صلاح إبن البادية آخر معاقل الجمال فى بلادى

بالنسبة لى ? أسوة بالكثيرين ? يعد صوته واحدا من روافد الجمال الكبرى فى الكون ، ظل كذلك منذ دقت حوافر خيوله ليل المدينة فى أواخر خمسينات القرن الماضى ، و لا يزال صوته يختصر أنين السواقى و هسهسات الحلق الخجول على آذان بنات الكواهلة فى البادية ، لم يتعري صوت فتور ، و لم يتغير مذاقه ، ينساب كماء النيل ، ويتمدد على سهوب بلادى كما شعاع الشمس .
ولد صالح الجيلى أبو قرون فى العام 1937 فى أم دوم ، و ما بين إسم صلاح الذى كانت تطلقه عليه أمه ، و إسم صالح الذى كان يؤثر أبوه أن يناديه به ، ترعرع الصبى فى بيت صوفى شهير فى السودان ، و مثلما تتنسم الجزر المبعثرة فى النيل شيئا من نسائمه تنسم الصبى أماديح الصوفية فى مسيد جده و أبيه . كان الصبى صالح يرتدى جلبابا أخضرا و طاقية ذات قرون فى حلقة الذكر لتسافر روحه ثملة بخمر القوم فى ساحة تئن فيها النوبة و ترن ( ثم ترفض هديرا أو تجن ، و حواليها طبول صارخات فى الغبار ، حولها الحلقة ماجت فى مدار ، نقزت ملء الليالى تحت رايات طوال ، كسفين ذى صوارى ، فى عباب كالجبال ) . ومثلما استفاد ” عثمان الشفيع ” ذات زمان من حلقات السادة الختمية فقوى صوته و صار أخضر الصهيل ، كان صوت الصبى صالح يختزن عافيته من ترديد الأماديح فى باحات مسيد أبيه ، و لطلما شهد ميلاد كثيرات منها على يدى أبيه الشاعر و المادح ذى الصوت الندى الذى سينتقل لاحقا عبر قنطرة البركة الى حنجرة الإبن ، بل إن صالحا كثيرا ما شارك أباه الشيخ فى صياغة كلماتها . و مضت السنون الأولى فى حياة الفتى فى كنف أسرته المحافظة تلك و تشبعت ذاكرته بأصوات و صور و أنغام ستشكل فيما بعد ركيزة يستند عليها صلاح بن البادية الفنان العبقرى ذو الصوت المتفرد و المقدرة الهائلة على حياكة ألحان تهدهد الأرواح . بدأ صلاح فى حفظ القرآن لكنه أصيب بمرض أثر على ذاكرتة فى صباه فترك أم دوم و استقر فى شمبات و لعل لطبيعة شمبات الخضراء دور فى تشكيل ذاكرته الجمالية .
عشق الصبى صالح الغناء سرا ، فما كنت بيئته الصوفية لتسمح لإبن الخليفة أن يصبح ” مغنواتيا ” . كان الصبى ” صالح ” يردد أغنيات العباقرة الكاشف و وردى و عبدالعزيز داؤود لكن ظل حسن عطية مطربه المفضل إلى يومنا هذا . عرف عن “ود البادية ” إعجابه برائعة ” الأوصفوك ” التى كان يترنم بها خضر بشير من كلمات ود عتيق وطفق يرددها مع بضعة أغان تراثية لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة و ذات يوم سمع الطيب صالح بأنه ثمة فنان جديد يتمتع بصوت طروب ? وكان حينها الطيب موظفا فى البى بى سى و كان يقدم الى السودان لتسجيل حلقات مع المطربين ، و بالفعل اقنع صلاح و تم تسجيل أغنياته القلائل ووجدت الحلقات عند اذاعتها صدى واسعا . سعى المسئولون فى الاذاعة السودانية ?وكانت تنظم حينها حفلات جماهيرية بصورة متواترة فى المسرح القومى ? إلى اقناع الصوت الجديد بالمشاركة و بالفعل شارك صلاح و وجد صوته الطروب صدى واسعا بين الناس وكان ذلك فى العام 59 . أطلق صلاح على نفسه لقب ” ابن البادية ” و لعل بركات ” البادية ” لحقت بالصوت العظيم فأمدته بقوة و صفاء و عذوبة لا تكاد توجد إلا لدى القلة من مطربى العالم و لا أقول السودان فقط . و لاختيار لفظة البادية سبب محدد فقد كان صلاح يمتهن الزراعة فى صباه و شبابه الباكر . ذكر صلاح أن والدته كانت على علم بانه غنى فى الاذاعة وكانت تخشى أن يعلم أبوه ، و حين تم بث أغنيته الأولى قالت لزوجها بخبث ريفى أبيض ” ما أشد جمال هذا المغنى ! ” فنظر إليها نظرة فاحصة و قال بهدوء و رزانة ” تقصدين صوت صالح إبنى ؟ ” ، حينها علمت الأم أن زوجها قد تعرف على صوت إبنه بسهولة ، لتبدأ صفحة من أكثر صحفات الطرب الأصيل وسامة فى الكون .
