“صورة قلمية : الخرطوم بالليل : صدي نوستالجيا 1 – 2 ”

ثلاثة انظمة عسكرية حكمت السودان, الأول بدأعام 1958 وانتهي بثورة شعبية في عام 1964 والثاني من عام 1969 حتي اطاحت به إنتفاضة شعبية ايضا في عام 1985 ,اما الثالث فهو الأطول عمرا وليس مهما ذكرتاريخه لأن الجميع يعرفونه.
كان نظام 17 نوفمبر برئاسة الفريق ابراهيم نظاما عسكريا علمانيا ,في عهده تمنح رخص الحانات , والحانات نفسها كانت مفتوحة وعلي مقربة منها كانت بيوت الله مشرعة ابوابها يرتادها المصلون بخشوع وهدؤ بينما ,رواد أخرون يدخلون فيما يختارون بعد صلاة العشاء فيتبينون مايقولون.
وفي شهر رمضان كانت المطاعم ترخي ابوابها حتي منتصفها فيري المارون بالطريق اقدام المفطرين من مسلمين ومسيحيين وهم يتناولون وجباتهم بطمانينة فيهم المريض , والذي لايصوم اصلا,,مشهد عادي لا دهشة ,أو إحتجاج عليه ,فالحياة تسير هادئة مطمئنة ,مواطنون يؤدون شعائرهم في بيوت الله , واخرون يرفهون فيما يختارون من اماكن ,ولا احد يسأل احدا ,فالسؤال لله وحده ,وليس من حق بشرسؤال بشر.
كانت بيوت الليل تتخلل الأحياء السكنية في انحاء العاصمة المثلثة دون تذمر اوتحرش من اصجابها ,وكان كل ما يفعله الذي يجاوره “بيت ليل”ان يعلق علي باب منزله لافتة صغيرة مكتوب عليها “منزل احرار” تفاديا للبلس قد يحدث لرائد ليلي يطرق بابا بالخطأ ,وحتي الذين كانوا يرفضون هذه الظاهرة ويقاومونها فأن مقاومتهم لها لاتتعدي الجلوس علي الكراسي خارج المنزل تحت ضوء ساطع الي منتصف الليل ليهرب الرواد خصوصا الشخصيات ذات المكانة الوظيفية في الخدمة المدنية فتتعطل مصالح صاحب ,اوصاحبة البيت فيضطران الي الرحيل او يعقدان مصالحة مع هؤلاء الشباب لتدورالعجلة الليلية دون عصي تعوقها ,وفي غسق الفجرتطالع مشهدا لشرطييين يركبون احصنتهم يحفظون الأمن ويلتقطون السكاري المشاغبين يركضون بهم رجل تلامس الأرض ,واخري في الهواء الي اقرب مركز للشرطة ليقضوا ليليهم في الحراسات حتي صباح اليوم التالي فيعرضون علي محاكم العمد فيجلدون لابسبب تعاطيهم الخمر,ولكن بسبب تعكيرهم صفو الأمن .
كان هذا النمط من الحياة الإجتماعية سائدا في نظام 17 نوفمبر العلماني وارثا اياه من الديمقرا طية الأولي وفي الوقت نفسه كان يعالج مشكلة الجنوب بتجريد الحملات العسكرية لقتل الجنوبيين معتبرا الحرب هناك حربا دينية بين الكنيسة والجامع, فعمل علي فرض اللغة العربية بالقوة علي المدارس تصاعدت المواجهة حتي أغلق الإرساليات وطرد القساوسة الإيطاليين فثار الفاتيكان مستنكرا الحرب الدينية التي يشنها النظام ضد الجنوبيين.
فعل 17نوفمبر كل هذا من منطلق ديني حقيقي دون زيف اورفع شعارات خادعة مثل هي لله ,كان رجاله مسلمون يؤدون الصلاة ويخرجون الزكاة ويحجون الي بيت الله الحرام , لم يعلنوا مشروعا حضاريا , ولم يفتحوا بيوتا للاشباح ولم يتدخلوا بين العبد وخالقه ,فكل ملاقيه يوم القيامة فردا .
.في عهد عبود لم تكن هناك جرائم جنسية بهذا العدد المهول في عهد الأبالسة فأشهر جريمتين غامضتين كانتا قتيلة الشنطة , وقتيل المقرن اللتين شغلتا الصحف يومذاك.
