أقدار هيلي سيلاسي السودانية: الكولونيل تَرّقْي يعربد في شوارع الخرطوم ..

عفو الخاطر:
“قم تسامى فوق ساقيك الكسيحين لو تبلغ قمة
وطوّح سيفك المأفون لو تصطاد نجمة
يا قطيع الضأن …
هل رأيتم كف عجز شوهت تأريخ أٌمّـة؟”
(علي عبد القيوم)

يحتفل الارتريون بعد غد باليوبيل الفضي لاستقلالهم الذي أتي بعد نضال مرير، بذلوا فيه الغالي والنفيس والشهداء عددا يستعصي على التصور، ودماء سالت أنهرا وأبرياء شردوا من ديارهم وأطفال رأوا الموت بأعينهم، ينادون الوالدين دون مجيب. في هذه المناسبة أذكر بما جرى، والفت النظر الى اواصر وثيقة ربطت و كفاح الارتريين بالسودان والسودانيين. ———————————————————————————–
مثلما توهج نجمه برهة، سرعان ما أفل. وكما اشتعل وميض قلمه، انطفأ ضوؤه وخبا نور يراعه كشهاب لمع بغتة مع انبلاج الفجر، فلم يلحظه أحد غير الذاكرين والساهرين. كان الصحافي السوداني أحمد طيفور ضحية لعبث أشقياء الاستخبارات وخيانة بعض زملاء المهنة وهوان الحكام وضعفهم. انتهت حياة أحمد طيفور في العام 1966 قبل وفاته ظمأ وجوعا بعد ثلاثة عقود من ذلك التاريخ. فقد فر تائها هائما في صحراء شمال السودان، محاولا في لحظة يأس مغادرة البلاد الى مصر عله يذوب في أمواج القاهرة البشرية أو ينسى نفسه وينساه الناس في نجع من نجوع الكنانة أو كفر من كفورها. وربما أراد أن يسكن الى مقام ولي قصي يغفر له ذنبه، أو واحة كانت سجنا ذات يوم وملاذا في يوم آخر لثوار في غابر الزمان. لكنه مات في نزل رخيص بحي شعبي في قاهرة المعز، فأنتخى بعض الزملاء، رغم ما لقوا منه، بينهم صديق محيسي ويوسف الشنبلي وفاروق أحمد إبراهيم وعاصم وديدي، ليصل هذا الجسد الذي أنهكه الضياع وحرقته بنت الحان ليدفن بين أهليه وفي تراب أُجبر على التنكر له، لعل روحه تجد السكينة والغفران.
أحمد طيفور نسخة سودانية من مأساة إغريقية مؤلمة تتابعت فصولها في سودان الستينيات، لكن ختامها المرعب لم ينتبه إليه إلا القلة بعد ذلك بزمن حينما عثر على جثته في تلك الغرفة الغريبة لتسدل الستار على حكاية نجاح اغتيل في طور التكوين. بزغت شمس أحمد في صحيفة (21 أكتوبر) التي أصدرها صالح محمود إسماعيل، أحد أقطاب الحزب الوطني الاتحادي ووزير الإعلام في حقبة أكتوبر. وهو سياسي سوداني ملك ما افتقده الكل عند غالبية السياسيين السودانيين من ضمير ووجدان ونظافة يد ونقاء سريرة وطوية. كان أحمد طيفور أول صحافي يدخل ارتريا مع ثوارها ويعبر معهم في جنح الظلام التلال الفاصلة بين حدود السودان الشرقية وحدود ارتريا الغربية عند منطقة (حَفَرَه) القريبة من مدينة كسلا، ثم يعود لينشر سلسلة من التحقيقات كتبها قلم رشيق مبدع وصورا التقطتها عين خبيرة فاحصة. كانت تلك الرحلة-المغامرة هي المعول الذي هدم جدار الصمت الملتف حول القضية الإرترية، وهي التي فتحت الأبواب أمام الثوار بعد أن عملت إثيوبيا جاهدة على تصويرهم بعصابات من قطاع الطرق واللصوص (الشفته) الذين يغيرون على الآمنين والمسافرين وقوافل التجار.
ولكن قبل أن نروي تلك القصة، لنرجع قليلا الى الوراء ننظر الى ما يربط السودان بجاريه الى الشرق، إثيوبيا وارتريا.
لن نذهب الى المهدية ومقتل الملك يوحنا، وإنما الى مقدم الإمبراطور هيلي سلاسي الى السودان فارا من جيوش موسليني التي اجتاحت إثيوبيا انطلاقا من مستعمرتها ارتريا قبيل الحرب العالمية الثانية. يومذاك استقبله الشريف يوسف الهندي في بري وافرد له أجنحة الرحمة وأواه. ومن هناك ذهب الإمبراطور يستنهض عصبة الأمم، لكنها كانت جثة هامدة، لم تحرك ساكنا أمام خطر داهم يهدد البشرية، كانت غيومه تتراكم وبدأت أولي نوازله في القرن الإفريقي قبل أن تجتاح أوربا. كان ذلك الغزو هو الضربة القاضية التي أودت بتلك المنظمة الكسيحة. وحينما اندلعت الحرب، كان للجنود والضباط السودانيين قصب السبق والقدح المعلى في هزيمة جيوش ايطاليا الفاشية بشرق إفريقيا. وما معارك أودية ومرتفعات عنسبا وكرن التي خلدتها الأغاني الشعبية، وشهداء جنود الكتائب السودانية، وجراح ضباطها من أمثال محمد طلعت فريد ومحي الدين احمد عبد الله وغيرهما، إلا شاهد على ذلك. ثم دخلت تلك الكتائب وقوات بريطانية مصاحبة لها العاصمة الإرترية اسمرا وذهب معها معلمون ومهندسون وممرضون وموسيقيون ومغنون وحرفيون سودانيون ليفتحوا المدارس ويشقوا القنوات والطرق ويداووا الجراح ويعيدوا نبض الحياة. وتبع هؤلاء مغامرون وتجار وجواسيس اعترف الإنجليز والإمبراطور بفضل عملهم خلف خطوط قوات موسليني. كان أشهرهم رجل كافأته الادارة البريطانية بعيد الحرب بتعيينه معلما للغة الإنجليزية في المدارس الثانوية السودانية، رغم انه لم يحصل إلا على الشهادة الابتدائية. لكنه -والحق يقال -كان من أكفأ المعلمين السودانيين الذين درّسوا الأدب الإنجليزي وشدوا انتباه التلاميذ الى جماله وروعته. والى الإنجليزية، أتقن الإيطالية اتقانا يأخذ الألباب ورطن بالأمهرية كأنه من أمراء “شوا” الاقحاح. وقد استحق تلك المكافأة بجدارة، ليس لخدمته في أجهزة الاستخبارات العسكرية البريطانية فحسب، ولكن لأنه جلس الى فحص للقدرات، فكان السؤال: ما الفرق بين شكسبير وبرنارد شو؟ جلس يكتب ساعات طوال قطع استرسالها كوب من شراب الليمون كل نصف ساعة، ونجح نجاحا باهرا.
بعد الحرب عاد هيلي سيلاسي الى عرشه، ولكنه وضع نصب عينيه إخضاع ارتريا -التي انطلق منها غزو الجيوش الفاشية -لجبروته، والتمدد الى مياه البحر الأحمر الدافئة ليجاور المملكة العربية السعودية واليمن ومصر والأردن والأراضي المقدسة في فلسطين حيث للأرثوذكس معابد وأديرة تتنازعها اليوم الكنيستان القبطيتان: كنيسة القديس مرقص في مصر التي تحتضن كرسي الإسكندرية وسائر المشرق، والكنيسة الحبشية.
لم تكن الادارة العسكرية البريطانية التي انتدبت على مستعمرة ارتريا الإيطالية بقادرة على مساعدة شعب تلك البلاد ليحصل على حقوقه، هذا إن أحسنا الظن؛ وهي لم ترد ذلك كما يذهب رأي الجمهور! فقد فشل ارنست بيفن، وزير الخارجية البريطاني آنذاك ورصيفه الإيطالي كارلو اسفورزا في الوصول الى حل لمصير المستعمرات الإيطالية السابقة في إفريقيا وهي ليبيا والصومال الإيطالي وارتريا، فقررا وضع الأمر برمته أمام الدول الأربع الكبرى المنتصرة في الحرب. وقد كان. اتفق الأربعة الكبار حول ليبيا والصومال الإيطالي، إلا إن أمر ارتريا كان يهم أكثر من طرف حتى ترتبط بإثيوبيا رباطا لا فكاك منه بإرادة دولية. سعى الإمبراطور حثيثا لاهتبلا الفرصة وتوسيع نطاق حدود الإمبراطورية المغلقة والمنغلقة، فاجزل الوعود وبذل العطايا خارجيا وداخليا وبين أنحاء ارتريا وعند مجموعاتها القومية المختلفة فتأسس حزب الوحدة ولكن في مقابله تأسست الكتلة الاستقلالية. أثمرت هذه الجهود عندما قررت الجمعية العمومية للأمم المتحدة في ديسمبر/كانون الأول العام 1950 ربط ارتريا فدراليا بإثيوبيا بعد أن اختلف أعضاء اللجنة التي بعثتها المنظمة الدولية لتقصي الحقائق. فقد وصّت جنوب إفريقيا والنرويج بتقسيم البلاد بين السودان وإثيوبيا، ورأت الباكستان وبورما منح ارتريا الاستقلال بينما انفردت غواتيمالا بطلب ضم هذه المستعمرة الإيطالية السابقة الى إثيوبيا. إلا إن مجلس الأمن اتفق على تسوية جرى بمقتضاها إصدار قرار يربط ارتريا فدراليا بالإمبراطورية الإثيوبية، وهو قرار عده مندوب الاتحاد السوفيتي زواجا كاثوليكيا بالإكراه. دخل هذا القرار، الذي قبله معظم الإرتريين على مضض، حيز التنفيذ في نهاية العام 1952 على يد مندوب هيئة الأمم المتحدة، الدبلوماسي البوليفي، انزي ما تنزو، ليفسح الطريق أمام أول حكومة منتخبة في ارتريا، يرأسها زعيم حزب الوحدة الموالي لإثيوبيا، السياسي الإرتري الماكر، تدلا بايرو (تدغم الدال واللام فتنطق تلاّ بايرو). وتلقت الولايات المتحدة الأمريكية، التي سعت حثيثا لإصدار هذا القرار، جائزتها حينما منحها الإمبراطور رخصة بناء أكبر قاعدة اتصالات خارج الولايات المتحدة الاميركية حينذاك، فانتصبت قباب قاعدة (كانيو استجشن) عالية في هضاب اسمرا.
جاءت ولادة الاتحاد الفدرالي القيصرية مخلوقا شائها مرعبا. فقد فصّلت الأمم المتحدة دستورا ديموقراطيا لإرتريات وربطتها ? في ذات الوقت -بإمبراطورية ثيوقراطية. وتلك ? لعمري ? لم ترد في الأساطير ولا خطرت على قلب بشر من قبل، وفاقت في فرادتها غرائب وعجائب رحلات قليفر في كل البلاد. كيف يمكن لوحدة سياسية تنشط فيها الأحزاب والنقابات وتسمح بحرية الرأي والنشر وتنتخب برلمانا يحاسب الحكومات والوزراء ولها دستور مكتوب وقضاء مستقل أن تتحد مع وحدة سياسية اخرى لا تعرف كل ذلك وتتعبد مع طقوسها الدينية الأخرى (ملك الملوك، أسد يهوذا سبط سليمان ? عليه السلام -وبلقيس) ؟!
كانت تلك بداية المأساة التي ما انفك الإرتريون يعانون منها وعمت فيما بعد منطقة شمال شرق إفريقيا. فقد عمد هيلي سيلاسي الى تحويل الاتحاد الفدرالي الى ضم قسري اكتوت بناره شعوب الإمبراطورية كلها حينما تفجرت حمم الحروب واشتعل أوارها في جميع أرجاء إثيوبيا بعد منتصف ستينيات القرن المنصرم.
كان الاتحاد الفيدرالي شؤما على الإمبراطور والإمبراطورية. فبعد سنوات قليلة من تطبيقه بدأت العواصف تهز أركان البلاد، وخصوصا ارتريا. في العام 1958 تأسست حركة تحرير ارتريا (محبر شوعتي* ? كما عرفت لدى العامة) لتعبر عن ضيق الناس ورفضهم للهيمنة الإثيوبية والخرق المتعمد والمتواصل لنصوص قرار الأمم المتحدة. ولمواكبة بعض مظاهر الحياة السياسية النشطة في الشريك الأصغر من الاتحاد، عيّن الإمبراطور مجلسا استشاريا في أديس أببا، وبدأت مجموعات المتعلمين تعود من الولايات المتحدة وأوربا لتجد لها مكانا في الوزارة ودوائر الحكومة والجيش. ثم جاءت الطامة الكبرى في ديسمبر/كانون الأول العام 1960 يوم وقوع الانقلاب الدموي الذي قاده الشقيقان منقسمو نواي وقرماي نواي. كان الإمبراطور وقتذاك في زيارة رسمية للبرازيل بعد أن طاف ببعض جزر الكاريبي حيث طائفة “الراس فيريان”(1) التي تؤمن به الى حد التأليه والعبادة.
في تلك الأيام، كان للسودان موعد آخر مع أقدار هيلي سيلاسي العجيبة. صمم الإمبراطور على العودة الى بلاده، رغم نصائح حلفائه الأمريكان والأوربيين وخصوصا الألمان الذين رحبوا به ضيفا عزيزا مكرما عندهم. نصحوه بالبقاء بعيدا عن أديس أببا أو التريث حتى يستبين الأمر ظهر الغد. اختار الإمبراطور لعودته طريق السودان الذي كان يحكمه الفريق إبراهيم عبود و “صحبه الكرام”. كذلك كان لإرتريات موعد مع الحظ العاثر وسوء التدبير. إذ اتصل منقسمو نواي هاتفيا بالجنرال تدلا (تلاّ) عقبيت، مدير الشرطة الإرترية (وهي القوة العسكرية الوحيدة الضاربة في البلاد يومئذ) يطلب منه تأمين الحدود بين البلدين، إذ إن اللجنة العسكرية التي يرأسها قررت منح ارتريا استقلالها والاعتراف بذلك. ولكن الجنرال الإرتري أبى العرض وفضل استقبال الإمبراطور في اسمرا قادما من السودان وتسهيل عودته الى العرش. بعد وصوله اسمرا بأسبوع، اشتدت فيها المعارك بين الانقلابين والموالين، أحبطت القوات الموالية له محاولة التغيير التي لقيت تعاطفا من بعض أفراد الأسرة الحاكمة المتنورين (2). هنالك صورة شهيرة التقطت عند وصول الإمبراطور مطار اسمرا وهبوطه من الطائرة. فقد ركض رئيس وزراء ارتريا المنتخب، أسفها ولدمكئيل، الذي خلف تلا بايرو، يقبل حذاء ملك الملوك ويعلن الولاء والطاعة ويضع إمكانيات ارتريا المتاحة عند قدميه حتى يعود بالنصر المؤزر الى عاصمة الإمبراطورية. ظل ولدمكئيل، مجبرا ومختارا، على ولائه لإثيوبيا حتى بعد استقلال ارتريا في تسعينيات القرن الماضي!
لقي تلاّ عقبيت جزاء سنمار. فبعد عام ونيف جمع ضباطه في ناديهم بأسمار وألقى فيهم خطبة عصماء يشكو فيها ما ألت إليه الأوضاع وطالب بالاستعداد للتغيير. ظهر اليوم التالي قتلوه في مكتبه ووضعوا في يده مسدسا ذهبيا أهداه إليه الإمبراطور يوم وصوله اسمرا في طريقه لقمع انقلاب منقسمو نواي؛ عرفانا منه بالجميل ومكافأة لرفضه عرض الاستقلال. أشاعوا يومها إن الجنرال أقدم على الانتحار. خلفه في قيادة الشرطة الإرترية الجنرال زراماريام أزّازي(3).

