سدود أثيوبيا وملف نزاعات مياه النيل 1-3 .. اا

سدود أثيوبيا وملف نزاعات مياه النيل 1-3 ..

د. سلمان محمد أحمد سلمان
[email protected]

تناقلت وكالات الأنباء الدولية والمحلية خلال الشهر الماضي خبرين هامين يدوران حول نهر النيل.
الخبر الأول كان عن توقيع دولة بوروندى لاتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل. وقد تناولنا في مقالٍ سابق بشىءٍ من التفصيل أسباب وتداعيات توقيع دولة بوروندى، وألحقنا ذلك المقال بمقالين عن الملامح العريضة لاتفاقية الإطار التعاوني وأجِبْنا على عددٍ من التساؤلات حول هذه الاتفاقية.
الخبر الثاني كان حول إعلان الحكومة الإثيوبية البدء في بناء سد على النيل الأزرق، حوالي أربعين كيلومتر من الحدود السودانية، بعد أن اكتملت الدراسات الخاصة بالمشروع. أُطْلِق على السد في البداية اسم سد بنى شنقول لأنه يقع في ولاية بنى شنقول الإثيوبية الملاصقة لولاية النيل الأزرق في السودان، إلاّ أن السد يُطلق عليه الآن سدّ الألفية العظيم. وهو سدٌّ ضخمٌ تُوضّح التقارير التي نُشِرت حتى الآن أنه سيُولّد حوالي 5,250 ميقاواط من الطاقة الكهربائية. مثل الخبر الأول أثار هذا الخبر تساؤلاتٍ كثيرة حول هذا السد والسدود الأخرى التي بنتها وتنوى أثيوبيا بناءها على النيل الأزرق ونهر عطبرة ونهر السوباط أو على روافد أي من هذه الأنهر، وتأثيرات هذه السدود على مصر والسودان وتداعيات وردود الفعل المتوقّعة لهذا الإعلان.
وسوف نقوم بالرد على هذه التساؤلات في ثلاث مقالات.
يتناول هذا المقال الوضع المائي في أثيوبيا والتحديات التي تواجهه، والأنهار التي تتشاركها أثيوبيا مع الدول الأخرى.كما يتناول المقال أيضاُ البداية للسدود التي بنتها أثيوبيا في القرن الماضي داخل وخارج منظومة النيل.
ويتناول المقال الثاني التطورات والمتغيرات التي أدت بأثيوبيا إلى تخطيط وبناء سدود جديدة على نهر أومو، وعلى منظومة النيل.
ويتناول المقال الثالث والأخير سد الألفية العظيم والسدود تحت الدراسة وما تنوى أن تفعله أثيوبيا بالطاقة الضخمة التي ستُولّدها هذه السدود، والتداعيات المحتملة لهذه السدود.
2
من الناحية العامة يمكن القول أن أثيوبيا من الدول الغنية مائياً. فالمياه السطحية المتجددة تصل سنوياً إلى حوالي 122 مليار متر مكعب مصدرها كميّةٌ كبيرةٌ من الأمطار واثنا عشر نهراً و22 بحيرة ومخزونٌ كبيرٌ من المياه الجوفية المتجدّدة يفوق مليارين ونصف متر مكعب. ورغم أن أقلَّ من 2% فقط من هذه الكمية من المياه يتم استغلالها سنوياً إلاّ أن متوسط نصيب الفرد من المياه العذبة في أثيوبيا يتعدى 1,900 متر مكعب، وهذه الأرقام تعنى الكثير من الوفرة المائية وتجعل أثيوبيا أغنى دولة في أفريقيا مائياً بعد جمهورية الكونغو الديمقراطية، رغم أن كمية مياه نهر الكونغو تساوى 17 مرّة كمية مياه النيل.

