الدستورُ الجديد،،هل سيصبح مصدراً للاختلاف والشتات؟

إدريس حسن

لم يكن مستبعداً أن ترفض هيئة أحزاب المعارضة وبصورة مسبقة المقترح الذي تحدّث عنه الرئيس البشير حول تكوين لجنة لصياغة الدستور الدائم للسودان.. وليس غريباً أن تتجاهل الحكومة دعوة المعارضة للمشاركة في وضع ذلك الدستور.. فهذا هو حال الممارسة السياسية في السودان منذ أن نال استقلاله قبل ستة وخمسين عاماً.. وهي الممارسة التي أدت الى النتيجة المعروفة والماثلة امام ناظرينا.. وهي أن يبقى السودان دولة بلا دستور دائم يحكم العلاقات بين مكونات الدولة المختلفة.. وذلك بعد سلسلة من التجارب الدستورية الفاشلة التى لم تحظى بموافقة أغلبية إجماع الامة عليها، وهكذا ظللنا «نلف وندور» في متاهة اسمها الدساتير الانتقالية، لدرجة اطلق البعض على السودان انه دولة يعيش من الناحية الدستورية في حالة انتقال مستمر لم يتوقف منذ الاستقلال الى يومنا هذا.

ولا جدال أنّ واحداً من المعايير التي تعتمدها المنظمات والهيئات الدولية في تصنيف الدول الى ناجحة وفاشلة هو معيار «استقرار وفاعلية الدستور والقوانين».. فالدول الناجحة تحافظ على دساتير ثابتة لا تتغير أبداً «وإذا دعت الضرورة القصوى.. يتم تعديل بعض بنودها لتستوعب المتغيرات التي تحدث».. وهو تعديل لا يحدث إلا بعد عشرات السنين.. ولا يتم اعتماد التعديل إلا بعد عرضه في استفتاء شعبي.. ويمضي المعيار ليقيس احترام الشعب وأجهزة الدولة للقانون نفسه من خلال التطبيق الفاعل.. ولكنّ الحال عندنا يكاد يصيبنا باليأس من أن نرتقي في يومٍ من الأيام الى مصاف الدول المستقرة.. ونتيجة لظروف عدم الاستقرار التي نعيشها في كافة مناحي الحياة نكاد نرى الاستقرار المنشود هدفاً بعيد المنال رغم اننا جربنا كل انواع الحكم وبآيديولوجياتها المختلفة، وطبقنا كافة انواع الدساتير الاسلامية والعلمانية والفيدرالية..الخ،

لكننا لم نحصل على ضالتنا في واحدة منها، ولكن ثبت لدينا بالبيان القاطع والبرهان الساطع ان العيب لم يكن في ما تضمنته تلك الدساتير من مواد قانونية ودستورية، وانما العيب فينا لأننا لم نتفق في يوم من الايام وبإجماع وطني على ما يجمع شملنا ويوحد اهدافنا، بل وصل بنا الحال الى ان نختلف حتى حول استقلالنا «هل هو استقلال تام ام وحدة مع مصر»، بل اختلفنا ايضا حول وحدة السودان «التي تكاد الآن بعد انفصال الجنوب أن تكون في مهب رياح عاصفة تبعثر الوطن الى اشلاء متناثرة، ولكننا ومع ذلك نحلم بأن نرتقي لمصاف الدول التي بجوارنا.. ولا بد لنا هنا ان نشيد بقدر كبير من الاحترام بالشعب المصري الشقيق لأسباب عدة، وأول تلك الأسباب هو احترامه للدستور الذي يحكم كلّ الحياة في مصر، بدليل أنّه وحين طالب الشعب المصري بمطلبين الأوّل تنحي الرئيس والثاني تعديل الدستور، وبعد ان أعلن اللواء عمر سليمان عن تنحي الرئيس حُسني مبارك احتدم جدل قانوني كثيف حول «الشخصية السيادية التي سوف تنظم التعديلات الدستورية»، ذلك لأنّ الدستور يقول إنّ الرئيس ــ وفق الدستور ــ هو من يدعو الشعب المصري للاستفتاء والإدلاء برأيه في التعديلات الدستورية.. والرئيس ــ بحكم منصبه ــ هو من ينظم عملية الاستفتاء حول الدستور سواء أكان ذلك بالإضافة أو الحذف، ودار جدل قانوني حول «من سيقوم بتنظيم الاستفتاء وإجراء التعديلات إذا ذهب حسني مبارك وهو الشخص الاعتباري الذي يخوِّل له الدستور مثل هذا الإجراء؟». وقد أثبتت تلك التجربة العصيبة التي مرَّ بها الشعب المصري انّه شعب يدرك مسؤولياته نحو بلاده، ولذلك تمسك بأن تكون السلطة خاضعة للدستور والقانون. وبالطبع فإن ذلك امر لن يتحقق ما لم يكن عليه اجماع من الامة، وقد تبين ذلك بجلاء بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير. وقد تبين بصورة لا تقبل الجدل ان شعب مصر وقادته يحترمون دولة المؤسسات التى لا تجد الحماية لها الا في ظل الدستور المتفق عليه من الجميع، وهذا هو الحال الذي ينبغي أن تكون عليه كلّ الشعوب التي تريد أن تمضي الى الإمام.

