نضالات ومواقف الجمهوريين عبر التاريخ هل كانت ظًلامٌ أم نُور 2

نضالات ومواقف الجمهوريين عبر التاريخ هل كانت ظًلامٌ أم نُور (جزء ثانى)

فى الجُزءِ الذى تناولنا فيه الحزب الشيوعى السودانى، إنتهينا إلى كيف تآمرت الجبهة الإسلامية وحزب الأمة بقيادة الصادق المهدى ضد الحزب الشيوعى، وتأوَّجت المؤامرة فى إستغلالِ حادثة ندوة المعهد العملى أم درمان وتصعيده وتحشيد الجماهير وتحريضهم ضد الحزب الشيوعى وانتهت المؤامرة إلى حَلِّ الحزبِ وطرد نوابه من البرلمان فى 18 ديسمبر 1965م.
وكيف أنَّ المتآمرونَ تنكَّرُوا لحُكمِ المحكمة الدستورية العليا التى حكمت ببُطلانِ قرار البرلمان بحَلِّ الحزب وطردِ نوابه. حيثُ قال الصادق المهدى أنَّ حُكمَ المحكمةِ الدستورية حُكمٌ (تقريرى) والصادق المهدى ليس عالمُ قانون ولم يُمارسَهُ حتى يقذف بالأحكامِ القانونية ضد حُكم أرفع محكمة فى السودان!، وهو ليس (لورد ديننيغ) الإنجليزى، ولا عالم القانون الدستورى السودانى دكتور محمد نور الدين الطاهر. ثُمَّ أنه لم يشرح للناسِ، حتى تاريخ اليوم، ما معنى قوله بأنَّ حُكمَ المحكمة الدستورية العليا هو (حُكمٌ تقرِيرى!).
أمّا دكتور حسن الترابى مُوقِظ هذه الفِتنة التى أقعدت بالسودان طويلاً فقد اصدرَ كتاباً فى يناير 1966م أى بعد شهر وآحِد من قرارِ المحكمة العليا بعنوان: (أضواء على المشكلة الدستورية) “بحث قانونى مبسَّط حول مشروعية حلّ الحزب الشيوعى”وتولّت مطبعة الخرطوم طباعته. والفكرة الأساسية فى الكتاب هى:(أنَّ الجمعية التأسيسية هى الجهة المُنَاط بها ممارسة السلطة الدستورية وهى مظهر السيادة التى تثبتها الدساتير للأمَّة من بعدِ الله. وبما أنَّ السُلطةَ التأسيسية هى التى تمتلكُ السيادة المُطلقة فإنَّ فصلَ السُلطات إلى تشريعية وتنفيذيِّة وقضائية تأتى فى المرتبة الثانية بالنسبة للسلطة التأسيسية، تأتى فى مقامِ الفرع من الأصل.)
ويثير كتاب الترابى العديد من الأسئلة: إذا كانت المحكمة العليا ليس لها حق النظر فى قرارات الجمعية التأسيسية فلماذا عُرضَ عليها الأمرُ من البداية ؟. ومن الذى يحكُم البلاد هل هو دستور السودان المؤقت لسنة 1964 الذى ينص على إستقلالِ القضاء ويعطيه الحق فى تفسيرِ ما ينشُب من خلاف حول تفسير بعضِ نصوصِه؟ أم الجمعية التأسيسية التى يمنحها الدستور سلطات محدودة وليست أحكامها كما يقول الترابي تعلُو ولا يُعلَى عليها. وهل لأنَّ الجمعية التأسيسية مُكلفة بوضعِ دستور البلاد تصبح فوق الدستور الذى يحكمُ البلاد؟.
وإزاء ذلك التحقير الذى قامت به السلطة التنفيذية للهيئة القضائية، وهى السلطة الحارسة للدستور والمفسِّرة له، اضطر السيد/ بابكر عوض الله رئيس القضاء السوداني وقتها، إلى الاستقالة قائلاً: (إننى لم أشهد فى كُلِّ حياتى القضائية اتجاهاً نحو التحقير من شأنِ القضاء والنيلِ من استقلاليتِه كما أرى اليوم.. إننى أعلمُ بكُلِّ أسف تلك الاتجاهات الخطيرة عند قادة الحكم اليوم، لا للحدِّ من سلطاتِ القضاء فى الدستور فحسب بل لوضعِه تحت إشراف السلطة التنفيذية).