وفي هذه الأثناء هزت الإمبراطور مأساة شخصية. فقد قتل ابنه الأثير، الرأس مكونن، وتركه وحيدا مع ابنه الأكبر، ولي العهد، الرأس اسفاوسن، الذي كانت تنتصب بينهما حواجز وتقف أمامهما سدود. أذيع رسميا إن الرأس مكونن قضى في حادث طرق، غير أن الناس تناقلت أخبارا تقول بان عداء الماراثون الأسطوري، أببي بقيلا، قتله في سورة غضب جامح، رميا بالرصاص، حينما وجده مع زوجه وفي فراشه.
ومرة اخرى، يجد الإمبراطور في السودان مخرجا، والى ذلك يجد عزاء. جاء الإمبراطور الى السودان في زيارة دولة رسمية بدعوة من الرئيس إبراهيم عبود. وكان في برنامجه زيارة مدينة الأبيض. رافق الرئيس عبود ضيفه في هذه الزيارة حيث نظم له مهرجانا حافلا تخلله سباق للهجن. هناك لمح هيلي سيلاسي ضابط شرطة من بين المكلفين بحفظ الأمن والنظام. كان الملازم الامدرماني كريم الدين محمد أحمد شديد الشبه بالرأس مكونن، كأنهما توأمان. فطلب مجيئه الى منصة الحفل. هرع رجال المراسم الى كريم الدين يستدعونه للمثول بين يدي الإمبراطور، وقد ظنوا أن الأمر لا يعدو أن يكون سلاما أو مصافحة أو تقريظا على حسن الأداء. لكن الإمبراطور طلب منه، حينما وصل إليه، بالجلوس الى جانبه. فأُفسح له في المكان، وسط دهشة فغرت أفواه الجميع. وحينما اتخذ هذا الضابط الشاب مكانه قرب سبط يهوذا، مد يده يتحسس بحنو الأب شعر ملازم أُخذ بغتة بموقف لم يستعد له ولا يعرف كنهه ولم يختره أحد به ولم يتحسب لرهبته. حار في أمره ماذا هو فاعل ? كما أخبرني حينما لقيته في أبي ظبي التي انضم الى سلك شرطتها في ثمانينات القرن الماضي ? ولم يدر ما وراء الأكمة. ثم طلب أن يصحبه كريم الدين الى الخرطوم ومن ثم الى أديس أببا. بات كريم الدين يتردد على العاصمة الإثيوبية بين الفينة والأخرى فيعامل كأنه الرأس مكونن. وكان يدخل على ملك الملوك في كل الأوقات، وذلك ما أُتيح لأحد من قبل ولا من بعد.
هذه الأحداث المتتالية في بداية الستينيات والتي صاحبها اندلاع الكفاح المسلح في ارتريا، دفعت الإمبراطور الى البحث عن مخارج تحفظ هيبته، فهو زعيم أفريقيا الأوحد بلا منازع رغم محاولات عبد الناصر ونكروا كما كان يظن. وعمل على إيجاد حلول تعيد التماسك للإمبراطورية العتيقة وتكفها شر التفتت والانقسام. فجاء بوزير خارجيته، اكليلو هبتي ولد ليشكل وزارة من الأكفاء اسند وزارة الخارجية فيها الى شاب طموح ومثقف وقادر هو كتما يفرو.
أولى الإمبراطور اهتماما بالغا للعلاقات السياسية والدبلوماسية مع مختلف دول العالم، ولا سيما السودان. فأرسل سفيرا إليه شخصية تندمج في النسيج السوداني بلا مشقة هو الإرتري ملس عندم (4) ثم خلفه آخر بنفس المواصفات أو تزيد؛ فقد كان صالح حنيت (5) ? الى مزاياه الأخرى -ضليعا في اللغة العربية ومسلما وارتريٌّاً أيضا، ولد في السودان لأب كان من جنود الاورطة الشرقية، وتنقل في ارجاء البلاد صحبة والده. كما أرسل أول رئيس لوزراء ارتريا، تلا بايرو، الى السويد التي كانت تبني القوة البحرية الإثيوبية في المياه الإرترية وتقيم في منطقة (قرار) شمال غرب ميناء مصوع (6)، قاعدة (كوماندو مارينا) البحرية وزودتها بالعدة والمعدات وقطع الأسطول الذي أوكل قيادته الى صهره، الأدميرال الوسيم اسكندر دستا، زوج الأميرة تناني ورق.
وفي المقابل ظل السودان يرسل أحسن الرسل الى إثيوبيا، قبل أن تتخذ منظمة الوحدة الإفريقية من عاصمتها مقرا، وبعد ذلك. فإليها بُعث سفراء فطاحل منهم عبد الله الحسن والفنان فخرالدين محمد، وقد كان تشكيليا مبدعا وصائغا ماهرا طوّع اللجين روائع، وكان فخرالدين يذرع بدراجته النارية شوارع أديس متفردا بذلك عن بقية السفراء. وفيها اليوم محي الدين أحمد سالم، دبلوماسي حصيف، عرفته عن قرب رجلا فاضلا يأسى ويغتم إن مضى نهاره من غير أن يقضي حاجة لأحد. كان محي الدين قائما بالأعمال يوم دحرت قوات ملس زيناوي جيش منقستو هيلي ماريام ودخلت أديس أببا دخول الفاتحين. وفي أديس أببا وأبي ظبي أياد بيضاء قدمها الى المنتصرين الإثيوبيين والإرتريين على حد سواء.
ولكن تتابع الأحداث في إثيوبيا والسودان فرض ظروفا جديدة لم تعد الدبلوماسية التقليدية، ولا العلاقات الشخصية كافية لمعالجتها. انهار نظام الجنرالات في الخرطوم الذي سلم إثيوبيا في العام 1963 سبعة من خيرة الثوار الإرتريين وطلائعهم، فعلقوا فور وصولهم على حبال المشانق عبرة لمن يعتبر. ثلاثة منهم تدلوا من أغصان أشجار السدر في سوق مدينة بارنتو (المشهورة بإنتاج “قراصة النبق”) حيث تتوقف الحافلات القادمة من تسني في طريقها الى اسمرا. كان معظم ركاب تلك الحافلات سودانيين جاءوا من كسلا في طريقهم الى العاصمة الإرترية سياحة أو تجارة، أو إرتريين يعيشون في السودان. وبعيد ثورة أكتوبر/تشرين الأول التي اقتلعت الحكم العسكري وجدت الثورة الإرترية متنفسا استطاعت أن تتلقى من خلاله مددا.
في العام 1963 اتصلت جبهة التحرير الإرترية بالحكم الجديد في سورية الذي أتى الى السلطة بعد حركة 8 مارس/آذار 1963. كان صلاح البيطار، رئيسا للوزراء آنئذ، وهو ثاني اثنين أسسا حزب البعث. أما الآخر فهو ميشيل عفلق. كان البعثيون، رغم حداثة عهدهم بالحكم، قلقين من تنامي الوجود الإسرائيلي في إثيوبيا وخصوصا على ساحل البحر الأحمر والجزر الإرترية المتناثرة فيه واتخاذ جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) من اسمرا قاعدة متقدمة يدير منها عملياته في شرق ووسط القارة الإفريقية. ولكن كان لهم محاذيرهم في التعامل مع من يدعي الثورة والكفاح المسلح. فهم لا يعرفون هؤلاء الفتية. قد يكونون من النصابين الذين يتاجرون بقضايا الشعوب ويتكسبون منها. فكان لابد من اختبار. أمرت قيادة حزب البعث ورئيس الوزراء، صلاح البيطار، قيادة الجيش السوري أن تطلب من الوفد الإرتري الذي رأسه عثمان صالح سبي إيفاد عشرين من المقاتلين للتدرب على حرب الغوار عند كتائب المغاوير والقوات الخاصة السورية، وذلك قبل الخوض في تفاصيل الدعم الذي يمكن أن تقدمه سورية لهم. جيء بالمقاتلين المطلوبين وتدربوا لستة أشهر هناك أصابوا خلالها مدربيهم بالذهول والإعجاب، فتقرر أن تمضي سورية قدما بتقديم كل ما تستطيع من عون. ولكن السبيل الى دخول المعونات كان العائق الأكبر الذي انهار بعد قيام حكومة أكتوبر/تشرين الأول 1964.
اتصل رئيس جبهة التحرير الإرترية، إدريس محمد أدم، ومسؤول شؤون الثورة، إدريس عثمان قلايدوس، بقطب الحزب الوطني الاتحادي، وزير شؤون رئاسة الوزراء في حكومة جبهة الهيئات الأولى، محمد جبارة العوض. كان القائدان الإرتريان على معرفة وثيقة بالوزير العوض منذ أيام الصبا، فقد درسا في مدارس القضارف سويا. واتصلا كذلك بممثل الأخوان المسلمين في الوزارة، محمد صالح عمر، إذ كانا على معرفة به من قبل ويعرفان مدى حماسته للقضية الإرترية. طلبا من الوزيرين تسهيل استقبال طائرات سورية تحمل أسلحة وذخائر للثورة هي في أمس الحاجة إليها. تحمس الوزيران إلا أنهما طلبا أن يبقى الأمر طي الكتمان، لا يعلم به من الوزارة غيرهما، وأن يتولى محمد جبارة العوض المسألة مع رئاسة هيئة الطيران المدني فقد كانت لوزارته علاقة بذلك وله في الهيئة معارف ومناصرين. بدأت الطائرات المدنية السورية في الوصول الى مطار الخرطوم ليلا تفرغ حمولتها وترجع قبل بزوغ الفجر. كانت تلكم الشحنات ٌتخزن في منطقة بري قبل نقلها الى ارتريا سريعا. إلا أن الأمر بلغ مسامع قوى سياسية سودانية تساءلت عن كنه هذه الطائرات السورية وليس بين البلدين طيران منتظم، ولا كانت العلاقات السودانية ? السورية وثيقة كما هي اليوم. أفشى الصادق المهدي ? بعد معرفته بتلك المساعدات -ما كان خافيا، لكنه اتهم حزب الشعب الديموقراطي بجلب السلاح لمقاومة الانتخابات المقررة في العام 1965 والتي هدد الشيخ علي عبد الرحمن بمقاطعتها ومنعها. فهل كان الصادق المهدي يعرف من هم أصحاب السلاح وأراد توظيف ذلك في نزاع سياسي محلي على حساب ثورة فتية؟ أمر يصعب الجزم به. كان معظم السلاح قد وجد طريقه الى ساحات القتال الإرترية وأشرف على تسلمه المقاتلون الذين تدربوا في سورية. وبذلك لم تصادر قوات الأمن السودانية سوى كميات قليلة، إلا إنها اعتقلت عثمان سبي ورفاق له آخرين.