إنّ المراجعة السريعة للتجربة السياسية السودانية تبين لنا انّنا مازلنا بعيدين عن مثل هذه الممارسات الراقية والواعية.. وهذا لا يعني انّنا ظللنا بلا دستور يحكمنا طوال هذه العقود الخمسة!! فقد كانت لدينا تجارب دستورية.. ولكنّها تجارب متقطعة وانتقالية.. وتعددها بتعدد الانظمة الحاكمة، ولم يحظ السودان خلال تلك العقود بدستور دائم يُفصِّل العلاقة بين السلطات المختلفة «التنفيذية والتشريعية والقضائية والصحافية ومؤسسات المجتمع المدني»، ويحسم الكثير من القضايا التي مازالت عالقة، مثل قضية الهُوية «هل نحنُ شعب عربي أم أفريقي؟»، ويبين مرجعية الحقوق والواجبات «هل هي المواطنة ام الدين أم العرق؟»، ويحسم جدل النظام السياسي «هل هو برلماني أم رئاسي أو نظام هجين بينهما؟»، ويضع أسس النظام الاقتصادي «هل هو اقتصاد اشتراكي أم اقتصاد رأسمالي أم هو نظام آخر؟».. وينظم العلاقة بين مستويات الحكم المختلفة.. لكنّ المسألة الدستورية عندنا ترتبط بتوجهات النظام السياسي الحاكم.. وما يلبث أن يذهب الدستور بذهابه..

وقد سبق للسودان أن أصدر الكثير من الدساتير في خلال العقود الخمسة الفائتة في فترة ما بعد الاستقلال، وكان أولها هو دستور «استانلي بيكر» وهو حقوقي بريطاني عمل قاضياً في أنجلترا ثمّ مستشاراً لحكومة الملكة.. وتمّ تكليفه بوضع دستور للسودان الجديد المستقل.. وقد حوى ذلك الدستور عدداً من البنود العامة ومجموعة من القوانين التي عملت بها حكومة الفريق إبراهيم عبود. ثمّ أعقب ذلك عددٌ من المحاولات لاصدار دساتير في مرحلة ما قبل أكتوبر.. وقد اصطرع الإسلاميون واليساريون في ذلك الوقت على شكل الدستور ومرجعياته، وكان الحزب الشيوعي السوداني وقتها هو الاعلى صوتاً واكثر تأثيراً في الساحة السياسية، وذلك في خضم الموجة التاريخية التي جعلت الشعارات الشيوعية أكثر جاذبية، بالاضافة الى مجموعة الأحزاب اليسارية، بجانب تضامن كل القوى السياسية الجنوبية معهم بصورة أدت في النهاية الى الوقوف عقبة في طريق الدستور الإسلامي.. ولكن بمجيء انقلاب مايو والذي اطاح بالحكومة الديمقراطية.. وتقلب في السياسات متنقلاً من اليمين الى اليسار، وفي أحد تلك التقلبات السياسية فرض الرئيس الأسبق جعفر نميري الدستور الاسلامي الذي رفضته الأحزاب المعارضة وسمته «قوانين سبتمبر». ورحلت مايو بانتفاضة أبريل.. وجاءت بعدها الأحزاب.. وتكرر ذات الصراع بين أهل اليمين واليسار.. وتمّ إيقاف العمل بدستور النميري.. وهكذا استمر الصراع والانتقال بين الحكومات الديمقراطية والعسكرية، وتأتي كل حكومة بدستورها وتلغي الدستور الذي وضعته الحكومة التي سبقتها.. وحينما تأتي الحكومة الجديدة بمسودة «دستور» فهي لا تتبع الخطوات المعروفة لإجازة الدستور مثل الشورى السياسية والاستفتاء الشعبي.. بل تأتي بدستور فوقي يصنعه الساسة في الحكومة ويطبقونه على الشعب حتى دون ان يمر بالمرحلة المهمة وهي استفتاء الشعب حوله.. ومعلوم أنّ الدستور يُوضع في الأساس من أجل حكم الشعب وتحقيق مصالحه، وحتى لو قام أيِّ نظام بتنظيم استفتاء يكون في العادة استفتاءً صورياً تكون نتيجته معروفة مسبقاً بحيث يحصل على 99.9% من عدد الناخبين المصوتين للدستور، وهي النسبة التي طالما أضحكت علينا الآخرين بحسبان أنها نسبة خيالية لا تتحقق في العالم الواقعي.

