تربية الوهم وصناعة الجوع

منطق الأشياء يقول أن من يفشل في إدارة الشئون السياسية والاقتصادية، عليه أن يرفع الراية البيضاء.

د. الشفيع خضر سعيد

وإذا تساءلنا لماذا يسعى الناس، أحزابا وأفرادا، إلى السلطة والحكم، قد نسمع أو نقرأ عشرات الإجابات، ولكننا، في الغالب، سنهتم بثلاثة إجابات نرى فيها الأساس والجوهر: الإجابة الأولى، إنهم يسعون لتنفيذ رؤى وتصورات، أو آيديولوجية، معينة يؤمن بها طالب الحكم والسلطة، ويراها الوجهة المشروعة، وربما الصحيحة دون سواها، للتغير والتطوير. والإجابة الثانية هي، إفتراض الحاكم أنه الأجدر والأصلح لتحقيق أحلام الشعب في الإصلاح وتأسيس العدل وتنمية البلاد. أما الإجابة الثالثة، فهي لا يعترف بها، بل يتم نكرانها بشدة، لذلك هي لا تنطق بها شفاه المتحدث وإنما تترك لضميره وتقدير السامع. وتتمحور هذه الإجابة في البحث عن المجد الشخصي وزراعة وتربية الأوهام، ثم محاولة تجسيدها. وغالبية الذين يسعون للحكم، أو يحكمون فعلا، يبشرون علنا بطرح يجمع ما بين الأجابة الأولى والإجابة الثانية. ولكن الممارسة الفعلية والتجربة العملية هي وحدها المحك الذي سيحدد ما إذا كان هذا الطرح حقيقيا أم مجرد إدعاء كاذب يخفي أن الأقرب للصواب والحقيقة عند هولاء ربما كانت الإجابة الثالثة. وفي السودان، نحن الآن نعاين أوضاع نظام ظل يحكم البلاد لما يقترب من ربع قرن.

وبما أنني لست في موقع المفتش عن الضمائر، بل وأرفض ذلك مطلقا، لا أستطيع القول إن كان قادة هذا النظام ينامون كل ليلة، نفوسهم راضية وضمائرهم مرتاحة، تجاه أدائهم في حكم البلاد! لكن، ما يمكنني قوله، وبكل ثقة، أن حكم الإنقاذ لم يحقق لا العدالة ولا التنمية ولا الرخاء، بل ولم ينشر إلا شريعة الغاب حيث فيها القوي شره آكل والضعيف مأكول. ومن هنا تساؤلنا البسيط: ما هي، من وجهة نظر نظام الإنقاذ الخاصة جدا، مبررات ومسوغات بقائه؟ ولماذا يريد أن يستمر في حكم هذه البلاد؟. لم يعد مقنعا أن ينبح النظام أن المعارضة لا تمتلك بديل ولا تستطيع أن تحكم. ولم يعد مقنعا إدعاء الدفاع عن الدين كمسوغ للإستمرار في الحكم، فببساطة، ليس من شيم الدين أن يبيت الفرد شبعانا ممتليء البطن، وجاره جعانا، ونحن رأينا كيف يبيت الحاكم شبعانا آمننا وأهل بلاده ورعيته يتضورون جوعا، ويبحثون عن الكهوف للإحتماء من القنابل والرصاص!! ورأينا بأم أعيننا الشباب يخرج منافحا رافضا لسياسات الغلاء والتجويع، أعزلا إلا من هتاف الحناجر، فتهجم عليه قوات أمن النظام بكل صلف وعنف تمنعه من حقه الدستوري في التعبير عن غضبه وعن رفضه لسياسات الحكومة، وما أدراك ما سياسات الحكومة.