رب ضارة نافعة! سلطت عملية المصادرة والاعتقال الضوء على القضية الإرترية من جديد مما قض مضاجع الإمبراطور والحكومة الإثيوبية. فهيلي سيلاسي كان أحرص على كمّ كل الأفواه التي تتكلم عما يحدث في بلاده من أي شيء أخر. لم يعرف العالم بما يدور في ارتريا فحسب، بل وصلت الأخبار الى مسامع الإثيوبيين أنفسهم عبر الإذاعات الموجهة التي تبث بلغات إثيوبيا المتعددة، ولا سيما الامهرية. وفي ذلك تنبيه لقوميات اخرى وتحريض على أن تحذو حذو ارتريا.
كان للسلاح القادم من سورية أثره في انتشار الثورة بعيدا عن مناطق الحدود السودانية وتمددها الى الداخل الإرتري. كما كان للضجة الإعلامية التي أثارتها مصادرة بعض هذا السلاح، وهي رمية من غير رامي، فعل السحر في تعبئة الشبيبة الإرترية للالتحاق بالثورة.
هنا انتبهت قيادات الثورة الإرترية الى دور الإعلام في المعركة، فذهبت تبحث عن صحافيين ينقلون بالكلمة والصورة ما يدور داخل “الميدان”. اجروا اتصالات بعدد من الصحافيين السودانيين المعروفين والمغمورين على حد سواء من العاملين في صحف لها تاريخ، فلم يقبل معهم إلا صحافي شاب يتحسس طريقه في صحيفة حديثة الصدور. جرى الإعداد لرحلة أحمد طيفور الى ارتريا ببالغ السرية، فكل أجهزة الاستخبارات المعروفة وغير المعروفة كانت تعمل في الخرطوم بما فيها الموساد الذي أنشأ محطته في (البون مارشيه) (7)، وهو متجر كان تختلف إليه “الطبقة الراقية”. كانت الرحلة شاقة، على الإقدام أو فوق ظهور الجمال، وكانوا يغزّون السير ليلا وفي الأسحار ويتحاشونه في الليالي المقمرة.
انتهت الرحلة بسلام، وعاد أحمد ينشر سلسة من التحقيقات أحدثت دويا هائلا، ورفعت من أرقام توزيع جريدة (21 أكتوبر). كانت التحقيقات نصرا مهنيا، وفتحا في دنيا الصحافة السودانية. فهي تكاد تكون المرة الأولى التي تذهب فيها صحيفة بحثا عن الحدث خارج الحدود. إذ كانت الصحافة في مجملها قاعدة على كراسيها، تنتظر الأخبار لتأتي إليها، أو من مراسلين هواة في عواصم اخرى ذهبوا إليها في عمل أو دراسة. وإن سعت الى الأنباء فهي لا تكاد تبتعد عن دواوين الحكومة ودور الأحزاب والنقابات ومنازل السياسيين إلا مسافة ميلين على الأكثر. أضحت تلك التحقيقات التي كانت تملا صفحة من ثمانية أعمدة وتفيض أحيانا، حديث الناس، ليس في العاصمة فحسب، بل في مدن السودان كافة. أصبح أحمد طيفور نجما لامعا وبطلا مغوارا.
تابعت إثيوبيا التطورات في السودان متابعة دقيقة وقررت أن تبعث الى الخرطوم بأفضل ضباط مخابراتها ملحقا عسكريا، فأرسلت الكولونيل ترّقْي الذي أضاف السودانيون نوناً الى اسمه، فكانوا ينطقونه “ترقن” حينا و “تركن” أحيانا، وقد استمرأ هو هذا التحوير وقبله. أسمه الذي يعني بالأمهرية فيما يعني الرقة والنعومة والسلاسة، هو على نقيض ما جُبل عليه وانتدب إليه. أستطاع ترّقي في فترة قصيرة دخول بيوت سياسيين كُثر وغيرهم، بل كان يدخل الى دار رئيس وزراء السودان، محمد أحمد محجوب، دونما استئذان. لم يضع وقتا. أسرع بتجنيد المومسات في شبكته وفتح بيوتا جديدة للدعارة، وأنشأ ناديا قصد من خلال ما يقدمه من مأكل ومشرب بأسعار “تشجيعية” الى جذب أعدادا متزايدة من “الافندية” الذين يتعاطون الشأن العام، منهم مؤيدين نشيطين للثورة الإرترية ومن قبائل اليسار المختلفة ومدارس الاشتراكية العربية المتعددة. وكان هو حاضرا في كل تلك الأماكن. في ليلة خميس، بلغت النشوة بأحد نشطاء اليسار العروبي فصاح بالإنجليزية في قلب ذلك النادي وهو يشير الى صورة الإمبراطور المعلقة على الحائط المقابل: “فليسقط الديكتاتور هيلي سلاسي!”، ثم التفت جهة اليمين، فتلاشت ابتسامة النصر العريضة التي كانت ترتسم على وجهه لما رأى ترّقى يبادله الابتسام ويسأله بخبث: “هل تؤمن بذلك؟” فتلعثم “الرجل الخفي” ? وكان معروفا بين أصدقائه بالانفزيبل ? وأجاب: “إنني أقول ذلك فحسب” ثم غادر هو ورفاقه المكان. وقد نصح القادة الإرتريون وبدرالدين مدثر هؤلاء بالابتعاد عن النادي الإثيوبي، وليستعيضوا عن الزقني بسمك البلطي الحار وما شابه.
ليحبط الدعاية المتزايدة التي يلقاها الإرتريون ? خصوصا بعد تحقيقات أحمد طيفور -بدأ ترّقي في البحث عن طريقة يوجه بها ضربة قاصمة إليهم تؤلب عليهم الرأي العام السوداني وتدفع الحكومة والسلطات السودانية الى مطاردة الإرتريين مرة اخرى، كما كان الحال أيام عبود “الذهبية”. فاستقرت الخطة على إصدار كتاب بقلم أول صحافي يدخل عرين الأسود ويكتب عنهم. استحال ذلك في بادئ الأمر، لتتبدل الخطة بان يصدر الكتاب ويوضع عليه اسم أحمد طيفور، بعد أن يدجّن. تولى عملية التدجين بعض زملاء المهنة الذين اصطحبوه بدعوى الاحتفاء بعرسه من زميلة فاضلة كانت تحرر صفحة المرأة في نفس الصحيفة، ثم طلقته بعد الفضيحة. أخذوه الى فندق “الواحة” الذي افتتح أبوابه حديثا في تلك الأيام. كان مجتمع الخرطوم المخملي يمضي سهراته حول مسبح الفندق، أو بهوه، أو في ملهاه الليلي، “الكاف دو روا”. هناك قدموه الى ترّقي الذي لم يترك الفريسة تضيع من بين يديه. في البداية، روى أحمد لبعض القيادات الإرترية التي علمت بتلك السهرات انه هاجم الملحق العسكري الإثيوبي، حينما التقاه، هجوما ضاريا وأسمعه رأي السودانيين فيما يفعلون هناك. نصحه الإرتريون بالابتعاد عن طريق هذا الرجل، إلا إن الطامة الكبرى كانت قد حاقت به، حينما دُس له المخدر في الخندريس والتقطت له صور يندى لها الجبين.
كان كتاب “حقيقة جبهة التحرير الإرترية ? بقلم أحمد طيفور” قد بدأت طباعته في مطبعة جريدة الزمان التي أصدرها ورأس تحريرها الصحافي عبد العزيز حسن، وقد كان حلقة الوصل الأولى بين ترّقي وأحمد طيفور. جاء بعض عمال المطبعة الذين ساءهم ما كان يُعد الى القادة الإرتريين وأطلعوهم على الأمر وزودوهم بنسخ من مسودات ما قبل الطبع. لم يكن الكتاب من تأليف أحمد طيفور، فيما أظن، لكنه بني على ما كتبه في “21 أكتوبر” وبمكر دونه مكر الثعلب. فالكتاب وبخبث شديد يدعي فيما يدعي إن الإرتريين يسعون الى سلخ مديرية كسلا عن السودان والاستيلاء عليها.
اتخذ الإرتريون قرارا بالتحرك المبكر لإجهاض الكتاب قبل صدوره وتوزيعه في المكتبات، فجابت وفودهم -وهي تحمل تلك المسودات -الأحزاب السياسية كافة، والنقابات، والصحف جميعها، ما عدا جريدة الزمان، والقيادات الروحية والزمنية. وبدأت حملة مضادة في كل الصحف، بمختلف اتجاهاتها السياسية ومشاربها، تصدرتها جريدة “21 أكتوبر” بمربع ثابت في كل أعدادها لوقت طويل وفي صفحتها الأولى بعنوان “وا جراحاه”، وأصدرت الأحزاب والنقابات بيانات الشجب والإدانة، والكتاب لم يصدر بعد.
في أثناء تجوالهم على الصحف السودانية، قابل الإرتريون الصحافي والشاعر حسين عثمان منصور، صاحب ورئيس تحرير جريدة الصباح الجديد. وهو صحافي لمّاح وأديب مطبوع وشاعر رقيق غنى له عبد العزيز محمد داود أجمل أغانيه، كما غنى له آخرون. أمسك بالمسودة وقرأ المقدمة: “مدفوعا بصلات الدم والقربى، ذهبت بعيدا مع جبهة التحرير الإرترية، الخ …” ثم تصفح بعض الأبواب. وبعد صمت عميق استغرق دقائق معدودات، قال لهم “مقدمة الكتاب هذه وتلك السطور المتناثرة في المتن لا يكتبها في السودان إلا اثنان. أنا أحدهما. أما الثاني فهو عبد الله حسن.” وبعد هنيهة أضاف: “أنا لم أكتبها.” كان عبد الله المذكور ? الذي عرف بين زملاء المهنة بالمدير المزيف، وهي كنية أطلقها عليه محمود محمد مدني -أول صحافي متخصص في تأريخ الصحافة السودانية، على ما أظن. فقد تخصص في لحوم الأكتاف، إذ يعرف من أين تؤكل.
كان أحمد طيفور أول ضحايا ترّقي. ذبحه ببشاعة منقطعة النظير، جعلته ينزف لعقود من الزمان. وحينما مات، كانت روحه قد خرجت من بين جوانحه عدد أنفاسه. ومن بين الصحافيين الذين آذاهم ترّقي الصحافي المخضرم سيد أحمد خليفة.