إنّ الدستور الذي يحكمنا الآن هو الدستور الانتقالي لسنة 2005م أو ما يُسمى «دستور نيفاشا»، والذي وضع بعد التوقيع على اتفاقية السلام الشامل بمنتجع نيفاشا بين الحكومة والحركة الشعبية، حيث تمَّ تضمين كل بنود الاتفاقية لتصبح جزءاً من الدستور، وبالطبع هو دستور غير متوافق عليه لأنّه تمّ بين طرفين فقط من الاطراف الكثيرة التي تمثل المعادلة السياسية في السودان، لهذا لم يجد القبول من بقية الاطراف تماماً كما هو الحال بالنسبة لاتفاقية نيفاشا نفسها التي اعتبرتها بقية الأحزاب السياسية مجرد اتفاقية بين حزبين سياسيين بمعزل عن بقية الأحزاب، ولهذا فإن الدستور الحالي المنبثق عن اتفاقية نيفاشا وبغض النظر عن رأي الأحزاب السياسية المعارضة فيه.. فهو يعتبر دستوراً «مرحلياً أو انتقالياً» انقضى اجله بعد أن انتهت الاتفاقية بانفصال الجنوب وكوّن دولته المستقلة. ورغم ذلك مازالت النصوص الخاصة بنيفاشا موجودة بالدستور.. لهذا لا جدال في أنّ الدستور الحالي يجب أن يتغيّر بدستور جديد.. ومن هُنا تبدأ المشكلة.. فالأحزاب المعارضة تفتقد الثقة في الحزب الحاكم.. والأخير ينظر اليها بعين الريبة والاستصغار.. وأكبر دليل على ذلك أنّ تحالف أحزاب المعارضة رفض «مسبقاً» تشكيل لجنة لتقديم مقترح الدستور.. حتى دون أن يغوص في حيثيات اللجنة وصلاحياتها وعضويتها.. بل رفضها مسبقاً «حتى لو جاءت مبرأة من كل عيب»… وفي الجانب الآخر فإنّ الحزب الحاكم لم يفتح لها باب التشاور حول الدستور الجديد.. ولم يفعل سوى تقديم الدعوات لها عبر الإعلام، وهي دعوات ليست أكثر من «عزومة مراكبية» كما يقولون لا تأخذ طابعاً جدياً ولا تعترف بأحزاب المعارضة ولا من تمثلهم.. وهذا سيدفع المعارضة لعدم الاعتراف بالدستور الجديد.. والمعلوم أنّ قيمة الدستور تنبع من احترام الشعب له.. بحسبان أنّه دستور معبر عن ارادة الامة وليس دستور «حكومة» ينتهي بنهاية صلاحيتها.. ولكن الإصرار على التفرد بوضع الدستور هو عين الخطأ الذي يتحوّل بالإصرار إلى خطيئة.. فالحكومة أخطأت وهي تتجاهل كل أحزاب المعارضة.. وهي تعلم أنّها تمثل جزءاً معتبراً من هذا الشعب.. وأخطأت أحزاب المعارضة حين رفضت الأمر بهذه الطريقة.

