الحركة الاسلامية السودانية شهادة ميلاد علي اعتاب القبر

بطبيعة الحال التيارات الفكرية والأيدلوجية لا تذهب الي القبر وتبقي افكارها وتصوراتها خالدة ما دامت قادرة علي استيعاب المتغيرات والتطورات التاريخية في حياة البشر ولكن ستذهب الي القبر والنسيان اذا انغلقت علي نفسها ولم تجدد افكارها وتصوراتها للحياة العامة .
الحركة الاسلامية السودانية ظلت حاضرة وفاعلة في الحياة العامة لأكثر من خمسين عاماً ولعل مرد هذا الحضور والفاعلية يمكن نسبته للكاريزما العالية والقيادة الملهمة التي اتيحت لها اضافة الي العديد من الاسباب الاخري ، وظلت هذه قيادة تتعامل بوعي مع كل مطلوبات المراحل المختلفة التي مرت بها مسيرة الحركة الاسلامية وتتفاعل مع محيطها بشكل سلس وواقعي اتاح لها ان تنتج افكاراً وتصورات في الفكر والسياسية والحكم متجاوزة التكوينات الفكرية والسياسية الحاضرة في المشهد السوداني بشكل كبير والتيارات العربية والإسلامية بشكل نسبي .
هذا الحضور الطاغي للحركة الاسلامية وقيادتها في المشهد السوداني ويمكن ان نقول بكل شجاعة ايضاً في المشهد العربي والإسلامي ، اصابه ما اصابه في السنوات الاخيرة فتراجعت حظوظ الحركة الاسلامية في دوائر الفكر والثقافة رغم الاراء والأفكار التي ظل يطرحها مفكر الحركة الاسلامية وزعيمها الدكتور حسن الترابي ولكن هذه الاراء والأفكار لم تعد تخاطب قضايا الشباب والعصر بنفس الالق والدهشة الذي كانت عليها في السنوات الماضيات برغم ان كتابات الدكتور الترابي الاخيرة في السياسية والحكم والقران اكثر اتساقاً ومنهجية ومخاطبة لقضايا الامة واستشرافاً للمستقبل ولكنها لم تجد ذات الاهتمام الذي وجدته كتابات اقل قيمة معرفية من قبل للدكتور الترابي نفسه ، وأعجب الاشياء انه حتي شباب الاسلاميين القابضين علي جمر قضية الفكر والثقافة انصرفوا الي كتابات ومنتجات فكرية اخري والي مدارس اخري تخاطب النص القراني بطريقة مختلفة وأكثر حداثة وفق المناهج الحديثة في اوربا وتجاهلوا كتابات مرشد الحركة وزعيمها التاريخي ، وستجد انك في عزلة وغربة في وسط مثقفي شباب الاسلاميين اذا لم يكن لك اطلاع علي كتابات نصر حامد ابوزيد او محمد اركون او هشام جعيط او محمد عابد الجابري وذلك رغم البعد الشاسع بينها وكتابات الدكتور الترابي الاكثر منهجية وحجية ، وبطبيعة الحال ان قراءة الاخر ليس عيباً معرفياً ولكن جعله محور التفكير والاستشهاد والبحث والإلهام يمثل ضعفاً في البنية المعرفية لأجيال تربت علي مدرسة مختلفة في المنهج والرؤية .
كذلك في العمل السياسي تراجعت ادوار الحركة الاسلامية فلم تعد الوظائف التنظيمية او حتي تولي الوظائف الحكومية في السلطة تمثل مبتغى وهدفاً لجيل الاسلاميين الجدد وحتي البعض من القديم وأصبحت الوظيفة العامة في التخصص وجمع المال الاكثر اهتماماً وسعياً ولذلك اصبحت الوظائف السياسية الحكومية الاكثر بؤساً في الفترات الاخيرة والذين يتولونها الاكثر ضعفاً في المقدرات من بين اجيال الاسلاميين المختلفة ولعل ذلك افقد الحركة الاسلامية اهم ركيزة استندت عليها في تربية عضويتها فعضو الحركة الاسلامية كان الاكثر قدرة علي ممارسة العمل التنظيمي والسياسي والأكثر فاعلية ونشاط .
