غربة … بثمنها!

صديقان ربط بينهما ود ووئام منذ نعومة أظفارهما. فقد ولدا وترعرعا في قرية من قرى وسط السودان. تعلما في نفس المراحل الدراسية من الإبتدائي وحتى الجامعة. اغتربا معاً في 1989م. وبعد سنة كاملة من العمل في بلاد الغربة، قاما بترتيب أول زيارة لهما لأرض الوطن. كان ذلك في خريف 1990م.
ولأنهما يعملان في مكان واحد، فقد كانت حصيلة توفير كل منهما نحو الثلاثين ألف دولار. حولا المبلغ إلى الجنيه السوداني. قبض كل منهما نحو 368 ألف جنيه سوداني، الجنيه ينطح الجنيه. وكانت تلك ثروة كبيرة بمعايير ذلك الزمان، وقياساً بماضيهما في القرية وبين أهليهم البسطاء.
أحدهما اشترى عربة نقل وأوكل خاله بإدارتها وتحقيق دخل يكفيه ويفيض على بقية أفراد الأسرة. وعاد إلى غربته، تغمره السعادة ويملأه الرضا عن النفس.
الثاني قرر أن يفتح حساباً مصرفياً في إحدى البنوك الإسلامية وقد بدأت تتكاثر في البلد كالفطر في أرض خصبة. فتحوا له الحساب، واستلم دفتر شيكات بورق أخضر بهيج، وضعه في شنطة السامسونايت الجلدية، وسافر مودعا وسعيداً من حيث أتى.
بعد ذلك لم يفكر الاثنان في العودة لظروف شتى يطول شرحها. المهم كانا كأهل الكهف. ناما ربع قرن كامل، وعادا في مطلع هذا العام تحديداً.
الذي اشترى عربة النقل وجد خاله يشتكى مر الشكوى من مصاعب العمل في قطاع النقل وكثرة الجبايات، وشراسة تحصيلها، ونصحه بالابتعاد عن هذا المجال مستقبلا، ولم يفهم منه شيئاً عن مصير العربة والاستثمار الذي ذهب هدراً. وآثر أن يظل الاحترام والود بينهما، وألاّ يترك مجالا للمال الزائل حتى لا يفسد ما ينطوي عليه قلبه من حب صادق وعاطفة جياشة تجاه خاله.
أما الذي أودع مدخراته في البنك، فقد ذهب ووجدها كما هي لم تنقص في عددها بالجنيه. لكن قيمتها الشرائية تدهورت فوق ما يتصور المرء. فقد كانت تعادل 30 ألف دولار. يذكر ذلك جيداً. الآن أصبحت بالدولار لا تتجاوز المائة وأربعين. نعم مائة وأربعون دولاراً. أين ذهبت 29860 دولاراً؟
طلب مقابلة مدير البنك، وأعرب له عن السخط مما لحقه من ضرر؛ وهو أشد حرصاً على معرفة من هو المسؤول عن هذا الضرر. مدير البنك، بلحيته السابلة وأناقته الباينة وبشرته ذات الطراوة المجلوبة، كان ودودا، والحق يقال. بعد أن تأمل في وضعه ملياً، لخص موقفه بعبارة مازحة ذات مغزى: الجاتك في مالك سامحتك!
لكن صاحبنا اعتبر الأمر جريمة، ولابد من معرفة الجاني، ولا يعقل أن تسجل الجريمة على مجهول. ولابد من عقاب.
وبعد نقاش طويل، قال له مدير البنك: أين كنت طوال هذه المدة؟ ولو أنك عدت بعدها بسنة أو سنتين لتداركت الأمر قبل أن يستفحل.
نعم، أيقن أن غيابه الطويل عن بلده هو الذي أضاع ما يدخره من قيمة. أدرك لأول مرة صدق مقولة: «ما ضاع حق وراءه مطالب».
قرر من فوره أن يظل في بلده ليساهم مع آخرين في تغيير هذا الواقع الآخذ بالتدهور. بدأ يدرك أيضاً أن الجهات المستفيدة من هذا التدهور تتمنى أن يظل الناس في الكهف لأطول فترة ممكنة.
لكن هيهات!!!

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..