ابقي حكمهم كسابقه المدني علي ماتركه الإنجليز من قوانيين تنظم الحياة والإنجليزعندما سمحوا للحانات وبيوت الليل ان تستقبل الناس لم يفعلوا ذلك لمحاربة الإسلام واشاعة الرزيلة في المجتمع ,ولكنهم نقلوا ثقافتهم التي تري في الجنس غريزة طبيعية في الأنسان والحيوان معا ,فصاغوا القوانين التي تنظم هذه المهنة ,وخصصوا كما في بريطانيا لبنات الليل بطاقات صحية يجري الكشف عليهم دوريا تحوطا من الأمراض الجنسية .

في ذلك الزمان كان الناس يعرفون طريقهم بعد سهراتهم الليلية فلا احد كان يفكر في إغتصاب طفلة , اوالتهجم ,اوالتحرش بإمرأة ,او يتسور سورا لإنتهاك حرمات فأسواق المتعة موزعة علي المدن الثلاث ,الخرطوم, ام درما ن, وبحري فهناك اسماء مشهورة تدير هذه البيوت,كانوا نجوما في المجتمع ,يقودون افخر السيارات ويلبسون افخم الملابس ,ولهم نفوذ في دوائر الحكومة , ومحامون يدافعون عنهم وهم بذلك كانوا مصدات لكثيرمن الجرائم الجنسية والتفسخ الأخلاقي الذي نشهده اليوم.
عندما جاء النميري بثورته المايوية كان كل شيء علي حاله, الليل بفنادقه الآنيقة الساهرة صحاري ,والإكسيلسيور , الواحة , وكوبا كوبانا والبيون ,ورويال ,وفكتوريا ,والأتينيه ملتقي المثقفين والشعراء, محمد عبد الحي عبد الرحيم ابو ذكري ,عبدالله جلاب ,الدوعالي , عثمان خالد,علي عبد القيوم , علي المك , صلاح احمد ابراهيم , جادين , وبشير الطيب ,وكجراي قادم من كسلا الخضراء.
شارع الجمهورية بمحلاته التجارية الراقية مضاء حتي منتصف الليل وعرسان جدد يتسوقون كأنما هم في بيكر استريت ,او في شارع الحمرا ببيروت, وعلي مقربة من قسطاكي سليم جنبرت صالة سان جيمس تصدح فيها فرق اجنبية من اليونان وإيطاليا,يرتادها برجوازيون صغار ,وافندية من الطبقة الوسطي ,واجانب مهندسون ,وفنيون من الإتحاد السوفييتي ,واوربا الشرقية استقدمتهم الحكومة لمشاريعها العمرانية والأمنية معا.
واذا قفلت راجعا حتي فندق الليدو بالقرب من سوق الخضروات فهناك تسمع موسيقي صاخبة تنبعث من “القوردن ميوذيك هول” تحت إدارة الخواجة العجوز انستاس جيمي, فرق راقصة تحت الأضواء الملونة من اليونان , وقبرص, وتجار اغريق وارمن , ويهود , ومسئولو دولة كبار , ورؤساء تحرير ,وصحفيون كان لهم بلكونة خاصة .
وعلي شارع النيل شمالا, تملأ صدرك رائحة الفل والياسمين تنبعث من جهة الفندقين الكبير , والسودان , كراس من الخيزران مرصوصة قبالة النيل تهب علي جالسيها نسائم محملة بروائح اشجارالليمون من جزيرة توتي , نوادل بجلابيب بيضاء , واحزمة خضراء علي اوساطهم ,مهذبون مؤدبون يقدمون في كباب مثلجة ندية الليمون ,والتمرهندي ,والليمونادة عليها شعار السكة الحديد وعند مدخل الفندق صاله واسعة جلوس او قوف عليها اعضاء مجلس ثورة ووزراء , ووكلاء وزارات , وكبا ر ضباط جيش ,وشرطة واطباء مشهورون واصحاب مشاريع من النيل الأبيض ,ومفتشو غيط من مشروع الجزيرة .
