محمد زيادة على متن طائرة الموت

[CENTER][/CENTER]

هل فجيعتنا بمن مات بعد معاناة طويلة من المرض مثل فجيعتنا بمن سقط بذبحة قلبية مفاجئة؟

وهل خبر الوفاة بسكتة قلبية مساوٍ لخبر الوفاة بحادث سيارة فوري مفجع؟

وهل كل الحوادث متساوية في فجيعتها؟

هل حادث تصادم السيارة وحادث سقوط الطائرة وحادث غرق السفينة، حوادث متساوية في الفجيعة؟

لا شك في أن الأخيرين هما الأفظع، فكيف تكون الفظاعة إذا اجتمعا معاً؟
ما يؤول إليه الموت واحد (الغياب)، لكن نوع الموت ليس واحداً، فهناك موتٌ منتظَر وموت متوقَع وموت مفجع وموت فظيع وموت لا يكاد يُصدَّق. وهذا الذي جرّبته للمرة الأولى في حياتي، ولعلها الأخيرة، حين فقدتُ صديقي الدكتور محمد زيادة، يرحمه الله، في حادث الطائرة المصرية التي سقطت وغرقت في بحر المتوسط.

الذين لم يسبق لهم أن فقدوا عزيزاً في طائرة غارقة، حماهم الله من تجريب هذا النوع من الموت، لن يتخيلوا مشاعر من مَرُّوا بهذه المعاناة.

ما زلت أتخيل محمد زيادة في كرسيه في الطائرة يريد أحداً فقط يساعده على فك حزام المقعد، ولأنه يجيد السباحة فهو سيكمل بقية خطوات النجاة من الأعماق. لم يكن سطحياً أبداً في أطروحاته التي أمتعنا بها في اليونسكو، وحتى في موته لم يكن سطحياً … كان عميقاً دوماً!

الموت في طائرة غارقة هو أقسى أنواع الموت لأنه أقربها إلى الحياة. تقول زوجتي نقلاً عن زوجة الفقيد إنها ما زال لديها أمل بأنه ربما خرج من إحدى الفجوات التي أحدثها الارتطام وسبح كثيراً كثيراً وهو الذي يجيد السباحة، حتى وصل إلى سطح بحرٍ ما.

أقول لزوجتي: أعانها الله، هذه من تخاريف الصدمة. ثم أبدأ بيني وبين نفسي في تقليب الفكرة «الخرافية» وهل يمكن حدوثها. هل أصابتني تخاريف الصدمة أيضاً؟!

تعرّفت على محمد زيادة منذ عشر سنوات داخل أروقة اليونسكو، حبّبتني فيه الصفات التي حببتني في الأخوة السودانيين عموماً: البساطة، الصدق، التواضع، الكرامة، المعرفة. قلّما تجد سودانياً يكذب أو يتغطرس أو يغش أو ينافق أو يتزلف، على رغم حاجته، كما يفعل كثيرٌ من الشعوب العربية الأخرى.
وجدت في محمد زيادة هذه الأخلاق السودانية المعتادة … وزيادة.

للذين لم يتعرفوا عليه من قبل، ما كانوا يعرفون حين يرونه في ممرات المنظمة وبجوار القاعات، هل هو سفير أم إداري أم مراسل أم سائق أم خادم؟! لم يعرفوا، لأن الراحل أربكهم بوقفاته المتساوية مع الجميع وبنقاشاته وضحكاته واهتمامه غير الطبقي بمحدّثه.

ما كانوا ليعرفوا أن الدكتور محمد زيادة هو أستاذ، تنقّل خلال أربعين عاماً بين الجامعات والمعاهد الفرنسية، في اختصاص اللغات والترجمة بين العربية والفرنسية والإنكليزية، ثم أصبح منذ عشرين عاماً أحد أعمدة التنوع الثقافي واللغوي في منظمة اليونسكو.