هكذا كانت، وظلت الجبهة الإسلامية تبتزُّ القوى السياسية السودانية باسمِ الدين، والمُدهِش أنَّهم قاموا بتقنينِ طردِ نواب الحزب الشيوعى من البرلمان، عن طريق تعديل المادة/5/2 من الدستور التي تتعلق بحمايةِ الحقوق الأساسية، وهى المادة التى تُشكِّلُ جوهر الدستور، وبغيرها لا يكون الدستور دستوراً، ولا النظام الديمقراطىُّ، نظاماً ديمقراطياً.
فردَّ على كتابِ الترابى الأستاذ/ محمود محمد طه بكُتيِّبٍ كتبه سنة 1968م ردَّاً على كتابِ التُرابى أسماه: زعيم جبهة الميثاق الإسلامى فى ميزانِ: 1- الثقافة العربية 2- الإسلام. جاء فيه الآتى:
(أنَّ الكِتابَ من حيثُ هو فلا قيمة له ولا خطر، لأنَّه مُتهَافِت، ولأنَّه سطحِى، ولأنَّهُ ينضَح بالغرضِ ويتَّسِمُ بقِلّة الذكاءِ الفِطرى. ولو كان دكتور الترابى قد نفذَ إلي لُبَابِ الثقافة الغربية لعلمِ أنَّ المادة/5/2 من دستورِ السودان المؤقت غير قابلة للتعديل، وهذه المادة تقول: “لجميعِ الأشخاص الحقَّ فى حُرِّيَّةِ التعبير عن آرائِهم والحقُّ فى تأليفِ الجمعيات و الاتحادات فى حُدودِ القانون”، وهى غير قابلة للتعديل لأنَّها جُرثومة الدستور، التى إنَّما عليها التفريع.. وهى الدستور، فإذا عُدِّلَت تعديلاً يُمكِّنُ من قيامِ تشريعاتٍ تُصادِرُ حرِّية التعبير فإنَّ الدستورَ قد تَقوَّضَ تقْوِيضَاً تامَّاً.. ولا يستقيم بعد ذلك الحديثُ عن الحُكمِ الديمقراطي إلَّا عن طريقِ الديمقراطية المُزَّيفَة). هكذا عاشَ الأستاذ محمود محمد طه مُدافِعاً عن السودان ومُناضِلاً لتحقيقِ مستقبلٍ زاهِر لأهلِه.
أمّا الصادق المهدى صاحب مقولة أن حُكمَ المحكمة الدستورية العليا هو (حُكمٌ تقريرى!) دون أن يبيِّنَ للناسِ ماهو الحُكم التقريرى وكيف هو كذلك؟!. رجع مؤخراً جداً ليعترف بجُرمِهِ وإعتذر بحياءٍ فى العام 1985م لمُجلَّة طُلاب جامعة الخرطوم بقوله:(ما حدث كان إنفعال.. إن الذى حدثَ فى موضوعِ حَلِّ الحزب الشيوعى كان موقفاً سياسياً غير محسوب، نتجَ عن موقفٍ إنفعالى!!).
وهنا يظهر الفرق بين الغثِّ والثمين، بين المُتوَطِّن الراكِز فى قولِ الحق، وبين الأمَّعَة الذى يتبع المجرمين ويظاهرهم لتدمير الوطن. فليعرف الناسُ من أطفأ نورَ الوطن.
