الخفافيش ــ قصة قصيرة

مختارات من كتاب امدرمانيات ، حكايات عن أمدرمان زمان وقصص قصيرة أخري
جلس الصديقان الحميمان الحاج حسين والحاج مصطفي جلسة صفآء يتبادلان أحاديث وذكريات عن الماضي وقد سار بهما قطار العمر طاويا” طيات الزمان وربما توقف في محطة ما أو أبطأ سيره عندها لأمر طريف أو أمر سعيد أو وقفة علي أعتاب الحزن والأسي ، وهما الآن في المحطة الأخيرة ، محطة الشيخوخة يعيدان ما يعن لهما من أحداث الماضي البعيدة ويجدان لذة في اجترار بعضها فيشعران بهزة كلذة الطائر بلله القطر الرقيق ، وبغتة توقف الحاج مصطفي عن جر حبآت مسبحته وقال : ( هل تذكر تلك الليلة عندما أنقذتنا ارجلنا جريا” من عصابة المخنثين ؟ واردف قوله بقهقهة عالية ) : ( وجاراه فيها صديقه وقال: كيف لا أذكر تلك الليلة وقد كانت مقلبا” من مقالبك التي تدخلني فيها في مآزق ومواقف تبعث علي الحرج ؟ وانت في سبيل اغتنام لذة أو فائدة لا تتورع عن فعل أي شيئ ..يا أنتهازي ! ) ورد عليه الحاج مصطفي قائلا” : ( مهلا” مهلا” ، أ لست أنت المستفيد والرابح علي كل حال ؟ )
والحدث الذي يشيران اليه كان في بواكير الشباب وكانا ممتلئان حيوية وحماسا” وحبا” للشهوات من الشراب والنسآء واللذات كما هو حال بعض الشباب في هذه السن ، وكانت تلك الحقبة مباح فيها هذه الموبقات .. وكانت السنة موشكة علي الوداع مفسحة الدنيا لعام جديد وقد أعتاد الناس والمسيحيون منهم خاصة علي الأحتفال برأس السنة الميلادية وتقيم الفنادق الكبيرة والجاليات الأجنبية حفلات عامرة صاخبة بهذه المناسبة وهناك البعض الذين يحتفلون بها في دورهم .. وجاء مصطفي وكان حينئذ موظفا” صغيرا” في احدي المصالح الحكومية ، جاء الي صديقه حسين والذي كان مفتونا”بالأخذ من الغنآء والرقص الأفرنجي ومبتكرات ( الموضة ) ، وقال له أن زميله في العمل وهو مسيحي ، دعاه الي حفل رأس السنة بمنزله وطلب منه أن يدعو معه صديقا” أو اثنين واخبره أن الليلة ستكون ممتعة مترعة بما لذ وطاب من الطعام والشراب وانه سيكون هناك رقص بين الفتيان والفتيات علي أنغام الموسيقي الأفرنجية الراقصة ، وكان أغرآء الدعوة أقوي من أن يقاوم .
وقال الحاج حسين : أذكر تلك الليلة وكأنها كانت بالأمس فقد تهيأت لها حالقا” شعري عند الحلاق وارتديت أفخر ما عندي من ثياب وتعطرت وبدوت كعريس مجلو الهيئة في ليلة عرسه ، وذهبت معك في الموعد المضروب وانا أمني النفس بليلة بديعة من ليالي العمر ، وأكمل مصطفي : ثم ذهبنا الي منزل الداعي وكان موقعه غير بعيد من السوق الكبير ، واستقبلنا الداعي بحفاوة بالغة وادخلنا الي صالون الدار الذي كان مزينا” بالأشرطة الملونة والبالونات والأنوار الصغيرة الخافتة الضوء الملونة ، وصفت الكراسي علي جوانب الصالون وتوسطته طاولة كبيرة وضعت عليها زجاجات الخمر الفاخرة من ويسكي وكونباك وبيرة تحف بها أنواع ( المزات ) المختلفة ، وقاطعه الحاج حسين : ولكن لم نجد مدعوا” واحدا” رغم أن الساعة شارفت التاسعة مسا” ، ولربما بكرنا في الحضور وكنا أول القادمين ولكن الداعي طمأننا بأن المدعوين سيفدون تباعا” حالا” لأن الليل ما زال طفلا” كما قال وسيمتد بنا الحفل حتي الصباح وقال ما رأيكم في بيرة ( تفرشوا بيها ) وهو تعبير يعني انها تكون بطانة لماا يتلوها من شراب كحولي قوي ، وفرشنا.. ولم تمض لحظات والا بدأ المدعوون في الحضور ، وكانوا جميعا” شبانا” أنيقو الثياب مرد الوجوه تفوح منهم روائح العطور الزكية وشعورهم وبشرتهم تلمع من دهنها بالكريمات ، وكانوا ستة شبان ورغم اظهارهم الرجولة فقد كانت تفلت منهم حركات ولفتات أقرب الي النساء منها الي الرجال ، وأحسست في نفسي بشعور مبهم مزعج ، ودارت الموسيقي والغنآء من المسجل ودارت الكؤوس ودارت معها الرؤوس ولاحظت انهم يبالغون في اتحافنا بالشراب وأنت يا ( شرفان ) صرت تعب عبا” من الشراب كحبيب مودع لن يلتقي دهرا” بحبيبته ، وانقضت اللحظات في الشرب وبدت علي الجميع بوادر الاأنتعاش والأنبساط التي يسمونها ( الشعشعة ) ، وفجأة وقعت أقنعة الحيآء المصطنع و زال التحفظ وانطلق الكل علي سجيته وصدم سمعي مناداتهم لبعضهم البعض باسمآء نسائية بأصوات فيها تهتك وتكسر ، فقال أحدهم محتجا” :؛ ( هوي يا نفيسة بطلي دلعك ده ) ورد عليه الآخربتكسر : ( أنت مالك يا سميرة غيرانه ولا حاسده ؟ ) وتدخل آخر ( انتن يا بنات عاملات زي الديوك مناقرة وشكل ) ، ورد الشاب الأول او نفيسة (سجمي طلعي الحقيقة.. هسة الغلطانة منو أنا ولا هي يا بدرية ؟ ) ، وفجأة برز من الداخل صاحب الدعوة لابسا” فستانا” قصيرا” و( لباس نسائي داخلي ) ، واستقبلوه بزغاريد وصفير وتصفيق وبدأوا يغنون أغنية في غاية الخلاعة والداعي يرقص رقصا” يبز رقص أي راقصة محترفة وأحدهم يصيح : زينة يا وردة ، وآخر يقول سمحة ياوردة كملتي والله ، ووردة والذي هو الداعي يتثني ويتكسر ويتلوي ويبدع في رقصه .. أقصد رقصها ! وتصك مسمعي ألفاظ وتعبيرات نسائية من عينة ووب ـ ووب علي ـ أحي عليك يا انتي ـ كر علي يا يمة ـ سجمي ـ وقبل منتصف الليل أخليت الطاولة من زجاجات الشراب ووضعت عليها أصناف الطعام العديدة من اللحوم والطيور والأسماك … وكنت قبل ذلك قد سألتك أين الجنس اللطيف الذي حدثتني عنه وكنت أنت تصبرني ونمهلني حتي أيقنت اننا وقعنا في فخ المخنثين ! وانت يا خبيث تعلم مدي مقتي لهذا الصنف من الناس ومعهم رجال الأمن ، وعلمنا انهم من عائلات محترمة وبعضهم رجال أعمال واصحاب مهن محترمة ، وفكرت في طريقة للخلاص وجلست الي جانبك وأسررت لك بها ، وجارينا الجماعة في لهوهم وعبثهم وأن كان بعضهم صار يتودد الينا يوقاحة ، واستؤنف الشراب ومنعتك منه وبتمنعك عمدت الي صب القليل منه وفي دوامة الصخب والرقص استأذنت للخروج الي الشارع للتبول واصررت علي ذلك ، وخرجت وبعد عدة دقائق لحقت بي بحجة التعرف علي تأخيري والعودة بي الي الحفل ، وما أن خرجت الي الشارع انطلقنا نعدو بكل ما أوتينا من قوة كمن يفر من طوفان ماء خلفه أو نار ملتهبة وما هي الا ثوان وسمعنا خلفنا أصوات اقدام تعدو مسرعة واصوات تنادى والجماعة تطاردنا وكانت المسافة كبيرة بيننا وبينهم ، ووصلنا الي المحطة الوسطي ونحن نلهث من الجري والمجهود المبذول ولحسن حظنا وجدنا عربة تاكسي وحيدة وكأنها كانت في انتظارنا كما يحدث من مصادفات قدرية في الأفلام العربية ، وركبناها وامرنا السائق أن ينطلق بسرعة . .. وهنا داعب الحاج مصطفي مسبحته وقال : والله ربنا شافنا ساكت لأنه الجماعة ديل لو لحقونا كانوا رجعونا وكان ابينا كانوا كسرونا من الضرب ، الجماعة ديل ما تشوفن كدي، ديل قويين خلاص ..
هلال زاهر الساداتي 5 مايو 2016
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..