إنّ الدستور القادم يجب أن يصبح مصدراً للإجماع والوحدة الوطنية بالالتفاف حوله.. ولكنهّ بهذه الطريقة سيصبح مصدراً للخلاف والشد والجذب وتضييع ما تبقى من مكتسبات البلاد.. كما أنّ الشروع في حسم مسألة الدستور في الوقت الراهن ليس من أولويات المرحلة.. بل الأسبقية يجب أن تذهب لإخماد نيران الحروب التي تأكل أطراف الوطن وتستنزف موارده.. فالشروع في تغيير أو حتى تعديل الدستور في هذا الوقت سيبعد عدداً معتبراً من المواطنين المكتوين بنيران الحرب من دائرة المشاركة.. فالاوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في السودان معقدة وتزداد تعقيداً يوماً بعد يومٍ.. ونحتاج إلى أن نزيل ذلك التعقيد قبل الشروع في كتابة الدستور الدائم.. ولهذا ليس هناك داعٍ للعجلة في أمر الدستور الآن.. فنحنُ بصدد دستور يجمع ولا يفرِّق.. دستور يشارك فيه الجميع ليحترمه الجميع.. فقد مللنا من الدساتير التي تفصلها لجان الخبراء في الغرف المغلقة بعيداً عن تطلعات الشعب.. وإلا سيكونُ حصاد ما بعد كتابة الدستور هو ذات الحصاد المُر الذي نحصده منذ الاستقلال.
وأخيراً فإننا نرى أن الفرصة باتت مواتية لأن ننظر للأمور بجدية، لأن البلاد باتت الآن محاصرة بكثير من الأزمات.. أزمات تكاد تطيح بنا الى هاوية سحيقة.. والمطلوب أن نوحد صفنا ونجمع شملنا، لنمضي على الطريق الصيح الذي يحقق لبلادنا الاستقرار ويؤمنها من المخاطر، ولنحافظ على بلادنا من مواقع الذل والهوان.

الصحافة

تعليق واحد

  1. نعرف شيئ واحد فقط
    50% من موارد اي إقليم له و 50% الباقية تقسم على عدد السكان
    الخدمات ضرائب تذهب تماما الى غرضها (( تجميل مدينه يعنى تعرف كم داخل الأقليم وتذهب لتجميل المدينة )))
    بعدين العايز يربى دقن الى الركب ما عندنا معاهو مشكله
    المال يوزع على الشعب مش حكام يهربوه شئ للتنظيم العالمى وشيئ لعلاج الأُسرة وكله لف ودوران

    بعدين الكريه دى لا بتموت لا بتفوت

  2. لا وقت لدساتير يركلها المهبول البشير بقدمه متي شاء..اقتلاع هؤلاء السفلة واجب وطني بكل الوسائل المتاحة وجعل المدن التي يظنونها امنة اضيق من خرم ابرة،لان من امن العقاب نكل بالعباد

  3. اوافقك الراى بان الوقت الراهن ليس مناسبا للنظر فى امر الدستور الدائم .. و لكن هذه حجة العاجز بالهاء الآخرين عن مشاكلهم الحقيقية بامور انصرافية لا تقدم ولا تؤخر بل تزيد الامور تعقيدا الى ان يقضى الله امرا كان مفعولا .. اذ نعيش حاليا فى فراغ دستورى منذ 2011 تاريخ انقضاء دستور نيفاشا الانتقالى وانفصال الجنوب ..

  4. الحكومة غير ديمقراطية وجات بانتخابات مزورة والجوغير مناسب والحكومة دي من قبل دستور 2005 دا ما كان عندها دستور مفصلاه براها هوالغرض خم الناس وبس ام حل للمشكلة الان نحن ما عاوزين دستور

  5. استاذ ادريس انت صحفي قديم و لا بد ان تماشي العصر فلا يوجد لدي الكثيرين وقت لقراءة المقالات الطويلة و قديماً قيل خير الكلام ما قل و دل و هي حكمة انت ادري بها

  6. التحية إليك معلم الأجيال أ / إدريس حسن الضمان الوحيد لكي يكون الدستور متوافق عليه ومجمع عليه هو تكوين حكومة انتقالية تهيئ البلاد لانتخابات نزيهة تنتخب جمعية تأسيسية تجيز الدستور الدائم. خلاف ذلك يجب على الجميع أن ينظموا حملة توقيعات لمعارضة هذا الدستور الذي يريده المؤتمر الوطني لضمان استمراره في الحكم.

  7. دستووووووور يابدرية الإنقلابية !!!!!! كملتي الدساتير والإنقلابات والغابات (طلح، شاف وكوليت) !!!!!!!!!!!!!!!!! أبو الزفت ذاتـــــــو!!!!!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..