شتَّان ما بين أطباء اليوم و.. أطباء الأمس

في أغسطس من العام 1976، كنت وزوجي نجلس إلى ذلك الطبيب ، “حسن عثمان عمر”، في عيادته بالسودان، والساعة قد تجاوزت العاشرة مساء، وبين يدينا ذلك الصغير ولم يكن عمره حينها يتجاوز العشرة أيام، جاء إلى الدنيا مثل أي طفلٍ عادي تكاد الدماء تطفُر من خدوده الوردية ويفوق حجمه أقرانه كثيراً، ولكن تلك الصحة سرعان ما أخذت تتلاشى وذلك الخد الوردي أمسى أشبه بثمرة عجفاء عبثت بها رياح الخريف بعد أن أصرَّت المعدة على لفظ كل ما يأخذ طريقه إليها من سوائل، ما أثَّر سلباً في صحة الطفل الذي أخذ وزنه يسجِّل عداً تنازلياً مخيفاً.

وفي ذلك اليوم العاشر بالذات كان وجه الطبيب يشي بقدرٍ غير قليلٍ من الجِدِيَّة والخطورة، وبدا أن الكلمات وحدها غير كافية لإيصال ما يريد، فعمد إلى ورقة راح يرسم عليها ما يحاول جاهداً إيضاحه لنا من شكوك في أن يكون مردُّ تلك الظاهرة ضيقاً في المعدة، وهي حَدَثٌ مُتعارَفٌ عليه طبياً، إلا أنه من غير المُتعارَف عليه أن تظهر الأعراض في تلك السن المبكرة، إذ تبدأ عادةً في الظهور عند بلوغ الطفل الشهرين من عمره. «وعلى كلٍ أصبح لا خيار أمامنا سوى فتح البطن والبحث على أمل أن تكون شكوكي في محلها… ومهما تكن نتيجة العملية فإن استمراره في هذا الوضع ليس بأقل..».

ولم يكمل، وكأنه تذكَّر فجأة وهو في غمرة استغراقه في نتائج العملية أنه يخاطب الوالدين وفي شأن أقرب الناس إليهما.
وجاءت عبارة الطبيب المبتورة والتي استطاع إجهاضها في آخر لحظة بصمته المفاجئ تحمل رائحة مقُولة القائد “طارق بن زياد” وهو يخاطب جنده بعد أن أحرق المراكب جميعها: «أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر».

وفي نفس تلك الليلة تمَّ الاتصال بطبيبٍ جراحٍ مشهودٌ له بالكفاءة والخبرة هو الدكتور “زاكي الدين أحمد زاكي الدين”، وتقرَّر أن تكون العملية في الصباح الباكر وبدون كشف أشعة أو غيره من الإجراءات المُتَّبعة في مثل تلك الأحوال حيث أن أي تأخير لا يزيد الأمور إلا تعقيداً.

لا أطيل على القارئ كثيراً في سرد تفاصيل تلك العملية. وفي مثل تلك الأحوال كثيراً ما تبرز لمساتٌ إنسانية تأبى إلاّ أن تفرض نفسها علينا مذكِرةً إيانا ألا تقنطوا مما وصل إليه عالم اليوم من أنانية ومادية مؤكدة للإنسان أن أخاه الإنسان مازال بخير. فذلكم الجرَّاح -الدكتور “زاكي الدين أحمد زاكي الدين”- والذي استغرقت منه تلك العملية الجراحية الدقيقة ما يزيد على الساعتين، يرفض أن يتقاضى أجراً في مقابل ما اعتبره إثراءً وإضافة لعلمه في ذلك الوقت أي عام 1976م. وطبيب الأطفال (حسن عثمان عمر) بدوره يغلق عيادته مصدر رزقه ورزق عياله لمدة أسبوعين كاملين بعد العملية، ويظل قابعاً على كرسيٍّ بجانب الطفل المريض يرقُب عملية التغذية والعلاج التي تتمُّ بواسطة أنابيب غُرزَت في أوردة رأسه وقدميه متحسباً لأيةِ مضاعفات مُتَوَقَّعة بعد العملية، وما أكثرها لطفلٍ في ذلك العمر، وبتلك الصحة، حتى وصل الطفل إلى شاطئ الأمان مجتازاً الخيط الرفيع بين الحياة والموت بما هو أشبه بالمعجزة. وحينها فقط تنفَّس ذلك الطبيب الإنسان الصعداء وسلمنا إياه رافضاً مقابل ذلك جزاءً ولا شكوراً.
لقد مضى زمنٌ طويل – كما يلحظ القارئ على تلك التجربة العصيبة – ولكن ما أصبح عليه حال مهنة الطب اليوم يدعوني لأن أنفض الغبار عن تلك التجربة، فالطب .. هذه المهنة الإنسانية ? للأسف ? قد أصبحت معبراً إلى دنيا المال والثروة فترى العشرات من المرضى ينتظرون دورهم لمقابلة الطبيب إلى ما بعد منتصف الليل ما يدعو الى التساؤل كيف لطبيب يستقبل ذلك العدد الهائل من المراجعين أن يتوفَّر له الوقت الكافي للاستماع لشكوى المريض بما يعينه على التشخيص السليم.