كغيره، أيد سيد أحمد الثورة الإرترية وحق الشعب الصومالي في وحدة أقاليمه الخمس ? بما فيها إقليم الأوطادين الذي تحتله إثيوبيا -التي ترمز إليها النجمة الخماسية في منتصف علم الجمهورية الصومالية. كتب سيد أحمد مقالات في جريدة “الصحافة” التي كان يعمل بها تحت رئاسة تحرير صاحبها، عبد الرحمن مختار. وأثناء حملة إجهاض الكتاب، نشط في التصدي لما ورد فيه. لذلك أصبح الهدف التالي. كانت لتّرقي علاقات وطيدة بعبد الرحمن مختار فطلب منه التخلص من هذا الصحافي المشاكس. كما ضغط محمد أحمد محجوب أيضا على صاحب “الصحافة” في هذا الاتجاه، فكان قرار الاستغناء عنه. كتب بعدها سيد أحمد كتابين أحدهما (ارتريا جزائر الساحل الإفريقي) والآخر عن الصومال. بعد ذلك عملنا سويا في وكالة أخبار الخرطوم لصاحبها ورئيس تحريرها الصحافي الجهبذ سعد أحمد الشيخ، رغم انف ترّقْي.
بدأت الأوساط السياسية والصحافية تضج بعربدة الملحق العسكري الإثيوبي وبرضوخ الحكومة السودانية لضغوط إثيوبية متزايدة لفتح قنصلية في كسلا. لم تستطع حكومة السودان أن تماطل طويلا في البت بالطلب الإثيوبي، وهي التي لها قنصلية في اسمرا. إلا إن القنصل الإثيوبي في تلك المدينة الحدودية لم يهنأ بوجوده، إذ كان الوجود الإرتري كثيفا وللثورة نشاط ملحوظ وتأييد ودعم متزايد من مواطني المدينة وسكانها، خصوصا إن اقتصادها بدأ ينهض ويرتبط بالوجود الإرتري، بعد أن أصبحت المدينة قاعدة تموين وإمداد أساسية للمقاتلين عبر الحدود.
كانت وسائل التسلية والترويح عن النفس محدودة في ذلك الزمان. وكانت في كسلا دار واحدة لعرض الأفلام. ما فتئ الإرتريون يترددون عليها كلما رأوا القنصل الإثيوبي يهم بدخولها. وساعد بائعو بطاقات الدخول على جلوسهم في ذات الجناح الذي يجلس فيه القنصل وحراسه، أو بالقرب منه؛ فما كان منه إلا الانسحاب بعد إطفاء الأنوار وبدء الفيلم، هاربا بجلده. تكرر ذلك مرات عددا، ثم لم يعد يخرج من داره.
هذا لم يكن متيسرا في الخرطوم، فصال فيها ترّقْي وجال. لكن الإرتريين بعثوا له برسالة واضحة يقولون فيها إن يدهم طويلة إذا ما مس أحدا من قياداتهم أو مقاتليهم الذين كانوا يأتون للعلاج أو العبور الى دول فتحت لهم أبواب معسكراتها للتدريب. فانصرف الى جمع المعلومات ومحاولات التأثير في السياسيين والحكومة علّها تضيق عليهم قدر استطاعتها. في هذا الأثناء ظهر لإثيوبيا تحد آخر تمثل في تبرعم معارضة إثيوبية بدأت تنمو وتتشكل وجاءت طلائعها الى السودان. فقد وصلت أعداد منهم الى القلابات والقضارف ثم الخرطوم. غير أن وصول المعارض الإثيوبي البارز كَبَدي تسمًّا الى العاصمة السودانية اقلق الحكومة الإثيوبية فطلبت من ملحقها العسكري تركيز جهوده على محاصرة هذا الخطر الجديد المتنامي. كان لكًّبدي نشاط ملحوظ في أوساط الإثيوبيين بمختلف انتماءاتهم القومية، كما أصبحت له صلات بالقوى السياسية السودانية والنقابات والسفارات الأجنبية. كان المطلوب من ترّقي اختراق مجموعة تسمًّا وتصفيته جسديا مع بعض مساعديه. تحقق هذا الهدف سريعا ووجدت جثثهم في الخلاء الواقع بين برّي والمطار. جاءت هذه الجريمة رسالة دامية وجهها ترّقْي الى المعارضين الإثيوبيين بالدرجة الأولى، والى الحكومة السودانية وأجهزة الأمن بأنه قادر وسيفعل ما يشاء وقد آن أوان العمل الجاد وأنه سيضرب بيد من حديد، والى الثورة الإرترية بان هذا ما سينتظر قياداتها. أتى رد الإرتريين سريعا ومباغتا فقد تركوا له رسائل مكتوبة في سيارته وبيته في أوقات مختلفة بعضها كانت تحتوي على طلقات رصاص أو قنابل يدوية. قالوا في رسائلهم إنهم قادرون على النيل منه في أي وقت وأي مكان، لكن حرصهم على أمن وسلامة البلد المضيف يمنعهم من المبادرة. فارعوى.
أحدث مقتل كبدي تسما وأعوانه غليانا في الشارع السوداني وتذمرا لدى القوى السياسية المحافظة وسورة عند النخبة وثورة شملت القوى الوطنية واليسارية. ارتفعت الأصوات تطالب بوقف الملحق العسكري الإثيوبي عند حده وجر القتلة الى ساحات القضاء. بل ذهب البعض الى المطالبة بقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وإغلاق الحدود وتقديم العون السياسي والدبلوماسي والعسكري للمعارضة الإثيوبية. بلغت حدة رد الفعل أوجها في جلسة صاخبة للجمعية التأسيسية وقفت الحكومة أثناها موقفا لم تشهده حكومة من قبل، عاجزة عن الرد ومسلوبة الإرادة. وحينما أرادت أن تدافع عن نفسها دعا وزير الخارجية بالإنابة وقتذاك، إبراهيم المفتي، الى أول مؤتمر صحافي نادر يبثه التلفزيون السوداني بثا مباشرا. لبت القيادات الصحافية قاطبة الدعوة، ولم تترك الأمر لمحرريها. قرأ وزير الخارجية بيانا قصيرا يشير الى إجراءات ستتخذها الحكومة لحفظ الأمن في البلاد. ثم انهمرت مداخلات وأسئلة رؤساء تحرير الصحف بدءا من نقيب الصحافة حينئذ، بشير محمد سعيد. كان حظ إبراهيم المفتي في غاية السوء. فالرجل دمث الأخلاق، هادئ الطبع، يبتعد عن الصدام قدر المستطاع، فوضعته المقادير في موقف لا قبل له به لغياب وزير الخارجية الأصيل. كان في المفتي في ذلك المؤتمر الصحافي مثيرا للرثاء، يدعو الى الشفقة، والصحافيون يجلدونه جلد غرائب الإبل. كان السودان كله يشهد ذلك عبر أجهزة التلفاز في البيوت والمقاهي والنوادي.
ردود الفعل هذه على جريمة قتل المعارضين الإثيوبيين، ومن قبلها ردود الفعل على كتاب نُسب الى أحمد طيفور، ومحاكمة واعترافات الجاسوس الرفاعي -الذي جنده ترّقي -في المحكمة الكبرى التي رأسها القاضي عبد العزيز شدو، ثم حكمه عليه بالسجن سنتين، قيدت عربدة الملحق العسكري الإثيوبي وزبانيته قليلا، حتى انقلاب 25 مايو/أيار 1969.
في هذه اللحظة تقتحم الذاكرة أبيات للبياتي، أظنها وردت في أول دواوينه “أباريق مهشمة”:
“و إني لأعجب
كيف يمكن أن يخون الخائنون
أيخون إنسان بلاده؟
فان خان معنى أن يكون،
فكيف يمكن أن يعيش و أن يكون”
*****
? الجمعية السباعية: كانت الحركة تنظيما عنقوديا تتألف خلاياه من سبعة أعضاء لا يعرفون غيرهم. فإذا ما قبض عليهم، لم يعتقل غيرهم.
(1) اشتقت طائفة الراستفيريان اسمها من اسم هيلي سيلاسي قبل اعتلائه العرش، إذ كان اسمه الرأس تفري مكونن.
(2) أذاع الأمير اسفاوسن بيان الانقلاب في 12/12/1960 بصوته من إذاعة أديس أببا. قال فيه: “اليوم تحققت رغبات الشعب الإثيوبي. لقد عقدت العزم على خدمة إثيوبيا والإثيوبيين دون الالتفات الى منفعة ذاتية، ومن غير أن ابتغي شيئا غير المرتب الشرعي الذي يقرره القانون.”
(3) الجنرال زراماريام هو والد الدكتور يوهنس زراماريام، أحد قادة المعارضة الإرترية في الخارج. عزل الإمبراطور الجنرال من منصبه بعد تأجج نيران الثورة وأرسله سفيرا الى أكرا. ُمنح حق اللجوء السياسي في غانا بعد الانقلاب على الإمبراطور، وتوفي ودفن هناك في بداية الثمانينات.
(4) كان ملس عندوم يتقن العربية فهو من أبناء إقليم عنسبا، و عاصمته كرن. وهو شقيق الجنرال أمان عندوم الذي أصبح أول رئيس للمجلس العسكري الإثيوبي (الدرق) بعد الإطاحة بالإمبراطور.
(5) صالح حنيت، أيضا من إقليم عنسبا. أصبح فيما بعد وزيرا للمواصلات والاتصالات السلكية واللاسلكية في إثيوبيا. في عهده شهد هذا القطاع نهضة لا مثيل لها في القارة الإفريقية وانتصبت أجهزة الهاتف في شوارع عاصمة الإمبراطورية الفقيرة ومدن اخرى كان ينقصها الطعام! غضب عليه الإمبراطور فأقاله. ظل بعد ذلك يذهب كل يوم الى القصر الإمبراطوري يقف منتظرا موكب الإمبراطور، ليطأطئ رأسه لعل هيلي سيلاسي يرضى عنه، ولم يرضى. طأطأة الرأس والانحناء عند مرور موكب الإمبراطور تعرف “بالادجنات”، وهي الرضوخ المطلق والعبودية، ويقابلها عند الإمبراطورية اليابانية طقس “تنكو” الذي أذل به الجنود اليابانيون أسرى الحلفاء في أسيا إبان الحرب العالمية الثانية.
(6) قرار (القاف كما تنطق في العامية السودانية) قد غنى لها الموسيقار إسماعيل عبد المعين أغنية سارت بها الركبان في الأربعينيات. مطلعها: بين قرار ومصوع، غرب المينا ? اجتمعنا والحبايب حوالينا ? وافترقنا والمطر تبكي علينا، بين يولاندا وروزينا وكاترينا.
(7) اكتشفت خلية الموساد حينما قُبض على صاحب البون مارشيه متلبسا بالجرم المشهود.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. سَفير جهنَّم!