إن الأزمة المالية العالمية التي أربكت الدول الرأسمالية الكبرى، إضطرتها لإعادة النظر في بعض جوانب إقتصاد السوق، في محاولة لكبح جماحه وإنفلاته، وذلك عبر تأميم المصارف وإعادة ترتيب أولويات توزيع الإستثمارات?الخ، وبذلك أعادت للدولة جزءا، ولو يسيرا، من إعتبارها ودورها في إدارة الإقتصاد. لكن، ورغم هذه الخطوات الإحترازية، خرجت الجماهير في وول إستريت ولندن وطوكيو وسدني?، محتجة ساخطة مركزة هجومها على البنوك ومستودعات المال، أي الشق المالي لرأس المال الحاكم والمسيطر. ولا حقا، ومن خلال صناديق الإقتراع، عاقبت جماهير معظم دول منطقة اليورو حكامها على سياساتهم الإقتصادية ومحاولات علاجها على حساب الشعب عبر إجراءات التقشف. وبالطبع، ما كان لتلك المعاقبة أن تتأتى لولا أن تلك الدول قطعت شوطا في إرساء دعائم الحكم الديمقراطي وترسيخ وجود مجتمع مدني ضارب في القوة، للوقوف في وجه وحشية السياسات الإقتصادية للشريحة الرأسمالية الحاكمة. وبالمقابل، نجد حكام بلادنا يصتنعون المسافات الشاسعة بين إدارة الاقتصاد وإدارة السياسة، في حين أن الواقع والتجربة الإنسانية ينفيان وجود أي مسافة كهذه، شاسعة أو غير شاسعة.

أما نظام الإنقاذ، فهو يحتكر الإثنين معا، السياسة والإقتصاد، ويمارسهما بنفس الطابع والطريقة، وهذه هي عقدة الأزمة نفسها. فالإنقاذ تتعامل في السياسة على أساس الخم والمغالطات، من نوع: نحن حماة شرع الله في الأرض لذلك تتكالب علينا المؤامرات الصهيونية، نحن دولة الإسلام لذلك يعادينا الغرب ويفرض علينا العقوبات، والمتظاهرون المعترضون على الإجراءات الإقتصادية هم في الواقع يريدون إقامة الدولة العلمانية، نحن الحزب الأصل، وصاحب الحق، ولكننا نتفضل ونفتح الباب للآخرين لكي يشاركوننا الحكم، ماداموا يقبلون بأن يستمروا ?تمومة الجرتق?!، أما الأعداء، فلهم بيوت الأشباح والحروب والضرب بيد من حديد للحفاظ على الملك. وفي الإقتصاد، وفي تناقض صارخ ومفارقة عجيبة مع موقفها المعلن تجاه الغرب ومؤسساته، وفي إنصياع سلس لقوى الاستكبار!، تستمع الإنقاذ، وربما على أساس أنها من أهل الشورة والنصح!، إلى نصائح/تعليمات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتنفذ روشتاتهما بحذافيرها، فتلغي دعم الحكومة للسلع الأساسية، وتزيد أسعار المحروقات، وتضاعف الضرائب، وتخفض قيمة العملة الوطنية، وتضاعف جمارك الواردات?إلخ، معلنة أنها تسابق الزمن لرتق عجز الميزانية، ومنع إعلان إفلاس الدولة، كما جاء على لسان السيد وزير المالية!. نحن، وغيرنا، نقول بأن عجز الميزانية وإفلاس الدولة هما من نتائج السياسة، لا غيرها: تداعيات إنفصال جنوب السودان في فقدان حوالي 30% من ميزانية الدخل، العلاقة العدائية مع دولة الجنوب مما نتج عنه حرمان البلاد من البترول وعائدات مروره عبر خط الأنابيب، تمويل الحرب الأهلية في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، حرمان البلاد من أي موارد من مناطق الحرب والنزاعات?إلخ.