هو المثقف الإفريقي الذي وقف خلف مشروع «تاريخ أفريقيا»، وقد صدرت منه ثمانية مجلدات، ودعت اليونسكو الشهر الماضي إلى الأخذ منه في المناهج الدراسية في دول أفريقيا.

وهو المثقف العربي/ المسلم الذي أشرف على مشروع «جوانب من الثقافة الإسلامية»، حيث صدرت منه ثلاثة مجلدات ضخمة باللغة الإنكليزية، وقد بلغ الفقيد سن التقاعد قبل أن يُكمل عمله فيه، وبعد محاولات غير مقبولة للتمديد له، أعلن هو عن إصراره باستكمال العمل في المشروع على سبيل «التطوع» حتى ينتهي.

لم يغرق محمد زيادة في الصراعات الإيديولوجية المستهلكة للجهد والعمل والإنتاج. دافع عن الثقافة العربية والإسلامية، لكن من دون أن يهاجم أو يعادي أحداً. ومنه، تعلمت كيف يمكن أن تدافع عن نفسك وقيمك من دون أن تهاجم الآخرين.

محمد زيادة لم يغرق في خصومات وعداوات لا تخلو منها المؤسسات والمنظمات كافة.

محمد زيادة لم يغرق في البحر، بل هو مدفونٌ تحت الماء.

له المغفرة ولنا الصبر.

زياد الدريس
مندوب السعودية الدائم لدى اليونسكو ..

تعليق واحد

  1. الف رحمة ونور يارب العالمين بالمناسبة هو شقيق ميرغنى صالح والى القضارف له الرحمة يارب العالمين

  2. اوفيته حقه وافدتنا علما به بارك الله فيك وجوزيتم خيرا ورحم الله راحلنا المقيم محمد زياده والهم الجميع الصبر والسلوان فان غيبه الموت فى اعماق البحر فان التاريخ وضعه فى عجلة الزمن الى ان يرث الله الارض وما عليها شكرا ايها النبيل الوفى زياد على ما سطرته فى حقه وحق الشعب السودانى الذى انكرت وجوده فجر السعيد هداها الله لطريق الحق

  3. للفقيد الرحمة ولآله وذويه الصبر والسلوان ، ولك جزيل الشكر دكتور الدريس لما سطرته في الفقيد وفاءاً وعرفاناً في زمن قل فيه الوفاء وأنعدم العرفان وإنا لله وإنا اليه راجعون..

  4. الف رحمة ونور يارب العالمين بالمناسبة هو شقيق ميرغنى صالح والى القضارف له الرحمة يارب العالمين

  5. اوفيته حقه وافدتنا علما به بارك الله فيك وجوزيتم خيرا ورحم الله راحلنا المقيم محمد زياده والهم الجميع الصبر والسلوان فان غيبه الموت فى اعماق البحر فان التاريخ وضعه فى عجلة الزمن الى ان يرث الله الارض وما عليها شكرا ايها النبيل الوفى زياد على ما سطرته فى حقه وحق الشعب السودانى الذى انكرت وجوده فجر السعيد هداها الله لطريق الحق

  6. للفقيد الرحمة ولآله وذويه الصبر والسلوان ، ولك جزيل الشكر دكتور الدريس لما سطرته في الفقيد وفاءاً وعرفاناً في زمن قل فيه الوفاء وأنعدم العرفان وإنا لله وإنا اليه راجعون..

  7. اﻻستاذ زياد الدريس احسن الله عزاكم في زميلكم زيادة نسال الله له الرحمة والبركة في الذ رية…انا لله وانا اليه راجعون. …جزاكم الله خيرا على ما سطرته عن المذكور وعن اﻻخرين….

  8. زياد لك اشكروالفضل وزيادى في ميزان حسناتك هذه شهادة مبرأه في حق علم صامت ادي واجبه ومضي ودولته لا تعرف عنه ولم يذكر عنه شئ حتي في القنوات انها محنة دولة غارقه في هم اللادولة !!!شكرا مزيدا لك

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..