    May 7, 2013

    بقلم/ كمال الجزولي

    (1)

    أوائل خريف العام 1977م، أيَّام النميري. مجموعة من المعتقلين السِّياسيين كنَّا بمستشفى سجن كوبر. فجأة ظهر بيننا، ذات صباح، نزيل لم يتعرَّف عليه أيٌّ منَّا، رغم أننا كنَّا خليطاً من شتَّى الأجيال، والاتجاهات، والانتماءات الحزبيَّة، فتواصينا، كالعادة، بالحذر!

    منظره العام، وتصرُّفاته ذاتها، خلال الأيَّام التالية، فاقمت من شكوكنا حوله: رثاثة هيئته؛ العزلة التي أدخل نفسه فيها منذ أوَّل قدومه؛ هالة الغموض الكثيفة التي ضربها على حركاته وسكناته؛ نظاراته السَّميكة يجبُر كسر أحد ذراعيها بسلكٍ نحاسي؛ بيجامتِه الواحدة، الممزَّقة، حائلة اللون، بيِّنة القذارة، والتي لا تكاد خطوطها تستبين، يقضي سحابة نهاره يعالج ما نَسَلَ فيها بالشَّوك ينتزعه من بعض الشُّجيرات في فناء المستشفى؛ حذاؤه الجلديُّ الأغبر، المشقَّق، يظلُّ ينتعله من دغش الصَّباح حتى يأوي إلى فراشه آخر الليل؛ ثمَّ تلك الطبقة القشريِّة تكسو جلده، كما سمكة عجوز، فما يكاد يكفُّ عن حَكِّها بأظافره الطويلة المحشوَّة بالقشف.

    مع ذلك، إن أنت دقَّقت النَّظر في ملامحه الخمسينيَّة، وجرَّدتَّه، في عينيك، من ذلك (التَّزيُّد) الذي وقع لنا، من شدَّة توجُّسنا، كمحض مغالاة في (التَّخفِّي) تفتقر إلى الذَّكاء، فسوف تتبدَّى لك، على الفور، ملامح شاحبة السُّمرة لغردونيٍّ نبيلٍ من جيل الحركة الوطنيَّة والاستقلال والسَّودنة!

    مع كرِّ مسبحة الأيَّام، وعلى حين راح اهتمام المعتقلين به يذوي، رويداً رويداً، ويضمحل، ربَّما لكون الذي فيهم يكفيهم، فإن انشغالي بأمره أخذ يزداد، لسبب ما، بنفس المتوالية، مع أنني لم أكن أفضل حالاً من الآخرين! كان ثمَّة رنينٌ خافت يأتيني، من غور أغوار دواخلي، بأنني أعرفه! لكن .. كيف، أين، ومتى؟! لا أعرف! هكذا وجدتني أتتبع خطواته في غدوِّه ورواحه، وأرصد عاداته، في الأكل، والشرب، والمشي وحيداً يترنِّح، كما شبح، تحت الظلال المسائيَّة لحوائط السِّجن الصَّخريَّة، يلتقط، خفية، أعقاب السَّجائر التي يرمي بها المعتقلون، ليعيد إشعالها، للمفارقة، بولاعة فاخرة كان يحتفظ بها دائماً في جيب البيجامة، حتى إذا تصادف واقتربتُ منه، رحت أمعِن التحديق في الأخاديد التي حفرها الزَّمن، ولا بُدَّ، على جبينه وصفحتي وجهه، مؤمِّلاً، عبثاً، أن أنتزع، من وسط رماد تلك الملامح الكالحة، شخصاً ما، عرفته يوماً ما، في مكان ما، وفي زمان ما!

    سلاسة الانقياد خلف الانشغال بمشكلة واحدة، طوال الوقت، قد تذهب العقل .. فما بالك بأن يحدث هذا في السِّجن بالذَّات! لذا، ولمَّا تطاول الزَّمن بلا جدوى، وراح التفكير في أمر الرَّجل يجرفني بلا طائل، قرَّرت، بالمخالفة لما كنا ائتمرنا عليه، أن أجعل القصَّة الطويلة قصيرة، فحزمت أمري، ذات ظهيرة، عندما أبصرته يجلس، كعادته، وحيداً، على أريكة خرصانيَّة تحت ظلِّ شجيرة بالفناء، واندفعت أقطع المسافة إليه بخطوات مسرعة، وأرمي بنفسي إلى جواره بقوَّة، كما لو كنت أخشى أن أتراجع عمَّا اعتزمت:

    ـ ?كيف الحال?؟!

    ـ ?هاي?!