ظل صلاح بن البادية يردد أغنياته القليلة تلك حتى عثر على نص أغنية “صدفة غريبة ” منشورة فى مجلة الاذاعة و التلفزيون و لحنها و أداها دون أن يرجع إلى شاعرها محمد يوسف الذى سعد جدا حين سمع لحن صلاح لتبدأ بينهما رحلت نغم وارفة الظلال أثمرت عددا من حسان الأغنيات أبرزها ” كلمة ” و ” فات الأوان ” ، و لينطلق بعدها صلاح حصانا وسيما لا يلجم .
ذات جلسة دانية القطوف فى بيت الموسيقار السنى الضوى أنبأنى عن لقائه بالشاعر العظيم محجوب سراج فى هيئة البريد و البرق . كان الشايقى العبقرى ، ابن نورى الجميلة ? السنى الضوى ? يحمل عوده ويترنم بمقطوعته التى سماها عواطف على اسم زوجته الحسناء حين تعرف بمحجوب سراج الذى أقنعه بتسجيل المقطوعة فى الاذاعة . بعد فترة وجيزة وقف صلاح بن البادية صادحا برائعة ” لو نعيم الدنيا عندك أحرمينى ” للمعتق محجوب نصا و للسنى لحنا ، و لتسكر ليالى عشاق الخرطوم فى الستينات مع صلاح و صوته الحرير يهدهد المفردة الجديدة ” أنا يا ضناى يا وهج أشواقى الحبيسة / جرحى أصبحى ما بسيل لو تجرحينى ، وليتحول صلاح ?بصوته الرقراق كماء النيل و وسامته العظيمة ، إلى فتى أحلام أجيال متعاقبة فى السودان و الشرق و الغرب الإفريقيين . بل ذكر إنه عرض عليه فى الستينات أن يستقر فى بيروت ? و كان قد ذهب إليها ليحيى حفلات للطلاب السودانيين هناك ? مقابل أجر عظيم ليعمل مغنيا فى بار ليلى و هى خطوة كانت ستفتح أمامه آذان العواصم العربية ، لكن ما كان لسليل النوبات فى أم دوم أن يغنى و راقصة شبه عارية تتأود أمامه ، فرفض العرض و عاد الى السودان .
قدم صلاح الأعمال الكبيرة مثل ” يا جنا ” لهاشم صديق و كلمة ” لمحمد يوسف موسى ” و تعال يا ليل و فوت يا نهار ” للصادق الياس و غيرها ، كما قدم الأغنية الخفيفة الراقصة مثل ” صدفة ” و أغنيات السيرة . تغنى صلاح لشعراء كثر أذكر منهم محمد يوسف موسى و مختار دفع الله و مبارك المغربى و أبو آمنة حامد . بل إن صلاحا ? مدفوعا بثقافته القرآنية التى وسعت مداركه ليستوعب كل نص جميل ? غنى لشعراء غير سودانيين مثل الفلسطينى أحمد القاضى الذى تغنى له ود البادية برائعة ” ليلة السبت ” .