وقد نبَّه الأخوان الجمهوريين، باكِراً، لخطرِ الدستور الإسلامى المزعُوم. فقد كتبَ الأستاذ محمود محمد طه حول هذا الخطر الماحِق مقالاً نُشِرَ بجريدةِ (أنباء السودان) يوم 6/12/1958م جاء فيه:
(دعاة الفكرة الإسلامية فى هذا البلد كثيرون، ولكنهم غير جادِّين، فهم لا يعكفون على الدرسِ والفِكر، وإنما ينصرفون إلى الجماهير، يلهِبُونَ حماسهم، ويستغلون عواطفهم، ويجمعُونَهم حولهم بُغية السير بهم إلى ما يظنُّونه جَهْلاً دستوراً إسلامياً.. وهم إنَّما ينصرفونَ عن الدرسِ والفِكر، ظنّاً منهم أن الفكرةَ الإسلامية موجودة ومبَوَّبة ومفصَّلة، لا تحتاج إلى عملٍ مستأنف ولا إلى رأىٍ جديد.. فلسْتُ أريدُ أن أشُقَّ على أحدٍ من دعاةِ الفكرة الإسلامية، فإن أكثرَهم أصدقائي، ولكن لا بُدَّ أقرر أنَّ فى عملِهم خطرَاً عظيماً على الإسلامِ وعلى سلامةِ هذا البلد.. ثم يجب أن نعرفَ جيِّداً أن الإسلامَ بقدر ما هو قوة خلّاقة خيِّرة إذا ما انبعثَ من معينِه الصافي، واتصل بالعقُولِ الحُرَّة وأشعلَ فيها ثورتهُ وانطلاقهُ، بقدرِ ما هو قوَّةٌ هدَّامَة اذا ما انبعَثَ من كُدْرَةِ النفوسِ الغَثّة، وأثارَ فيها سَخَائِمِ التعصُّبِ والهوَس.. فإذا ما قُدِّرَ لدُعاةِ الإسلام الذين أعرفهم جيّدِاً، أن يطبِّقُوا الدستور الاسلامى الذى يعرفونه هُم، ويظنونه إسلامياً، لرجَعُوا بهذه البلاد خطوات عديداتٍ إلى الورَاءِ، ولأفقَدُوها حتى هذا التقَدّم البسيط، الذى حصلت عليه فى عهودِ الاستعمار، ولبَدَى الإسلام على يديهم، كأنَّهُ حدود، وعقوبات، على نحو ما هو مُطَبَّقٌ فى بعضِ البلادِ الاسلامية، ولكانوا بذلك نَكْبَةً على هذه البلاد، وعلى الدعوةِ الاسلامية أيضَاً).

ولمَّا لم يستَبِن الناسُ خطرِ الأخوان المسلمين والدمار الذى يسومُونَ السودان وأهله، ركنَ الأستاذ محمود لحتميِّة الوآقِعة، فقال نبوءَتهُ فى خطرِ الهوس الدينى على السودان، تلك النبوءة التى كادت أن تتحقَّق كاملة اليوم، فماذا قال الأستاذ محمود لمَّا إستيأسَ من سُباتِ السودانيون وإستسلامهم لمخدِّرِ الهوس الدينى بأيدى الأخوانِ المسلمين الذى إجتاحَ خِدرهُ السودان أو كاد؟ قال الأستاذ محمود: (من الأفضلِ للشعبِ السوداني أن يمُرَّ بتجرُبة حُكم جماعة الهوس الدينى، وسوف تكونُ تجرُبةٌ مفيدة للغاية، إذ أنَّها بلا شك ستُبيِّنُ لأبناءِ هذا الشعب مدى زِيف شعارات هذه الجماعة، وسوف تُسيطِر هذه الجماعة على السودان سياسياً واقتصادياً حتى ولو بالوسائلِ العسكرية، وسوف يُذيقُون الشعبَ الأمرَّين، وسوف يُدخِلُونَ البلادَ فى فتنَةٍ تحِيلُ نَهارُها إلى ليل، وسوف تنتهى فيما بينهم، وسوف يُقتلَعُونَ من أرضِ السودان اقتِلاعَاً).
هكذا كان الجمهوريون دوماً حُرَّاسَاً أمناء يزودُون عن حياضِ الوطن عبر الأزمان، وينبِّهُونَ بالمخاطرِ المُحدِقَةُ به.
وما خافَ الأخوانُ المسلمون فى السودان مثل خوفِهم من الجمهوريين وفِكرِهم الذى أفحَمُوا به تُرهَات (الكيزان) وردُّوهم إلى جادَّةِ الدين وأصولِه، فتَهدَّدت مصالحهم فى غشِّ الشعبِ السودانى وتخويفه من الشيوعية للوصولِ إلى السلطة ليستَبِدُّوا بها، ويفسِدُوا فيها ويهلِكُوا النسلَ والحرث. فكادُوا للجمهوريين كيداً ومكرُوا لهم مَكرَاً، وتربَّصُوا بالأستاذ محمود فقرَّرُوا التخلُّص منه غدراً، قبل أن يتخلَّصَ منهم الأستاذ وتلاميذه بالحُجَّةِ والمنطقِ وقوَّةِ البيان.
