمة لنايل الصديق والزميل أينما كنت.مبدعٌ مثلك لا يحتاج إلى كلام مثلي ( ولكن ما بداخلي هو) دمت مبدعاً.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..