ورغم هذه الوفرة فإن أثيوبيا تواجه مجموعةً من التحديات الصعبة في مجال مواردها المائية.
أوّل وأكبر هذه التحديات هو التباينات الزمانية والمكانية والتغييرات المناخية، فالأمطار الغزيرة التي تُغذّى هذه الأنهار والبحيرات والخزانات الجوفية تتفاوت من إقليمٍ لإقليم، ومن شهرٍ لشهر ومن سنةٍ لسنة. فالأشهر من يونيو حتى أكتوبر تشهد هطول أكثر من 75% من الأمطار بينما يهطل حوالي 25% من الأمطار في الأشهر السبعة المتبقية. وتشهد أثيوبيا كل دورةٍ من الزمن جفافاً حاداً نتجت عنه في عددٍ من السنوات مجاعاتٌ قاسية كتلك التي أهلكت أكثر من مليون نسمة وأكثر من مليوني رأساً من الماشية في عامي 1984 و1985 وأدت إلى هبوطٍ في الدخل القومي قُدِّر بحوالي 10%. بالإضافة إلى التباينات الزمانية والمكانية فإنّ تضاريس الهضبة الإثيوبية وجبالها المرتفعة ووديانها المنخفضة تجعل إمكانية استغلال هذه المجارى المائية للري ومياه الشرب أمراً صعباً. كما أن أنهارها الآتية كلّها من المرتفعات تجرِف معها كمياتٍ ضخمة من التربة التي تترسّب مع مرور الزمن وتؤثّر تدريجيّاً على كمية المياه المخزّنة بالسدود وعلى أداء هذه السدود، خصوصاً لتوليد الطاقة الكهربائية، كما أدّت وتؤدى إلى تآكلٍ مستمر للتُربة.
التحدي الثاني الذي يواجه أثيوبيا هو الزيادة المطردة في السكان. فقد زاد سكان أثيوبيا من حوالي 25 مليون نسمة في بداية الستينات إلى 88 مليون مع بداية هذا العام، وقد تخطت أثيوبيا مصر في عدد السكان منذ ثلاثة أعوام حيث أن عدد سكان مصر وصل إلى 84 مليون مع بداية هذا العام. وتتشارك وتتنافس هذه الملايين على نفس القدر من كميات المياه.

التحدي الثالث الذي يواجه أثيوبيا هو أن الإثني عشر نهراً التي تبدأ في أراضيها تعبر حدودها إلى دولٍ أخرى وتصبح أنهاراً دولية تتشارك وتتنافس في استعمالاتها هذه الدول، وقد وصلت حِدّة التنافس إلى نزاعاتٍ وخلافاتٍ ودُقّت طبول الحرب في بعض الأحيان.