نجاح مشروع صلاح بن البادية الفنى يدين لعوامل كثيرة أهمها على الإطلاق صوته العظيم . فقد حباه الخالق العظيم بصوت غاية فى العذوبة حتى إنه ليضرب به المثل لدى دارسى الصوت باعتباره صوتا يتمتع بما يتعارف عليه علميا بذى ” الحليات الطبيعية” إذ تسافر فى صوته أصداء صلوات قديمة و أشجان مسافرين يغادورن أوطانهم إلى آفاق مجهولة .. و رغم تقادم السنوات فلا يزال صوت الرجل ينثر فرحه كما نوافير وسيمة فى سماوات الخرطوم ، اذ ظل صوته بذات الصهيل القديم ، و ذات العنفوان القديم و لعل لحياة صلاح المستقيمة ? بفعل تربيته الدينية ? دور كبير فى ذلك . سمعته مرة يقول ان السودان بعث به ممثلا فى مهرجان يدعى مهرجان الروح فى الهند حيث تلتقى كافة الطوائف الدينية فى العالم من مسلمين و هندوس و دروز و زرادشتية و عبدة نار و غيرهم للتغنى بمعتقداتم . وقف صلاح بينهم و بدأ فى نثر تراتيله فاذا بكل بالقوم و بمختلف مشاربهم الروحية و قد اصغوا الى هذا الصوت القادم من فضاءات شاسعة الدروب ، عبقرية الحضور . وبجانب حلاوة و طلاوة الصوت اشتهر صلاح بقوة صوته و قدرته الهائلة على التحليق فى أقاصى تستعصى على الكثيرين ، و لعل رائعة ” سال من شعرها الذهب ” تشكل مثالا صادحا على ذلك و أذكر أن لجنة اجازة الأصوات فى برنامج ” نجوم الغد ” أستخدمتها كاختبار لفرز الغث من السمين بين المطربين الجدد . و بجانب طلاوة الصوت يتمتع ود البادية بحضور مسرحى عال ? هو الذى مارس التمثيل فى بعض أوقات حياته ? فتجده يجسد معانى كلمات أغنياته بخجلات وجهه و حركات يديه ، راسما صورة متكاملة لما يتغنى به . أيضا عرف صلاح بأنه ملحن لا يشق له غبار ، فلحن الكثير من أغنياته لنفسه و لعل فى هذا سر من أسرار نجاحه أيضا فالرجل يدرك تماما قدرات صوته الهائلة و هو لذلك يضع ألحانا تبرز تلك القدرات .
تعامل صلاح من زملائه الفنانين فاخذ منهم ?كما فى حالة أغنية ” أيامك ” التى لحنها له الفرعون محمد وردى ? و أعطاهم مثل رائعة ” طير الرهو ” و يحفظ له تاريخ الغناء فى السودان بأنه هو الأب الروحى للراحل الأمين عبدالغفار كما لعب دورا كبيرا فى ظهور الفنان الراحل محمود عبدالعزيز .
قدم صلاح عشرات الأماديح الجميلة و لعب صوته الطروب النقى دورا عظيما فى تحبيبها للناس و هو يمارس فن المديح النبوى بصورة مستمرة فى مسيد أبيه ، ولا يجد تعارضا بين ذلك و بين امتهانه الغناء العاطفى . تغنى صلاح للوطن بأغنيات غاية فى الجمال مثل ” يا جنا ” لهاشم صديق و ” حب الأديم ” للراحل ” مبارك المغربى ” و غيرهما ، كما تغنى بكثير من الأغنيات ذات الطابع التأملى مثل ” محرب الحب ” لإسماعيل خورشيد و هى من بداياته الأولى ، و أغنية ” الهدف ” التى تغنى بها فى ثمانينات القرن الماضى ، بجانب أغنيات السيرة التى اشتهر بها سيما فى بداياته مثل ” الليلة ساير يا عشايا ” و غيرها .
اشتهر صلاح بصراحته و لا محاباته فى كل ما يتعلق بالفن فهو من أولئك الذين يتعاملون مع الغناء برهبنة و مسئولية و له تصريحات نارية استهدفت بعض الطفابيع الجدد الذين يحترفون تشويه الغناء السودانى الأصيل و الإقتيات على موائد إبداع من سبقوهم .
و رغم شهرته التى طبقت الآفاق فقد ظل صلاح رجلا بسيطا متواضعا يختلط بالناس و يودهم ? هو صاحب الضحكة المجلجلة الشهيرة ? و يتمتع الرجل بسلام داخلى يقطر من سمته الطيب و لعل لنشأته الدينية المستقيمة قصب السبق فى عصمته من عثرات كثر تكتنف حيوات النجوم .
عزيزى العملاق صلاح ابن البادية : أطال الله فى عمرك فأنت آخر قلاع الجمال فى بلادى .
………………
مهدى يوسف ابراهيم
( [email][email protected][/email] )
جدة
16 أغسطس 2015

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..