اذا نظرنا الي المستقبل فقطعاً السنوات القادمات او الاشهر القادمات او ان شئت قل الايام القادمات ستشهد رحيل القيادات التاريخية للحركة الاسلامية السودانية بعد عمر طويل في خدمة قضايا الدعوة ولعل رحيلها لن يكون رحيل فرد فحسب بل رحيل جيل بأكمله فقديماً عندما يرحل عظيم من العظماء يذهب معه كل ما يملك ، وقطعاً حتي الاحياء من هذا الجيل سيكونون في عداد الاموات بحكم انتهاء الصلاحية وسيذهب الرصيد الذي خلفته الحركة الاسلامية الي القبر إلا ما ينفع الناس فسيظل خالداً ابد الدهر يضئ عتمة الظلام وينير الطريق للقادمين .
وبطبيعة الحال ستكتب الاجيال الجديدة شهادة ميلاد جديدة للحركة الاسلامية في ظل تكدس الاجيال المتعاقبة علي الحركة من جيل التأسيس الاول حتي الاجيال الجديدة ، ويظل التساؤل المشروع اي الاجيال سيكون لها هذا الدور القادم ، ولعل المتغيرات التي حدثت في الحركة الاسلامية لن تسمح بإنتاج قيادة فردية جديدة ملهمة وتاريخية مثلما حدث مع القيادة الحالية و لن يتكرر ذلك النموذج بسهولة في الاجيال القادمة لعوامل كثيرة تفتقدها الاجيال المتعاقبة ، و اعتقد ان جيل التأسيس والجيل الذي عاش نكبة تجربة الحركة في السلطة وكان فاعلاً في مؤسساتها ليست له حظوظ قليلة او كثيرة فالأموات منهم يرحمهم الله علي ما قدموا والأحياء منهم عليهم ان يستعدوا لكتابة مذكراتهم الشخصية فما عاد في العمر ما يكفي لبدايات جديدة ولم يعد عند اجيال الحركة الجديدة سعة لتحمل تجارب جديدة .
وأحياناً امانينا تغلب علي التفكير الموضوعي والمنطقي ولكن اعتقد ان مستقبل الحركة الاسلامية وشهادة ميلادها الجديدة سيكون مفتوحاً في المرحلة المقبلة علي تيارات متعددة داخل الحركة يمكن تمييزها بان بعضها يمتلك الوعي والمعرفة والاستنارة و القدرة علي توليد الافكار وان كانت تجاربهم دون السقف في الاطلاع علي تجارب في مناخات مختلفة وبعضهم يملك تاريخاً جيداً لكن احياناً التاريخ يكون عبئاً ثقيلاً اذ لم يكن عوناً علي رسم المستقبل وبعضهم له مواقف مثل الرمال المتحركة تارة مع السلطة وتارة مع الفكرة ، وبعضها يمتلك الحماس والغيرة و يمتلك الشجاعة والقدرة علي المدافعة وهذه الصفات والأشياء رغم اهميتها لكنها لا تكفي لبدايات جديدة فالحركة ما اضر بها غير استخدام القوة في غير موضعها فليس من الحظ السعيد ان تمتلك قوة هائلة ولكنها ساذجة وتصبح هذه القوة بلا معني اذا لازمها قصور معرفي في العديد من جوانب الحياة و النيات الطيبة وحدها لا تكفي .
اخيراًاعتقد ان الحركة الاسلامية اذا ذهبت نحو القبر فهذه التيارات المتعددة داخلها ستكتب لها شهادة ميلاد جديدة وأتمني حينها ان لا تكون شهادة ميلاد الحركة في نسختها الجديدة شهادة تسنين .

علي عثمان علي سليمان
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..