ويمكن تقسيم الإثني عشر نهر في أثيوبيا الى أربعة منظومات نهرية هي (1) نهر أواش (2) منظومة أنهر وابى شبيلى وجوبا وغينالى (3) نهر أومو، و(4) منظومة النيل.
أولاً: نهر أواش:
المصدر الرئيسي لنهر أواش هو الهضبة الشرقية لأثيوبيا ويجرى هذا النهر لمسافةٍ مُعتبرة قبل أن ينتهي به المطاف في مجموعةٍ من البحيرات الصغيرة والمستنقعات في الحدود الأثيوبية مع دولة جيبوتي. ورغم أن خبراء المياه في أثيوبيا وبعض المختصين في مجال المياه الدولية يعتبرون نهر أواش نهراً أثيوبيا بحتاً، إلاّ أن كاتب هذا المقال يرى أن انتهاء النهر في بحيرات ومستنقعات مُشتركة مع دولة جيبوتي وتغذية هذه المستنقعات والبحيرات للمياه الجوفية هناك يجعلان من هذا النهر نهراً مشتركاً ويجعلان من دولة جيبوتي دولةً مشاطئةً لنهر أواش:
ثانياً: منظومة أنهر وابى شبيلى وجوبا وغينالى:
مصدر هذه الأنهار هو الهضبة الوسطى والمنحدرة جنوباً. ورغم المصدر المشترك لهذه الأنهار، إلاّ أن نهر وابى شبيلى منفصلٌ عن بقية الأنهار في هذه المنظومة، ولكنه كبقية أنهار المنظومة يتجه جنوبا ويعبر الصومال قبل أن يصبّ في المحيط الهندي. المجموعة الثانية لهذه المنظومة تشمل أنهر وابى غيسترو وغينالى وداوا والتي تكوّن معاً نهر جوبا والذي يعبر الصومال قبل أن يصبَّ في المحيط الهندي. ويكوّن نهر داوا الفاصل الحدودي بين أثيوبيا وكينيا مضيفاً كينيا كدولة مشاطئة مع أثيوبيا والصومال لنهر جوبا.
ثالثاُ: نهر أومو:
يبدأ نهر أومو رحلته من الهضبة الوسطى ويتجه إلى الجنوب الغربي ويصبّ في بحيرة تُرْكانا في أثيوبيا. وتُغذّى نهر أومو بعض الروافد منها نهر غيبى ونهر غيلغيل غيبى. ويقع الجزء الأكبر من بحيرة تُركانا في كينيا. عليه فإن كينيا تُعتبر دولةً مشاطئة لنهر أومو. ويخلق وضع النهر (كله في أثيوبيا) والبحيرة (أكثر من 95% منها داخل كينيا) وضعاً قانونيا معقداً خصوصاً إذا أضفنا أن جزءً من بحيرة تُركانا يقع في مثلث إليمي المتنازع عليه بين كينيا وأثيوبيا والسودان والذي تسيطر عليه كينيا حالياً (وسوف ترث دولة جنوب السودان نزاع مثلث إليمي عند إعلانها في يوليو القادم). ويمثِّل هذا النهر وروافده المحور الثاني، بعد منظومة النيل، من حيث الأهمية لبرنامج أثيوبيا لتوليد الطاقة
رابعاً: منظومة النيل:
النيل هو أكبر منظومة نهرية في أثيوبيا ويغطّي حوضه أجزاءً كبيرة من المنطقة الشمالية والوسطى لأثيوبيا وتشمل هذه المنظومة مجموعة كبيرة من الأنهار بدءً في الشمال بنهر عطبرة والذي يُعرف في أثيوبيا بنهر (تَكَزّى) ويُكوّن أحد فروعه وهو نهر (سيتيت) الفاصل لجزءٍ كبيرٍ من الحدود بين أثيوبيا واريتريا. ونهر عطبرة هو آخر نهرٍ يلتقي بنهر النيل ويضيف لنهر النيل حوالي 11 مليار متر مكعب، تُمثّل حوالي 13% من إجمالي مياه نهر النيل والبالغة حوالي 84 مليار متر مكعب مُقاسةً في أسوان.
يبدأ من المنطقة الوسطى في أثيوبيا أيضا نهرا الدندر والرهد وبعد دخولهما الأراضي السودانية يلتقيان بالنيل الأزرق أكبر الأنهار العابرة للحدود السودانية من أثيوبيا، إذ يحمل النيل الأزرق سنويا حوالي 50 مليار متر مكعب تُمثِّل حوالي 59% من إجمالي مياه نهر النيل والبالغة حوالي 84 مليار متر مكعب. وينبع النيل الأزرق من بحيرة تانا غير أن معظم مياهه تأتى من روافد للنهر (مثل رافد بيليس) وليس من بحيرة تانا نفسها. ويُعرف النيل الأزرق داخل أثيوبيا بنهر أبّاي (تُنْطق وتُكْتب أحياناً عَبّاى).
الجزء الجنوبي للمنطقة الوسطى هو المصدر لمياه نهري أوكوبو وبارو واللذين يكونان بعد لقائهما في جنوب السودان نهر السوباط. ويلتقي نهر السوباط بالنيل الأبيض قرب مدينة ملكال ويضيف نهر السوباط للنيل الأبيض حوالي 11.5 مليار متر مكعّب تُمثّل حوالي 14% من إجمالي مياه نهر النيل، وهى نفس كمية المياه في النيل الأبيض الآتية من البحيرات الاستوائية مقاسةً في أسوان. والدول الاستوائية مصدر النيل الأبيض هي يوغندا وتنزانيا وكينيا وبوروندى ورواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية.

