مقالات سياسية

اللغة النوبية القديمة 2

ب‌- خلفية تاريخية
نواصل الحديث في الخلفية التاريخية عن سكان المنطقة الذين استقر معهم النوبة من أجل الوقوف على الأوضاع اللغوية. وقد تعرفنا في الحلقة السابقة على النوبين والكوشيين والبليميين ثم النوباديين وتأسيس مملكتهم في القرن السادس الميلادي، ونواصل الحديث عنهم. في نهاية القرن السابع الميلادي حدثت تطورات جديدة في المنطقة، فقد وجد في أحد نقوش كاتدرائية فرس نقش يعود لعصر الملك المقُرّي مرقوريوس (697 ? 744 م) يوضح تبعية هذا الملك لمذهب الكنيسة القبطية الذي كان يتبعه النوباديون، فقد كان المقريون يتبعون مذهب الكنيسة البيزنطية. ودل هذا النقش على ضم مملكة مقرة لنوباديا في ذلك الوقت وامتدت حدودها حتى أسوان. (جيوفاني فانتيني، تاريخ المسيحية في الممالك النوبية القديمة والسودان الحديث. ص 75. وفانتيني أيضاً، إعادة اكتشاف تاريخ النوبة القديم. ا ص 80. ولتفاصيل اتحاد المملكتين في ذلك الوقت انظر: أحمد الياس حسين، السودان الوعي بالذات وتأصيل الهوية ج 2 ص 35 -40)
ولم يطرأ تغير واضح على سكان هذه المنطقة منذ دخول النوباديين في نهاية القرن الثالث الميلادي، لأن مملكة مقرة كانت حريصة على مراقبة حدودها الشمالية. فلم يكن يسمح لأحد عبور فرس جنوباً، وتوجد نقطة مراقبة في منطقة الشلال الثاني حيث لا يسمح بالعبور إلا بتصريح من والي الاقليم الشمالي المعروف بصاحب الجبل، ومنطقة الجمارك والمراقبة الكبرى في المقس الأعلى حيث الضبط الكامل لكل عابر جنوباً. وقد أوضح كل ذلك ابن سليم (كتاب أخبار النوبة، في مسعد المكتبة السودانية ص 93-94) في القرن الحادي عشر الميلادي قائلاً:
“وهذه الناحية بجراش [فرس] مدينة المريس، وقلعة ابريم، وقلعة أخرى دونها، وبها مينا تعرف بأدواء[قلعة ألدو] يُنسب إليها، لقمان الحكيم، وذو النون، ولهذه الناحية والِ من قبل عظيم النوبة يعرف بصاحب الجبل من أجلّ ولاتهم لقربه من أرض الإسلام … ولا يُطلِق لأحد الصعود إلى مولاه لمسلم ولا لغيره … وأوّل الجنادل من بلد النوبة قرية تعرف بتقوى [منطقة الشلال الثاني] … ولا يطلق لأحد من المسلمين، ولا من غيرهم الصعود منها إلا بإذن من صاحب جبلهم، ومنها إلى المقس الأعلى [جنوب تقوى] ست مراحل … وهي من أرض مريس، وصاحب الجبل واليهم، والمسلحة بالمقس الأعلى صاحبها من قبل كبيرهم شديد الضبط لها … ولا يطلق لأحد أن يجوزها إلا بإذن الملك ومن خالف كان جزاءه القتل كائناً من كان.”
ومن المعروف أن ابن سليم عاش في أول العصر الفاطمي، وأرسله الفاطميون لكي يدعو ملك مقُرة للإسلام، وكان رد ملك مقرة هو تحميل ابن سليم رسالة للخليفة الفاطمي يدعوه فيها لاعتناق المسيحية. وقد حان وقت العيد لابن سليم في مدينة دنقلة فصلى العيد خارج المدينة مع بعض المسلمين ولم يذكر وجود مسجد في المدينة، إذ لو كان هنالك مسجد لورت الإشارة إليه. (أنظر كتاب المقريزي، المقفى. مسعد، المكتبة السودانية ص 371)