    فاجأتني اللفظة الأجنبيَّة قذفها بتلقائيَّة، وبصوت عميق مثقف، لكن بلكنة ليس فيها شئ من ألسنة السُّودانيين على تنوِّعها! تمالكت نفسي سريعاً بعد أن أدرت في ذهني (رُبَّماتٍ) كثر أتعلل بهن، ثم واصلت، متجاهلاً الرَّد:

    ـ ?ما تعارفنا يا أخي .. تجلس دائماً وحدك?!

    تنهَّد خفيفاً، وندَّ عنه طيف ابتسامة عابرة، ثمَّ أجاب، بوقار، وبإنجليزيَّة مُبينة، وبلكنة أثيوبيَّة واضحة هذه المرَّة:

    ـ ?توقَّعت أن يبادر أهل البلد بالتَّرحيب، على أنكم لم تفعلوا .. فما تراني فاعلاً?؟!

    ابتسمت كالمعتذر، ومددتُّ يدي أصافحه:

    ـ ?كمال?.

    ـ ?تِرِّيكَن?.

    للوهلة الأولى لم أستوعب، تماماً، ما سمعت. أخذ الأمر منِّي ثانيتين، ثلاثاً، حتى إذا ما ملأ الاسم المرعب، بدويِّهِ الهائل، صماخ أذنَيَّ، وجدتني أتزحزح، دون إرادة منِّي، مبتعداً عنه قليلاً، وأنا أردِّد:

    ـ ?تِرِّيكَن .. تِرِّيكَن .. ?تِرِّ ..?!

    حسبني أتساءل، فقاطعني مؤكداً:

    ـ ?نعم .. نعم .. تِرِّيكَن، لا تبدو صغير السِّن إلى هذا الحدِّ، فلا بُد أنك تعرفني، على نحو أو آخر، أو، على الأقل، سمعت باسمي يتردَّد في خرطوم أواخر السِّتينات .. نعم .. تِرِّيكَن، الملحق العسكري الأثيوبي في السودان قبل انقلاب مايو 1969م?!

    قفزت كالملدوغ:

    ـ ?هو أنت إذن! وأنا من ظللت أتساءل، طوال الوقت، بيني وبين نفسي، أين يا ربِّي رأيت هذه الوجه من قبل، لكن .. أين كنت؟! وما جاء بك إلى هذا المكان؟! وما الذي بهدلك كلَّ هذه البهدلة?؟!

    لم يُجب، بل مضى ينظر إليَّ، برهة، بطيف ابتسامة مطفأة، وبعينين كلبيَّتين، من خلف نظارات مكسورة الذراع، دون أن ينبس ببنت شفة! لكنه بدا محقاً في استغرابه عندما اعتقد أنني لم أعرفه حتى بعد أن نطق باسمه، فمَن ذا الذي في مثل سِنِّي، أوان ذاك، ويشتغل بالعمل العام إلى درجة دخول السِّجن، ولا يعرف تِرِّيكَن ، أو .. (سفير جهنَّم) كما كان يطلق عليه صديقنا الراحل محمود محمد مدني؟!

    (2)

    ظللت، خلال العامين (1967 ـ 1968م)، أتنقَّل، كالنَّحلة الشَّغوف، بين بعض المؤسَّسات الصَّحفيَّة، حتى طاب لي المقام، قبيل سفري إلى كييف للدِّراسة، بجريدة (الضِّياء) التي كانت تصدر بدلاً عن (الميدان) بعد حظرها في عقابيل حلِّ الحزب الشِّيوعي، وكان يرأس تحريرها المرحوم عمر مصطفى المكي، ويشرف عليها سياسيَّاً المرحوم حسن الطاهر زروق. تلك هي الفترة التي ابتدأت فيها صداقة العمر بيني وبين محمود مدني وصدِّيق محيسي ، فضلاً عن صداقات كثر في وسط ذلك الزَّمان الصَّحفي، بعضها بقي، برغم الدَّاء والأعداء، وبعضها تلاشى كرفيف ذكرى من عطر قديم!

    بخلاف صوره الصحفية لم تكن لأيٍّ من ثلاثتنا، في الواقع، معرفة، أو مجرَّد سبب لمعرفة بتِرِّيكَن، أيَّامها، وإن كنتُ، شخصيَّاً، رأيته، من بعيد لبعيد، في مناسبة واحدة سأسوق خبرها بعد قليل! لكن الأهمَّ، برغم ذلك، أن ذكر اسمه وحده كان كافياً لجعل الفرائص ترتعد، ولإثارة أقصى درجات الرُّعب في نفوس الناس، وبالأخص معارضي نظام الإمبراطور هيلاسلاسي، ومنسوبي جبهة التَّحرير الإريتريَّة، وقتها، الذين كانت تنتشر الحكايات، بين الحين والآخر، عن اكتشاف جثث بعضهم، بعد تصفيتهم، مدفونة على عجل في الفضاء الكائن بين بُري ومطار الخرطوم، مكانَ حيِّ الصفا وامتداد ناصر حالياً! وعلى حين كانت أصابع الاتِّهام كلها تشير إلي (سفير جهنم) ، كانت الألسن تضجُّ بالشكوى من استخذاء السُّلطات إزاء جرائمه البشعة التي أزكمت رائحتها الأنوف، حتَّى لقد تحدَّثت المجالس عن مقابر خاصة به، ولقبه الكثيرون بـ (الحاكم العام)!

    كان نصيب الصَّحفيين السُّودانيين من ذلك الإرهاب وافراً! ولعل الأحياء منهم ما زالوا يتحسَّرون على مصير صحفيٍّ نابه تناقل الوسط، حينها، قصة الابتزاز الوضيع الذي استهدفه به ذلك التِرِّيكَن، بسبب إصداره كتاباً مؤازراً للثورة الإريتريَّة، فأجبره على تبنِّي كتاب مضاد لم يؤلفه، وإن وافق، تحت ضغط نفسيٍّ لا قِبَلَ له به، على صدوره باسمه! وهي قصَّة مؤلمة أشبه ما تكون بقصص (المافيا) في أعتى عصورها الأمريكيَّة ـ الصِقليَّة، بل أكثر قسوة وحقارة ووضاعة، بتفاصيلها التي تتداخل فيها عناصر الشَّبكة الواسعة من العلاقات الممتدَّة من السفارة الأثيوبيَّة إلى أزقة العاهرات الأثيوبيَّات المبثوثة في المدن الثلاثة، واللاتي لم يكن روادهن يعلمون بأن معظمهن كن مجندات، وقتها، في خدمة مخابرات أسد يهوذا، وسبط صهيون، الإمبراطور هيلاسلاسي! وأذكر أن الصحفي سيد احمد خليفة، بحكم علاقة باسلة ربطته، وقتها، بدوائر الثَّورة الإريتريَّة، وتحت تأثُّره البالغ بقصَّة ذلك الصَّحفيِّ الضَّحيَّة، أقدم على نشر كتاب جسور آخر يمجِّد فيه تلك الثورة، متحدَّياً بذلك تِرِّيكَن ورهطه الذين كانوا ينشطون وراء ستار (الملحقيَّة العسكريَّة الأثيوبيَّة)، حتى خشي الناس على مصيره!

    الواقعة الوحيدة التي كنا، صِدِّيق محيسي وشخصي، ضمن شهودها المباشرين، بالمصادفة البحتة، حدثت يوم دعانا، ذات خميس من أوائل عام 1968م، زميل صحفيٌّ من الدَّرجة العاشرة لتناول طعام العشاء بمنزله بأم درمان، بمناسبة (سماية) مولوده الجَّديد. وفي طريقنا لتلبية الدَّعوة لم نكن نمنِّي النَّفس بأكثر من سهرة في غاية التواضع، لعلمنا بحقيقة إمكانيات مضيفنا الماديَّة! غير أننا ، ما أن اقتربنا من (بيت السِّماية)، حتَّى لاحظنا زحاماً لم نكن نتوقَّعه، وأرتالاً من السَّيَّارات الفارهة حاملة لوحات المرور الدبلوماسيَّة! ثمَّ كانت المفاجأة الأكبر بالداخل، حيث الزِّينات المبهظة والثُّريَّات الضِّخام قد أحالت ليل بيت أخينا نهاراً، وأعداد مهولة من المدعوِّين، أكثرهم صحفيُّون، يتحلقون حول طاولات نضِّدت بأناقة، وفرشت بالأغطية الفخمة، ورُصَّت عليها صِحاف الضِّيافة وآنيتها بسخاء باذخ! جلسنا، على استحياء، إلى أقرب طاولة، وما لبث مضيفنا أن خفَّ إلى حيث طاولتنا يرحِّب بنا ببشاشة، ويأمر لنا بالمزيد من الضِّيافة، ونحن بين الدَّهشة والحيرة والشكر الجزيل نكاد لا نصدِّق ما نرى!

    لحظات، وبدأت ترتفع، من مكان ما، أصوات آلات موسيقيَّة يدوزنها عازفوها إيذاناً ببدء الحفل. التفتنا، لاإرادياً، إلى حيث اعتلت الفرقة الموسيقيَّة منصَّة تواجه الفيراندا المطلة على الحوش، فأبصرنا ثلة من الفتيان الإثيوبيين بأقمصتهم وآلاتهم القوميَّة المميَّزة! لكن، قبل أن نعِي الحاصل تماماً، فرقع صوت امرأة مسِنَّة من داخل الفيراندا:

    ـ ?الرسول يا بنات امِّي جيبوا المرارة لي .. تِرِّيكَن?!

    قفَّ شعر الرُّءوس في المكان، وسرت الرعدة بين الطاولات. التفتنا، لاإرادياً أيضاً، إلى مصدر الصَّوت، فإذا بـ (سفير جهنم) ذاته، بلحمه وشحمه، وقد أحاط به أهل البيت، رجالاً ونساءً، كأنه كبير الأسرة، يسامر الكبار، ويداعب الصغار، وأمامه طاولة خاصَّة مُدَّت، وصحاف منتقاة رُصَّت، وبدا جليَّاً تماماً أنه .. ضيف الشَّرف السَّخِي!