نعم هي السياسة التي ربما لا يفهم بعض المتنفذين في المؤتمر الوطني علاقتها بالاقتصاد. ولكن للحكاية بقية: أين ذهبت عائدات البترول في زمن إندفاعه عبر ميناء بورتسودان إلى السوق العالمي، وعندما تخطى سعر البرميل حاجز ال 100 دولار؟ هل ذهب ذلك العائد لخلق مشاريع إنتاجية تدر عائدا جديدا، وتوظف عمالة أخرى، وتسهم في خدمة التنمية؟ هل ذهب لإعادة إحياء وتعمير مشروع الجزيرة والسكة حديد ومصانع الالبان والنسيج؟ هل تم إستثمار هذا العائد في توفير الخدمات الضرورية، من صحة وتعليم وتوفير مياه الشرب النقية?الخ؟. واقع الحال يجيب بلا كبيرة. فمع ذلك العائد المتدفق، يبدو أن الحكومة توهمت بأنها أصبحت ضمن نادي دول البترودولار، ولكنها إختصرت فقرات ذلك الوهم في الصرف البذخي على جهاز الدولة، بما في ذلك بناء العمارات الشواهق لرئاسات مختلف المرافق، وفي المولات الفارهة، وإغداق الأموال على المنتسبين والموالين والشركاء الجدد?، دون التمعن في ما قدمته وإستثمرته دول البترودولار، في الخليج العربي، من عائدات النفط لصالح بلدانها ورفع مستوى معيشة شعوبها?إنها سلوكيات الطفيلية، المستحوزة على خيرات البلاد لتتنعم بها هي وحدها، وحيث الدولة مصابة بداء الفساد في التسهيلات والعطاءات والتمكين واللهف والتصرف الفردي في الممتلكات العامة، ولم تسلم من ذلك حتى المقابر. أما غالبية الشعب فتعيش الإملاق، وشباب السودان هم إما في حالة حرب أو بطالة. وقليل من الإندهاش لا يضر: فحسب تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة في العام 2011، جاء ترتيب السودان ضمن المجموعة الأخيرة في ترتيب دليل التنمية البشرية، في حين أنه لا يزال يحتل المرتبة الثالثة في قائمة البلدان غير المستقرّة على مستوى العالم بعد الصومال وتشاد، وفقًا لمؤشّر الدول الفاشلة الصادر هذا العام 2012.

إن المتضرر الأول من سياسة رفع الدعم عن السلع وزيادة الأسعار والضرائب، هو المواطن الفقير، وكذلك متوسطي ومحدودي الدخل. فهولاء ستخنقهم الفاقة المتفشية أصلا وسطهم والمستوطنة عند غالبيتهم، وسيتمكن منهم البؤس تماما، في حين لن تتأثر الشرائح الإقتصادية العليا في المجتمع، والمرتبطة بهذا الشكل أو ذاك بالنظام، وبالنشاط اللإقتصادي الطفيلي. وما أعلن، ونفذ، من إجراءات الإقتصادية، بما في ذلك محاولات الحد من ترهل الهيكل الإداري الحاكم، لن تخرج البلاد من أزمتها، بل ستزيد الأزمة تفاقما، ما دامت هي بعيدة من أن تكون ضمن حزمة سياسية متكاملة. أما العائد من كل هذه الإجراءات فستبتلعه مباشرة الحرب الأهلية المستعرة وتبعاتها المزلزلة. الأزمة أعمق من أن تحل حلول قشرية?إنها تستدعي تغييرا شاملا في الحكم، منهجا وسياسات ومنفذين. فأي معالجة للإقتصاد تبدأ بالسياسة، وأي أزمة إقتصادية نبحث عن جذورها أولا في السياسة. ومنطق الأشياء يقول أن من يفشل في إدارة الشئون السياسية والاقتصادية، عليه أن يرفع الراية البيضاء.

الميدان

تعليق واحد

  1. تصورات ورؤى منظومة الانقاذ وزمرته
    هى لله هى لله لا لسلطه ولا لجاه ومعنها ايناء الالهه واحفاد القرود
    العجبو معنا والماعجبو يشرب من البحر ويلحس كوعه؟
    كلكم ؟
    بياغ ترمس +شحادين قبل ما يجى الانقاذ+ حشرات + اشذاذ افاق + عملاء ووخونه …..!؟
    جزاءك المهازل يا وطن.