انتقل حكم مصر بعد الفاطميين إلى الأيوبيين. ومن الثابت تاريخياً أن الأيوبيين حاولوا غزو النوبة فلم يتمكنوا إلا الوصول إلى قصر إبريم شمال منطقة حلفا. (النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب في مسعد، المكتبة السودانية ص 223) ثم جاء المماليك بعد الأيوبيين، وكانت سياسة المماليك تتمثل في عدم إتاحة الفرصة لوجود تجمع عربي أو قيام دولة عربية على حدودهم الجنوبية. ويتضح ذلك في يمين الولاء الذي حلفه شكندة ملك مقُرة موضحاً ولاءه للماليك بعد حملة المماليك عام 674 هـ / 1275 م على مملكة مقرة التي أعادت الملك شكندة إلى العرش، جاء فيه الآتي: ” والله والله والله وحق الثالوث المقدس والانجيل الطاهر … ثم إنني لا أترك أحدا من العربان ببلاد النوبة صغيراً ولا كبيراً، ومن وجدته احتطت عليه وأرسلته إلى الأبواب العالية …” (ابن أبي الفضائل، كتاب النهج السديد والدر الفريد فيما بعد تاريخ ابن العميد. في مسعد، المكتبة السودانية ص 249)
وهكذا يتضح أن سكان منطقة شمال الشلال الثالث لم يتأثروا كثيرا بتحرك سكانية منذ دخول النوباديين في المنطقة في نهاية القرن الثالث الميلادي. وحتى بعد احتلال المماليك مملكة مقرة عام 716 هـ / 1316 م وتنصيبهم عبد الله برشنبو ملكاً لمقرة، واصلوا سياستهم في مساعدة البيت المالك المَقُرّي ضد أبناء الكنز الذين تولوا عرش مقرة لبعض الوقت. وعادت الأسرة المقُرِّية القديمة لحكم المملكة بمساعدة المماليك. فمملكة مقرة لم تسقط عام 716 هـ. (لتفاصيل ذلك أنظر أحمد الياس حسين، السودان الوعي بالذات وتأصيل الهوية ج 2 ص 119 – 125)
ظل الوضع السياسي في المنطقة كما هو حتى القرن العاشر الميلادي حيث أسست قبيلة ربيعة دولتها في مناطق التعدين في الصحراء الشرقية، ثم انتقلت إلى أسوان. وتوسعت دولة ربيعة وامتدت حدودها في منطقة أسوان وأنعمت الدولة الفاطمية على أميرها بلقب كنز الدولة، فعرفت الأسرة بأبناء الكنز. ويبدو أن علاقة أبناء الكنز مع جيرانهم النوبة في إقليم مريس في الجنوب كانت طيبة من أجل الروابط القوية بالمسلمين والمصالح التجارية المشتركة بين الجانبين. فقد كانت لسكان أسوان أموال وأملاك في مناطق النوبة جنوب أسوان ابتاعوها من النوبة.
ويبدو معقولاً أن تكون صلات أبناء الكنز قد قويت بمنطقة النوبة في إقليم مريس، وأن حدوهم ربما امتدت على تلك المناطق. وبخاصة عندما انهارت دولتهم في اسوان على يد الأيوبيين في القرن السادس الهجري (12 م)، والتجأت الأسرة في بلاد النوبة. وأدى كل ذلك إلى اختلاط واندماج الأسرة الكنزية منذ القرن السادس الهجري بالنوبة جنوب أسوان حتى أصبح أسم الآسرة “الكنوز” علماً على أولئك النوبة.
وظل الوضع على ما هو علية بعد القرن السابع الميلادي، وكانت بعض الأسر النوبية الحاكمة القديمة لا تزال تسيطر على بعض المناطق مثل الأسرة الحاكمة في دوتاو حتى نهاية القرن الخامس عشر. وبدأ التغير الدمقرافي واللغوي في المنطقة منذ القرن السادس عشر بدخول فلول المماليك ثم الأتراك وانتشار نفوذ الكشاف في المنطقة وما تلى ذلك من أحداث حتى بداية القرن العشرين بإنشاء خزان أسوان وبداية ترحيل النوبة.
ونواصل عن: أوضاع اللغات

[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..