    ما حدث، بعد ذلك، كان عبارة عن (كوميديا سوداء)، إذ ألفينا نفسينا، صِدِّيق وشخصِي، نتدافع، بصمت، مع آخرين كثر، دون سابق اتِّفاق، عند الباب الخارجي! وفي الشَّارع استغرقتنا موجة من الضحك الهستيريِّ عندما رأينا أن بعض الأصدقاء ما كادوا (يتخارجون) حتى أطلقوا سيقانهم للرِّيح! ولم نكف عن الضحك الذي واصلناه صباح اليوم التالي إلا حين فوجئنا بالخط الرئيس لجريدة (الضياء) يدوِّي كما القنبلة: ?الملحق العسكري الأثيوبي يقيم حفل علاقات عامَّة لتجنيد عملاء جُدُد من الوسط الصَّحفي? .. أو نحو ذلك! طالعنا الخبر، وهمس لي صِدِّيق الذي ساءته كثيراً تلك الصِّياغة، بأنها تمسُّ صحفيين شرفاء كلُّ ذنبهم أنهم لبوا، ببراءة، دعوة عاديَّة على العشاء دون أن يعلموا بأنها كانت مصيدة! وفور وصولي إلى الصحيفة نقلت ذلك إلى المرحوم حسن الطاهر زروق، ورويت له تفاصيل ما حدث. وكان مِمَّا قال (أبو علي) بلهجته المصريَّة المميَّزة:

    ـ ?أيوه يا كمال يابني .. كلام صِدِّيق صح ، وأكيد راح نطيِّب الخواطر ، بس كمان أخوانا دول لازم يتفهَّموا إنِّ مَكانش ممكن نِهدر القيمة التحذيريَّة الأساسيَّة في الصياغة?!

    وحول صحن الفول الذي دعاني إليه راح يضحك لمَّا رويت له حكاية الفزع الذي أنتاب الكثيرين حين علموا بعلاقة تِرِّيكَن بالحفل. وفي اليوم التالي نشرت الصَّحيفة تنويهاً مهذباً في ذات المعنى الذي وعدني به مسئولها السِّياسي، فطابت خواطر الكثيرين.

    (3)

    إنتبهت، فجأة، إلى أنني سرحت مع تلك الذِّكريات بعيداً عن ذلك (الرِّمَّة) المكوَّم إلى جواري على الأريكة الخرصانيَّّة في باحة مستشفى سجن كوبر، والذي كان يوماً (سفير جهنم) ناشر الرُّعب في أحياء الخرطوم! عدت أسأله، وأنا أتفحص هيئته الرَّثة، وعينيه الكلبيَّتين تتصيَّدان أعقاب السجاير الشَّحيحة حولنا، عن سبب تلك (البهدلة)، وعن سِرِّ وجوده في ذلك المكان. فأوضح لي أنه هرب من أديس بعد إطاحة العسكر بالإمبراطور، وأنه قضى فترة في بريطانيا، ثمَّ قرَّر المجئ لطلب اللجوء في السودان الذي (يحبُّه كثيراً!) كما قال، لكنهم اعتقلوه وجاءوا به إلى هنا!

    نهضت، وقد تبدَّد، لسبب ما، شغفي لسماع قصَّته! لكنني، وبعد أن خطوت بضع خطوات باتجاه العنبر، تذكرت، فجأة، أن معي ثلاث سيجارات، فرميت له بواحدة قفز يلتقطها في الهواء، ككلب صيد مدرَّب، ثمَّ .. مضيت مبتعداً!

  2. دي الكتابة الصحفية السلسة الراقية يا بلاش

    تسلم أخق جعفر …منهى العذوبة والجمال

  3. سَفير جهنَّم!

    May 7, 2013

    بقلم/ كمال الجزولي

    (1)

    أوائل خريف العام 1977م، أيَّام النميري. مجموعة من المعتقلين السِّياسيين كنَّا بمستشفى سجن كوبر. فجأة ظهر بيننا، ذات صباح، نزيل لم يتعرَّف عليه أيٌّ منَّا، رغم أننا كنَّا خليطاً من شتَّى الأجيال، والاتجاهات، والانتماءات الحزبيَّة، فتواصينا، كالعادة، بالحذر!

    منظره العام، وتصرُّفاته ذاتها، خلال الأيَّام التالية، فاقمت من شكوكنا حوله: رثاثة هيئته؛ العزلة التي أدخل نفسه فيها منذ أوَّل قدومه؛ هالة الغموض الكثيفة التي ضربها على حركاته وسكناته؛ نظاراته السَّميكة يجبُر كسر أحد ذراعيها بسلكٍ نحاسي؛ بيجامتِه الواحدة، الممزَّقة، حائلة اللون، بيِّنة القذارة، والتي لا تكاد خطوطها تستبين، يقضي سحابة نهاره يعالج ما نَسَلَ فيها بالشَّوك ينتزعه من بعض الشُّجيرات في فناء المستشفى؛ حذاؤه الجلديُّ الأغبر، المشقَّق، يظلُّ ينتعله من دغش الصَّباح حتى يأوي إلى فراشه آخر الليل؛ ثمَّ تلك الطبقة القشريِّة تكسو جلده، كما سمكة عجوز، فما يكاد يكفُّ عن حَكِّها بأظافره الطويلة المحشوَّة بالقشف.

    مع ذلك، إن أنت دقَّقت النَّظر في ملامحه الخمسينيَّة، وجرَّدتَّه، في عينيك، من ذلك (التَّزيُّد) الذي وقع لنا، من شدَّة توجُّسنا، كمحض مغالاة في (التَّخفِّي) تفتقر إلى الذَّكاء، فسوف تتبدَّى لك، على الفور، ملامح شاحبة السُّمرة لغردونيٍّ نبيلٍ من جيل الحركة الوطنيَّة والاستقلال والسَّودنة!

    مع كرِّ مسبحة الأيَّام، وعلى حين راح اهتمام المعتقلين به يذوي، رويداً رويداً، ويضمحل، ربَّما لكون الذي فيهم يكفيهم، فإن انشغالي بأمره أخذ يزداد، لسبب ما، بنفس المتوالية، مع أنني لم أكن أفضل حالاً من الآخرين! كان ثمَّة رنينٌ خافت يأتيني، من غور أغوار دواخلي، بأنني أعرفه! لكن .. كيف، أين، ومتى؟! لا أعرف! هكذا وجدتني أتتبع خطواته في غدوِّه ورواحه، وأرصد عاداته، في الأكل، والشرب، والمشي وحيداً يترنِّح، كما شبح، تحت الظلال المسائيَّة لحوائط السِّجن الصَّخريَّة، يلتقط، خفية، أعقاب السَّجائر التي يرمي بها المعتقلون، ليعيد إشعالها، للمفارقة، بولاعة فاخرة كان يحتفظ بها دائماً في جيب البيجامة، حتى إذا تصادف واقتربتُ منه، رحت أمعِن التحديق في الأخاديد التي حفرها الزَّمن، ولا بُدَّ، على جبينه وصفحتي وجهه، مؤمِّلاً، عبثاً، أن أنتزع، من وسط رماد تلك الملامح الكالحة، شخصاً ما، عرفته يوماً ما، في مكان ما، وفي زمان ما!

    سلاسة الانقياد خلف الانشغال بمشكلة واحدة، طوال الوقت، قد تذهب العقل .. فما بالك بأن يحدث هذا في السِّجن بالذَّات! لذا، ولمَّا تطاول الزَّمن بلا جدوى، وراح التفكير في أمر الرَّجل يجرفني بلا طائل، قرَّرت، بالمخالفة لما كنا ائتمرنا عليه، أن أجعل القصَّة الطويلة قصيرة، فحزمت أمري، ذات ظهيرة، عندما أبصرته يجلس، كعادته، وحيداً، على أريكة خرصانيَّة تحت ظلِّ شجيرة بالفناء، واندفعت أقطع المسافة إليه بخطوات مسرعة، وأرمي بنفسي إلى جواره بقوَّة، كما لو كنت أخشى أن أتراجع عمَّا اعتزمت:

    ـ ?كيف الحال?؟!

    ـ ?هاي?!

    فاجأتني اللفظة الأجنبيَّة قذفها بتلقائيَّة، وبصوت عميق مثقف، لكن بلكنة ليس فيها شئ من ألسنة السُّودانيين على تنوِّعها! تمالكت نفسي سريعاً بعد أن أدرت في ذهني (رُبَّماتٍ) كثر أتعلل بهن، ثم واصلت، متجاهلاً الرَّد:

    ـ ?ما تعارفنا يا أخي .. تجلس دائماً وحدك?!

    تنهَّد خفيفاً، وندَّ عنه طيف ابتسامة عابرة، ثمَّ أجاب، بوقار، وبإنجليزيَّة مُبينة، وبلكنة أثيوبيَّة واضحة هذه المرَّة:

    ـ ?توقَّعت أن يبادر أهل البلد بالتَّرحيب، على أنكم لم تفعلوا .. فما تراني فاعلاً?؟!

    ابتسمت كالمعتذر، ومددتُّ يدي أصافحه:

    ـ ?كمال?.

    ـ ?تِرِّيكَن?.

    للوهلة الأولى لم أستوعب، تماماً، ما سمعت. أخذ الأمر منِّي ثانيتين، ثلاثاً، حتى إذا ما ملأ الاسم المرعب، بدويِّهِ الهائل، صماخ أذنَيَّ، وجدتني أتزحزح، دون إرادة منِّي، مبتعداً عنه قليلاً، وأنا أردِّد:

    ـ ?تِرِّيكَن .. تِرِّيكَن .. ?تِرِّ ..?!

    حسبني أتساءل، فقاطعني مؤكداً:

    ـ ?نعم .. نعم .. تِرِّيكَن، لا تبدو صغير السِّن إلى هذا الحدِّ، فلا بُد أنك تعرفني، على نحو أو آخر، أو، على الأقل، سمعت باسمي يتردَّد في خرطوم أواخر السِّتينات .. نعم .. تِرِّيكَن، الملحق العسكري الأثيوبي في السودان قبل انقلاب مايو 1969م?!

    قفزت كالملدوغ:

    ـ ?هو أنت إذن! وأنا من ظللت أتساءل، طوال الوقت، بيني وبين نفسي، أين يا ربِّي رأيت هذه الوجه من قبل، لكن .. أين كنت؟! وما جاء بك إلى هذا المكان؟! وما الذي بهدلك كلَّ هذه البهدلة?؟!

    لم يُجب، بل مضى ينظر إليَّ، برهة، بطيف ابتسامة مطفأة، وبعينين كلبيَّتين، من خلف نظارات مكسورة الذراع، دون أن ينبس ببنت شفة! لكنه بدا محقاً في استغرابه عندما اعتقد أنني لم أعرفه حتى بعد أن نطق باسمه، فمَن ذا الذي في مثل سِنِّي، أوان ذاك، ويشتغل بالعمل العام إلى درجة دخول السِّجن، ولا يعرف تِرِّيكَن ، أو .. (سفير جهنَّم) كما كان يطلق عليه صديقنا الراحل محمود محمد مدني؟!