ورغم تلك المعاناة التي يتكبَّدها المريض حتى يحالفه الحظ ويحظى بتلك المقابلة ” الخاطفة” للطبيب، فان ذلك الطبيب لا يرى غَضاضةً في أن يُثقِل كاهل المريض بأتعاب كشفٍ تفوق قدراته.
والمفارقة أن يُسمَح للبعض من المرضى المنتظرين بالتواجد في غرفة الكشف مع المريض ما ينتفي معه جانب الخصوصية والسِريَّة والتي هي من أبسط حقوق المريض.

أما فيما يتعلق بالمبالغ الباهظة التي يدفعها المريض مقابل شراء الأدوية وإجراء التحاليل فذلك أمرٌ يطول شرحه.

? من الأمور العادية أن تسمع أن مستشفىً ما لم تسمح بمعالجة مريضٍ قد أتى به ذووه في وضعٍ صحيٍّ حرج ما لم يدفع رسوم المستشفى ” بالكامل ?، حتى وإن أدى ذلك “التأخير” في دفع الرسوم لوفاة المريض.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. آسآلى حكومة إلكيزآن يآأختى من سبب تردى إلطب في بلإدك….
    إلطب دآير دولة تصرف عليه…
    وعندمإ تصرف حكومتك علي إلطب سوف تجدي من هم إحسن من مإذكرتين ..

  2. سبحان الله قادة الحكومة واجزِهتهم والعصابة الحاكمة إذا مرض فيهم أحد فإنهم يذهبون لأقرب طائرة للعلاج بالخارج هم واهليهم علي حساب الشعب السوداني المسكين المغلوب علي أمره وهم يعلمون تماما تردي الأوضاع الطبية بالسودان أما الأجهزة الأمنية فلهم مميزات تختلف عنبقية البشرية

  3. كنت اتمنى ان اقرأ شيئا خلال السطور يوضح ما الذي جرى لذلك الطفل وأين هو الآن وقد بلغ عمره أربعين عاما. شكرا أستاذة بدور.

  4. هل كان وضع الاطباء زمااااان ذي وضعهم اليوم؟؟؟مالكم كيف تحكمووون…
    عينك في الفيل تطعني في الحيطة القصيرة…الانحطاط صار عام في جميع الخدمات وللاسف طال حتي اخلاق الناس بما فيهم بعض الاطباء الذين طالتهم لعنةالكيزان …

  5. و الله يا سيدتى انتى حضرتى زمن كل اناس راضى عن مهنته مطمئن لحاله و هؤلاء العظماء درسهم الشعب السودانى و اتم علمهم بعرقه فكان ان حسوا بهمومه و المه و الان لا تستطيعى ان تلومى اى طبيب عمره 50 عام فالدولة لم تدفع مليما له و هاجر و اغترب و دفع حتى تدريبه للدولة و لتعلمى اكثر فالان الاطباء يساهرون و يضربون من قبل رباطة النظام و لا احد ينصفهم او يحميهم فماذا تنتظرى من طبيب بنى على الذل و الجوع و الفقر اذا تعلم و وصل الى اعالى العلم ليس اكثر فى تأمين نفسه ماليا لانه يعتمد على عافيته و عقله و اما ارهاق الفحوصات انظرى الى الشكاوى اليومية فى المحاكم فالان المريض يعى حقه تماما و الطبيب لا يتخذ قرارا دون معينات التشخيص و اخيرا ابحثى عن من حطم جميع القيم و الموروثات و ستجدى الطبيب بريئا من كل هذا

  6. داك كان زمن الأطباء حريصين فيه على أخلاق المهنة بان يبذلو ما في وسعهم و الأيام دي الأطبا الا من رحم ربي دايرين المريض يبذل كل ما في جيبه

  7. قال رجل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب: لماذا اجتمع الناس على أبي بكر وعمر واختلفوا عليك؟ قال: لأن رعية أبي بكر وعمر أنا وأمثالي ورعيتي أنت وأمثالك.
    لو كانت اخلاق الشعب السوداني مثل اخلاقك انتي وزوجك الفاضل زمان لكان الطبيب مثل طبيب زمان .
    اكاد اجزم انك لو مريتي بنفس الموقف اليوم لاختلقتي مليون مشكلة وسؤال للطبيب المعالج وربما يذهب زوجك لابعد من هذا :
    ( ليه ماعملت ليو اشعة ولاموجات صوتية وووو , وبعد دا كلو كان ح تمشو لدكتور ثاني لانك ما اقتنعتو بكلام الدكتور الاول واهدرتي الزمن الثمين و وتزداد حالة طفلك سوءا ووتزداد عصبيتكم علي الكادر الطبي وفي النهاية تجو تقولو والله دكاترة الزمن دا وتتكلمو عن الاهمال والاخطاء الطبية ).
    والله يا جماعة الطبيب السوداني بخير ولكن السودان هو الذي ليس بخير , شوفوا الاشادات المتواصلة بالاطباء السودانيين بالخارج .
    بالمناسبة عشان الطبيب في الزمن دا يقعد يحرس ليو مريض واحد لمدة اسبوعين ويقفل عيادتو الا يصوم واسرتو تصوم معاهو واحتمال يموتو جوعا , زمان كنا بنقعد في بيت العرس وبيت البكاء اسبوعين ونخلي مشاغلنا وامورنا ماشة زي ماعمل دكتورك دا .
    زي ما اتفق معظم المعلقين انو التدهور الحاصل هو تدهور عام في كل المهن ومناحي الحياة في السودان وليس حكرا علي الطب والاطباء .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..