  2. المدعو نافع الذى ينعت خصومه بقرود الطلح والحشرات وغيرها من النعوت سيعرف قريبا ماذا تعني ارادة الشعوب المقهورة ..

  3. من يعترف بفشله يرفع الراية البيضأ فهو إنسان شريف و ذو ضمير لم يرتكب فساد يحاسب عليه أما الذين سرقوا أموال الشعب و إرتكبوا المجازر و ملؤا السجون بمن كشف حقيقتهم و هلمجرا لن يرفعوا راية بيضأ لان أيديهم إتسخت

  4. يا اخوانا بس لو وظفت 2 فى المية من عائدات البترول لصناعة الطاقات البديلة والطاقة الشمسية وتوطينها, كنا نكون وين؟

  5. الشفيع خضر تحياتي

    اتمنيت اي كاتب سوداني يساعدنا بحساب بسيط في الاقتصاد ويورينا
    محسوبية بتاعت متوسط دخل يعني الواحد راتبة 1000 جنية في الشهر وانا قصدت اخد متوسط عالي شوية عشان نقدر نقيم مصاريف المدارس حلة الملاح الدكتور والمواصلات والملابس فواتير الكهرباء والموية بنزين العربية
    الفرق في اسعار المواد التموينية الاساسية
    الفرق شنو قبال الزيادة وبعدها
    واحد يورينا عشان الناس تقدر تعرف اثار هذه السياسات الاقتصادية التي يفرضها هذا المؤتمر الوثني

  6. مابنفع الحلقوم أصلو ده الكلام الني
    الرصاص والموت هو أصلا لغة السلاح الحي
    الكيزان عار اشرف منهن ناس اميمة ومي
    الكيزان مرض خبيث واخر علاجو الكي

  7. – أين ذهبت عائدات البترول في زمن إندفاعه عبر ميناء بورتسودان إلى السوق العالمي، وعندما تخطى سعر البرميل حاجز ال 100 دولار؟
    – ياريت المشكلة عائدات البترول فقط،،!!! زيد عليها اموال الضرائب، الجمارك، عوائد الاراضي، رسوم تراخيص السيارات، الدمغات، والمؤسسات الحكومية التي تم بيعها سودانير، النقل النهري، الاتصالات، اسمنت عطبرة، جزيرة مكوار… السكة حديد المشاريع الزراعية،، والأراضي السكنية التي بيعت للمغتربين بملايين الدولارات وووو وعييييييك. وغيرها وغيرها. والأدهة والأمر أننا أمام ديون وصلت 40 مليون دولار سندفعها نحن ومن بعدنا اولادنا وكمان احفادنا،،، في مشاريع لم يدفع منها من عائدات البترول ولا مليم واحد،، شفت غتاتت الناس ديل!!!،، ويقولون (الرد الرد السد السد) يعني من دقنو وفتلّو.
    كما ان مغستهم تقتل إذا علمنا أن استثماراتهم في ماليزيا تصل إلى عشرة مليارات دولار، أي ما يساوي أربع مرات حجم عجز الميزانية الت يدعونها الآن،
    – ده مش فساد دي جريمة عديل كدة،،، لا يغطيها مناداتهم بالشريعة مرة أخري بعد ربع قرن من الزمان هذا التضليل لذي ما عاد يقنع نفر من الشعب السوداني ولا تبجح اعجاز نخلهم الخاوية من امثال امين حسن عمر وربيع وغيرهم من المأفونين الذين يتحدثون عن أحزاب عاجزة وجماهير محرشة… ويصرون على تعزيب الناس يا لكم من أوغاد..

  8. ياناس الراكوبة الكرام ارحمونا من صورة هذا النافع النحس عشان ماتسدوا نفسنا من قرايةالمواضيع في موقعكم المميز ونحن ماناقصين

  9. الذي يريد معرفة صاحب هذه الصورة المجرم اللا أخلاقي ؟؟؟ فليفتح موقع قوقل ويكتب بالعربي فاروق محمد ابراهيم وسيعرف تماماً من اين اتوا هؤلاء ؟؟؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..