    (2)

    ظللت، خلال العامين (1967 ـ 1968م)، أتنقَّل، كالنَّحلة الشَّغوف، بين بعض المؤسَّسات الصَّحفيَّة، حتى طاب لي المقام، قبيل سفري إلى كييف للدِّراسة، بجريدة (الضِّياء) التي كانت تصدر بدلاً عن (الميدان) بعد حظرها في عقابيل حلِّ الحزب الشِّيوعي، وكان يرأس تحريرها المرحوم عمر مصطفى المكي، ويشرف عليها سياسيَّاً المرحوم حسن الطاهر زروق. تلك هي الفترة التي ابتدأت فيها صداقة العمر بيني وبين محمود مدني وصدِّيق محيسي ، فضلاً عن صداقات كثر في وسط ذلك الزَّمان الصَّحفي، بعضها بقي، برغم الدَّاء والأعداء، وبعضها تلاشى كرفيف ذكرى من عطر قديم!

    بخلاف صوره الصحفية لم تكن لأيٍّ من ثلاثتنا، في الواقع، معرفة، أو مجرَّد سبب لمعرفة بتِرِّيكَن، أيَّامها، وإن كنتُ، شخصيَّاً، رأيته، من بعيد لبعيد، في مناسبة واحدة سأسوق خبرها بعد قليل! لكن الأهمَّ، برغم ذلك، أن ذكر اسمه وحده كان كافياً لجعل الفرائص ترتعد، ولإثارة أقصى درجات الرُّعب في نفوس الناس، وبالأخص معارضي نظام الإمبراطور هيلاسلاسي، ومنسوبي جبهة التَّحرير الإريتريَّة، وقتها، الذين كانت تنتشر الحكايات، بين الحين والآخر، عن اكتشاف جثث بعضهم، بعد تصفيتهم، مدفونة على عجل في الفضاء الكائن بين بُري ومطار الخرطوم، مكانَ حيِّ الصفا وامتداد ناصر حالياً! وعلى حين كانت أصابع الاتِّهام كلها تشير إلي (سفير جهنم) ، كانت الألسن تضجُّ بالشكوى من استخذاء السُّلطات إزاء جرائمه البشعة التي أزكمت رائحتها الأنوف، حتَّى لقد تحدَّثت المجالس عن مقابر خاصة به، ولقبه الكثيرون بـ (الحاكم العام)!

    كان نصيب الصَّحفيين السُّودانيين من ذلك الإرهاب وافراً! ولعل الأحياء منهم ما زالوا يتحسَّرون على مصير صحفيٍّ نابه تناقل الوسط، حينها، قصة الابتزاز الوضيع الذي استهدفه به ذلك التِرِّيكَن، بسبب إصداره كتاباً مؤازراً للثورة الإريتريَّة، فأجبره على تبنِّي كتاب مضاد لم يؤلفه، وإن وافق، تحت ضغط نفسيٍّ لا قِبَلَ له به، على صدوره باسمه! وهي قصَّة مؤلمة أشبه ما تكون بقصص (المافيا) في أعتى عصورها الأمريكيَّة ـ الصِقليَّة، بل أكثر قسوة وحقارة ووضاعة، بتفاصيلها التي تتداخل فيها عناصر الشَّبكة الواسعة من العلاقات الممتدَّة من السفارة الأثيوبيَّة إلى أزقة العاهرات الأثيوبيَّات المبثوثة في المدن الثلاثة، واللاتي لم يكن روادهن يعلمون بأن معظمهن كن مجندات، وقتها، في خدمة مخابرات أسد يهوذا، وسبط صهيون، الإمبراطور هيلاسلاسي! وأذكر أن الصحفي سيد احمد خليفة، بحكم علاقة باسلة ربطته، وقتها، بدوائر الثَّورة الإريتريَّة، وتحت تأثُّره البالغ بقصَّة ذلك الصَّحفيِّ الضَّحيَّة، أقدم على نشر كتاب جسور آخر يمجِّد فيه تلك الثورة، متحدَّياً بذلك تِرِّيكَن ورهطه الذين كانوا ينشطون وراء ستار (الملحقيَّة العسكريَّة الأثيوبيَّة)، حتى خشي الناس على مصيره!

    الواقعة الوحيدة التي كنا، صِدِّيق محيسي وشخصي، ضمن شهودها المباشرين، بالمصادفة البحتة، حدثت يوم دعانا، ذات خميس من أوائل عام 1968م، زميل صحفيٌّ من الدَّرجة العاشرة لتناول طعام العشاء بمنزله بأم درمان، بمناسبة (سماية) مولوده الجَّديد. وفي طريقنا لتلبية الدَّعوة لم نكن نمنِّي النَّفس بأكثر من سهرة في غاية التواضع، لعلمنا بحقيقة إمكانيات مضيفنا الماديَّة! غير أننا ، ما أن اقتربنا من (بيت السِّماية)، حتَّى لاحظنا زحاماً لم نكن نتوقَّعه، وأرتالاً من السَّيَّارات الفارهة حاملة لوحات المرور الدبلوماسيَّة! ثمَّ كانت المفاجأة الأكبر بالداخل، حيث الزِّينات المبهظة والثُّريَّات الضِّخام قد أحالت ليل بيت أخينا نهاراً، وأعداد مهولة من المدعوِّين، أكثرهم صحفيُّون، يتحلقون حول طاولات نضِّدت بأناقة، وفرشت بالأغطية الفخمة، ورُصَّت عليها صِحاف الضِّيافة وآنيتها بسخاء باذخ! جلسنا، على استحياء، إلى أقرب طاولة، وما لبث مضيفنا أن خفَّ إلى حيث طاولتنا يرحِّب بنا ببشاشة، ويأمر لنا بالمزيد من الضِّيافة، ونحن بين الدَّهشة والحيرة والشكر الجزيل نكاد لا نصدِّق ما نرى!

    لحظات، وبدأت ترتفع، من مكان ما، أصوات آلات موسيقيَّة يدوزنها عازفوها إيذاناً ببدء الحفل. التفتنا، لاإرادياً، إلى حيث اعتلت الفرقة الموسيقيَّة منصَّة تواجه الفيراندا المطلة على الحوش، فأبصرنا ثلة من الفتيان الإثيوبيين بأقمصتهم وآلاتهم القوميَّة المميَّزة! لكن، قبل أن نعِي الحاصل تماماً، فرقع صوت امرأة مسِنَّة من داخل الفيراندا:

    ـ ?الرسول يا بنات امِّي جيبوا المرارة لي .. تِرِّيكَن?!

    قفَّ شعر الرُّءوس في المكان، وسرت الرعدة بين الطاولات. التفتنا، لاإرادياً أيضاً، إلى مصدر الصَّوت، فإذا بـ (سفير جهنم) ذاته، بلحمه وشحمه، وقد أحاط به أهل البيت، رجالاً ونساءً، كأنه كبير الأسرة، يسامر الكبار، ويداعب الصغار، وأمامه طاولة خاصَّة مُدَّت، وصحاف منتقاة رُصَّت، وبدا جليَّاً تماماً أنه .. ضيف الشَّرف السَّخِي!

    ما حدث، بعد ذلك، كان عبارة عن (كوميديا سوداء)، إذ ألفينا نفسينا، صِدِّيق وشخصِي، نتدافع، بصمت، مع آخرين كثر، دون سابق اتِّفاق، عند الباب الخارجي! وفي الشَّارع استغرقتنا موجة من الضحك الهستيريِّ عندما رأينا أن بعض الأصدقاء ما كادوا (يتخارجون) حتى أطلقوا سيقانهم للرِّيح! ولم نكف عن الضحك الذي واصلناه صباح اليوم التالي إلا حين فوجئنا بالخط الرئيس لجريدة (الضياء) يدوِّي كما القنبلة: ?الملحق العسكري الأثيوبي يقيم حفل علاقات عامَّة لتجنيد عملاء جُدُد من الوسط الصَّحفي? .. أو نحو ذلك! طالعنا الخبر، وهمس لي صِدِّيق الذي ساءته كثيراً تلك الصِّياغة، بأنها تمسُّ صحفيين شرفاء كلُّ ذنبهم أنهم لبوا، ببراءة، دعوة عاديَّة على العشاء دون أن يعلموا بأنها كانت مصيدة! وفور وصولي إلى الصحيفة نقلت ذلك إلى المرحوم حسن الطاهر زروق، ورويت له تفاصيل ما حدث. وكان مِمَّا قال (أبو علي) بلهجته المصريَّة المميَّزة:

    ـ ?أيوه يا كمال يابني .. كلام صِدِّيق صح ، وأكيد راح نطيِّب الخواطر ، بس كمان أخوانا دول لازم يتفهَّموا إنِّ مَكانش ممكن نِهدر القيمة التحذيريَّة الأساسيَّة في الصياغة?!

    وحول صحن الفول الذي دعاني إليه راح يضحك لمَّا رويت له حكاية الفزع الذي أنتاب الكثيرين حين علموا بعلاقة تِرِّيكَن بالحفل. وفي اليوم التالي نشرت الصَّحيفة تنويهاً مهذباً في ذات المعنى الذي وعدني به مسئولها السِّياسي، فطابت خواطر الكثيرين.

    (3)

    إنتبهت، فجأة، إلى أنني سرحت مع تلك الذِّكريات بعيداً عن ذلك (الرِّمَّة) المكوَّم إلى جواري على الأريكة الخرصانيَّّة في باحة مستشفى سجن كوبر، والذي كان يوماً (سفير جهنم) ناشر الرُّعب في أحياء الخرطوم! عدت أسأله، وأنا أتفحص هيئته الرَّثة، وعينيه الكلبيَّتين تتصيَّدان أعقاب السجاير الشَّحيحة حولنا، عن سبب تلك (البهدلة)، وعن سِرِّ وجوده في ذلك المكان. فأوضح لي أنه هرب من أديس بعد إطاحة العسكر بالإمبراطور، وأنه قضى فترة في بريطانيا، ثمَّ قرَّر المجئ لطلب اللجوء في السودان الذي (يحبُّه كثيراً!) كما قال، لكنهم اعتقلوه وجاءوا به إلى هنا!

    نهضت، وقد تبدَّد، لسبب ما، شغفي لسماع قصَّته! لكنني، وبعد أن خطوت بضع خطوات باتجاه العنبر، تذكرت، فجأة، أن معي ثلاث سيجارات، فرميت له بواحدة قفز يلتقطها في الهواء، ككلب صيد مدرَّب، ثمَّ .. مضيت مبتعداً!

  4. دي الكتابة الصحفية السلسة الراقية يا بلاش

    تسلم أخق جعفر …منهى العذوبة والجمال

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..