بالإضافة لهذه الأنهار فيجب أن نذكر أن أثيوبيا هي أيضا المصدر الأساسي مع دولة اريتريا لنهر القاش والذي يكوّن الفاصل الحدودي بينهما لمسافةٍ طويلة ويُسمّى هناك بنهر ميريب. ورغم أن القاش ليس جزءً من نهر النيل، إلاّ أن هناك بعض الإرهاصات التي تشير إلى ارتباط نهر القاش بنهر النيل عن طريق المياه الجوفية، علماُ بان مياه نهر القاش تنتهي متسرّبةً في رمال شرق السودان، ليس بعيداً عن حوض النيل، وهذا ما يقوّى الاعتقاد بتغذية نهر القاش للمياه الجوفية التي قد تربط النهرين. ويجب التوضيح من ناحيةٍ أخرى أن مصدر نهر بركة الذي يجرى موازياُ للبحر الأحمر في السودان هو دولة اريتريا وليس أثيوبيا.
من هذا السرد يتضح أن أثيوبيا هي المصدر لكل مياه النيل الأزرق (بما في ذلك نهر عطبرة) والبالغة حوالي 63 مليار متر مكعب، وهى أيضاُ المصدر لحوالي نصف مياه النيل الأبيض والبالغة 22 مليار.وهذا يعنى أن أثيوبيا هي مصدر 74 مليار متر مكعب (وهى تُمثّل حوالي 86%) من إجمالي مياه النيل البالغة 84 مليار متر مكعب. ويتضح أيضاً أن أثيوبيا تتشارك في أنهارها مع اثنتي عشر دولة أخرى هي مصر والسودان وجيبوتى والصومال واريتريا ويوغندا وتنزانيا وكينيا وبوروندى ورواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، إضافةً إلى دولة جنوب السودان عند إعلان ميلادها في يوليو القادم.
3
بدأ التفكير في أثيوبيا في استغلال مياه أنهارها الإثني عشر المذكورة أعلاه في ستينات القرن الماضي. وبحكم العلاقة الوطيدة التي كانت تربط نظام هيلاسيلاسي بأمريكا وقتها، وكردٍّ على ارتباط نظام عبد الناصر بالإتحاد السوفيتي وتمويل السوفيت للسد العالي بمصر، فقد قامت إحدى المؤسسات الأمريكية بدراسةٍ مكثّفة ومتعددة الجوانب للاستغلال الأمثل لموارد المياه في أثيوبيا. أوضحت الدراسة أن الطاقة الكهربائية التي يمكن استغلالها من مياه الأنهار في أثيوبيا تزيد عن 30,000 ميقاواط (يمكن فهم مغذى هذه الأرقام إذا أخذنا في الاعتبار أن كافة الطاقة الكهربائية المُولّدة من السد العالي هي حوالي 2,000 ميقاواط، وأن الطاقة الكهربائية القُصوى التي يمكن توليدها من خزان مروى هي حوالي 1,250 ميقاواط). هذا وتجدر الإشارة إلى أن بعض الدراسات اللاحقة أشارت إلى أن الـ 30,000 ميقاواط هذه يمكن توليدها فقط من منظومة النيل، وأنّ إجمالي الطاقة المتاحة من أنهر أثيوبيا يفوق الـ 45,000 ميقاواط، وهى أكبر طاقة كهربائية متاحة في أفريقيا بعد تلك التي تتميز بها جمهورية الكونغو الديمقراطية.
انشغلت أثيوبيا بحروبها الخارجية (اريتريا 1960 ? 1991، وكذلك 1998 -2000، وحرب الاوغادن التي اشتعلت مع الصومال عامي 1977 -1978) وبحروبها وثوراتها الداخلية والتي انتهت بسقوط نظام منقستو في عام 1991. انشغال أثيوبيا بحروبها الخارجية والداخلية وظروفها الاقتصادية السيئة وقلّة التمويل الخارجي بسبب هذه الظروف حدّت من آمالها في تنمية طاقتها الكهربائية خلال القرن الماضي، واكتفت أثيوبيا ببناء عددٍ قليل من السدود الصغيرة خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي معظمها على نهر أواش. لكن هذا الوضع تغيّر كثيرا مع بداية هذا القرن عندما بدأت أثيوبيا في تخطيط وتنفيذ برنامجٍ طموح لعددٍ كبير من السدود الكبيرة على نهر أومو وعلى منظومة النيل التي تشمل النيل الأزرق ونهر عطبرة ونهر السوباط وروافدها، كما سنوضّح في المقال القادم.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..