وقبل ان تعبرالجسر الي ام درمان ” تقع في عيونك ” حديقة المقرن بأشجارها المخضرة المتشابكة الباسقة تنسرب من بين اغصانها روائح الشواء يستنشقها راكبوالطراحات العابرون الي منازلهم في ام درمان ,تتزين المقرن كل مساء لأستقبال الأفندية معطرون انيقون من العمارات ,وبحري , والديوم والسجانة وبري , اصدقاء يلتقون في امسيات رائعة تداعب اذانهم اصوات “موترات” بعيدة تحملها نسائم منعشة,فيجن الليل فتسمع غناء مختلف الوانه من طاولات بعيدة ومتقاربة “هوي ياليلي” و”السراي” وما شقيتك, ومابنخاصمك وياخائن ,و ماهو عارف قدمو المفارق , في كل طاولة فنان للمجموعة يشدي فيطرب فيدفعون الحساب شراكة ويركبون طراحات تعمل حتي مطلع الفجر,خمسة قروش الي اي مكان في العاصمة المثلثة .
تتنوع المشاهد , ففي امدرمان ترقد علي ضفاف النيل حدائق الريفيرا ,والجندول والموردة والنيلين , وفي بحري حديقة عبود , وفي الخرطوم 2 ,حديقة القرشي,ومطعم السليماني ,والإسكرابيه ,والجيبي,والبستان والنادي الأثيوبي واذ تعبرمسافة تلوح لك حي الزهور وديم كوريا ,وتعرج جنوبا الي العمارات شوارع نظيفة مرصوفة تسير فيها سيارات التاكسي ليل نهار, حركة دائبة لاتنقطع سائقوها يحملون “مبسوطين “تتعذر عليهم معرفة بيوتهم فيصبرون عليهم حتي ايصالهم اليها ويأتون اليهم في اليوم الثاني لأخذ اجرتهم , او يعفونهم عنها إذا عزعليهم الدفع .
استمرهذا الحال مجتمع اناسه متدينون بالفطرة يصلون جماعة امام بيوتهم ومحالهم التجارية ,متصالحون, متسامحون , صادقون , كرماء ذوي مرؤة, لم يسمعوا بسيد قطب ولا حسن البنا ,ولا محمد عوده, حتي ظهر كالنجم المذنب في سماء معتمة اكبر شياطين جحيم دانتي ,فتحول النميري من الكرملين الي الجامع ومن ماركس الي ابو الأعلي المودودي,ومن راقص في القعدات الي درويش ذاكر في ام ضوابان ,وكركوج ,تنشر صحفه صوره وهو راكع وساجد “مستغرق” , وخطيبا عييا في مسجد القوات المسلحة امير للمؤمنين, فامتلآ القصر بسحن مختلفة من المشعوذين كان لهم سماسرة يجلبونهم من سنار,وسنجة ,والقضارف, يتسابقون اليه بلحي كالعويش ومسابح من ثمر اللالوب يوقدون البخور في ردهات القصر, وسيد القصر سادر في متاهته الجديدة ,مكفّرا هاربا بروحه المعذبة من ذنوبه ,تطارده اشباح ضحاياه في إعدمات الشجرة , والحزام الأخضر ,يصرخ مذعورا مفزوعا في مقديشيو وهو ضيف علي سياد بري حتي ظن حراسه ان اعتداء وقع عليه .
في مسيرة الإستبداد الجديد باسم الدين كان “شرشبيل” يضع اولي لبنات الشرور في السودان , لبنات من مخازيها تسور المنازل , وإنتهاك حرمات الأسر, وإعتقال الناس وإذاعة اسماؤهم في نشرات الثالثة مساء ونصب خيم ما اسماه العدالة الناجزة وفي غمرة , صحوة النميري وإنتقاله من حال الي حال , وفي احتفال كبيرعلي شاطيء النيل حضره “شرشبيل” كانت الأسماك تسكر من الالاف من زجاجات الويسكي ,والشري , والبيرة التي ادلقها النميري معلنا بعدها ما اطلق عليه “القيادة الرشيدة ” مجبرا الوزراء , والتنفيذيين علي كتابة تعهد شخصي بترك الشرب ,او المحاسبة الشديدة التي تصل حد الإعلان في الإذاعة والتلفزيون وبدلا من القضاء علي الظاهرة إنفتحت الحدود مع السودان لتجري اكبر عمليات تهريب للخمورمن اثيوبيا ,واوغندا ,وكينيا ,وداخليا نشطت تجارة العرقي فتحول العلني الي سري فخاب مشروع “شرشبيل “, مثلما خاب مشروع مهدي مصطفي الهادي ليدشن النميري او فصل من فصول الدعارة السرية.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. ياسلام الاستاذ صديق محيسى ..
    يالها من صورة وياله من قلم وحنين
    واصل ، ونتابع وفى القلب مليون حسرة
    وحسرة ، على وطن كان زينة البلدان .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..