إمتاع و.. مؤانسة!

*(ظننت أني مخطئ فإذا.. أفعال كل بني
الدنيا كأفعالي..).
– المعري-
.. كنت هائماً في الطرقات بحثاً عن شيء يساعدني على تمضية وقت مظلم للغاية.
و.. كنت أحسّ بأن ثمة جيلاً يغط في نوم عميق على صدري في تلك الليلة.‏
وقفت عند تقاطع مستشفى رويال كير في منطقة امتداد ناصر المزدحمة بنساء (كما أشتهي)، وحيث تفوح رائحة الياسمين والكابريت!.
لم يأت صديقي وكان لابدّ من عودة بائسة إلى غرفة رطبة وإلى فراش بارد جداً في جو خريفي سديمي(!) ‏
كتبت على الجدار كم أنا مستوحش وحزين في هذه الليلة..
كنت استعرت كتاباً وضعه الدكتور إحسان عباس عن (أبو حيان التوحيدي) وكان قراءة ومراجعة لبعض ما جاء في (الإمتاع والمؤانسة) بما فيها إشاراته حاملة الأجوبة عن أسئلة في ذاك التاريخ القديم‏.
في تلك الليلة لم أجد ما يمتع ولم أقرأ ما يجعلني قريباً من المرحوم التوحيدي.
وفي اليوم الثاني قال صديقي (سيأتيك يوم تعرف جيداً من هو أبو حيان)؟
و.. هذا ما ستأتي به الأيام. ‏
قبل أيام نشر موقع (الأوان) الالكتروني دراسة للأستاذة (نعم الأستاذة هالة أحمد فؤاد) عن ظاهرة الوسيط الثقافي. ‏
تقول: ان من الظواهر الهامة واللافتة في مجالس وندماء وجلساء صاحب السلطان في القرن الرابع الهجري (ظاهرة الوسيط الثقافي) وهؤلاء الوسطاء هم الذين كانوا يهيمنون فعلياً على مجالس النخب الاجتماعية حيث يرجع إليهم اختيار الجلساء والندماء في أحيان كثيرة (وهم أصحاب التزكية والتجريح) بلفظ التوحيدي وواضعو معاييرهما(!) ‏
و.. بالطبع يلعب هؤلاء دوراً أساسياً وهاماً في حالة المثقفين الفقراء والمهمشين من أمثال (أبو حيان التوحيدي).
تقول الدكتورة هالة فؤاد ان هؤلاء الوسطاء هم وحدهم من يملكون خيوط اللعبة ويعرفون كيف يمارسونها بمهارة عالية (000) وان هذه الوضعية التي تجلي وجهاً من وجوه تراتب الهيمنة القمعية داخل مجالس النخب جعلت هؤلاء (الوسطاء) يمارسون حق الحياة أو الموت على المثقفين البؤساء الذين وقعوا في قبضتهم ومدّوا أيديهم يستجدون الرعاية والرحمة والنعمة (!) ‏
كأن شيئاً لم يتغيّر منذ ألف عام يا صديقي!
أليس كذلك؟ ‏
قبل أيام قليلة قرأت مقالة (تحفة سياسية) في كوميديا سوداء للدكتور أسعد أبو خليل بعنوان (من يساري سابق إلى يساري سابق) موجهة إلى المستشار السياسي والإعلامي لقطب المال اللبناني يقول فيها بلغة ساخرة (يا صديقي أنا مستعد كي أكون شاهد زور إذا أردتم؟) وذلك في لهجة احتجاج غاضبة جداً على تحولات يساري من (مناضل) إلى حامل حقيبة من أجل حفنة دولارات (!) ‏
و.. هكذا نجد أن ما يفصل بين ألف عامل ولحظة راهنة مجرد خيط رفيع!! في الحياة العربية.
ومادام الحديث عن (التوحيدي) فإن هناك من لا يميل إلى وصفه بالمثقف الشريف في أمانه أو كريم النفس القانع الذي لا يضيق بفقره بل يضيق بغبنه الأدبي.
تقول الدكتورة هالة فؤاد انه لو تتبعنا رسائل التوحيدي إلى الشيخ (أبو الوفا) المهندس بصورة سافرة أو مضمرة لاكتشفنا ما يدحض صفات عن التوحيدي هي أقرب إلى القراءات المعاصرة.. ‏
و.. هكذا نقف عند علاقة متوترة بين المثقف والسلطان وهي تنوس بين حاجات هالكة وبين قيم معرفية (!) ‏
وفي (أبو حيان التوحيدي) للدكتور إحسان عباس نقرأ انه كان يكره (العامة من الناس) شأنه في ذلك شأن (مثقفي عصره) إذ أن كثيراً منهم أطلقوا لفظ (الحمقى) على القائمين بعمارة الدنيا وان بعضهم قال (لا تسبّوا الغوغاء فإنهم يخرجون الغريق ويطفئون الحريق ويؤمنون الطريق) و.. لكن ماذا حدث للتوحيدي؟ ‏
عندما أغراه الوزير ابن سعدان بأن يحترف القصص للعامة ردّ عليه بقوله ان (وطلب الرفعة بينهم ضعة والتشبه بهم نقيصة) وذهب إلى القول إن انقطاعه للعامة يفوّت عليه مجالسة أهل الحكمة (!) ‏
و.. لكن عندما تمكنت صلته بالوزير ابن سعدان أصبح التوحيدي يعطف على العامة ويقدّر مصالحهم وكان الدافع في هذا التغيير رغبته في أن يغرس محبة الوزير في قلوب الناس (!) ‏
و.. هكذا ـ مرة أخرى ـ نرى المثقف منذ ألف عام وكأنه لم يتغيّر حتى لحظتنا الراهنة (!)
السؤال المهم الآن: أما آن لهذا العصر الكئيب أن ينتهي؟!.
آخر القول:
رأيتُ دُنوَّ الدارِ ليسَ بنافعِ ‏
إذا كان مابينَ القلوبِ بعيدُ
-أبو نواس-

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..