هذا، ويذكُرُ طلّاب الجامعة فى الأعوام 1983- 1985م أنّهُم كانوا يحرصون على حضورِ أركان نقاش الجمهوريين. ولا أنسى أننا كنا ثلة من أولادِ الدُفعة نحضرَ باكِراً ونجلسُ لـ عُمر القرّاى نسمعُ منه كلاماً لم نسمعه من قبل، وكانَ يأسِرُنا أسراً لا فكاك منه، وللفكرةِ الجمهورية سِحر أخَّاذ، وقوةِ منطق وبيان.
ولن ننسى كيف أنّ عمر القرَّاى، بعد تقديم المحاضرة، كان عادة ما يتيح الفرصة للنقاش. ومن يناقش القرّاى غير طالبٍ كان يأتى من جهة كلية الآداب إسمه عِماد محمد بابكر، وكان يناقشُ نقاش العارِف المُطًّلِع، بعبقريةٍ وعُمق. وكان القرّاى يحترمه جداً ويستمع إليه بإصغاء. وأخبرنى صديقى الزميل المحامى أحمد عبد الرحمن ساتى بأنَّ عِماد قد حضَّر الدكتوارة وألَّفَ كِتاباً بعنوان (آذانُ الأنعام) بالإشتراك مع شقيقه المهندس علاء الدين، والكتاب عبارة عن “دراسة قرآنية عِلمية لنظريَّةِ دارْوِين فى الخلقِ والتطوُّرِ”، والطالب عماد كان الوحيد الذى يناقشُ الجمهوريين فى فكرِهم. وعندما ينتهى عِماد من مُداخلته الثابتة فى ركن الجمهوريين كان القرّاى يتفرَّسُ وجوه الحاضرين وهو يقول: فرصة للنقاش، “عايزين الأخوان المسلمين يجُوا يناقشوا عشان يستفِيدوا ويتعلّمُوا”، وكانوا يتوجّسُونَ خِيفة، لا أحد منهم يتقدّم للنقاش، فيقوم القرَّاى بتحفيزهم ليخرجوا من مخابئِهم ويأتوا لمنازلته فيقول: وين محمد طه (يقصد المرحوم صاحب صحيفة الوفاق الأستاذ محمد طه محمد أحمد)؟، ويردف بقوله: مشكلة الأخوان المسلمين فى الجامعة رأسهم محمد طه، ومحمد طه زاتو ما عنده رأس. فيتحرّك الكيزان الحضُور يجوسُون خِلال مكتبة القانون فيأتُونَ بالأستاذ محمد طه محمد أحمد وفعلاً يرغِى بكمية من الكلام (الدُرَّاب)، فيستلِم منه القرَّاى (المايك) ويقول: ما قلت ليكم؟ فرصة للنقاش. ويردف: (نحن راح نقضى على فِكر الأخوان المسلمين ونريح الناس من الهوسِ الدينى).
لذلك قرر الأخوان المسلمون التعجِيل بالقضاءِ على الجمهوريين فتحالفوا مع نظام جعفر نميرى فدبٌّرُوا مُوامرة إغتيال الأستاذ محمود محمد طه فى يناير 1985م.
وبقدر خوف وخشية وتوجس جماعة الهوس الدينى وعلى رأسهم الأخوان المسلمين من الفكر الجمهورى الكاشف لزيفِهم وجهلِهم بالدين، كان الأخوان المسلمين يحرصون على وجودِ الحزب الشيوعى السودانى ليبرِّرُوا سبب وجودهم ونشاطهم، ووصولهم إلى الجماهير بإعتبارِهم حُمَاة الدين فى الصراع الوَهْمِى الذى يصوِّرُنهُ للناس بأنَّه صراعٌ بين الله جَلَّ جلاله وبين عبدِهِ (ماركس) الشيوعى المُلحِد !.
لذلك، قرر الأخوان المسلمين الفتك بتنظيم الجمهوريين والقضاء على فكرِهم المستنير المنقذ لحياة البشرية فى قرونِنا الراهنة، وذلك بالتآمر على إغتيال الأستاذ محمود محمد طه بتدبير محاكمة تقضى بقتلهِ بالردة فى يناير 1985م.
وفى يوم الإثنين 7 يناير 1985م قُدِّمَ الأستاذ محمود محمد طه وأربعة من تلاميذِه للمحاكمة أمام محكمة الطوارئ بمجمع محاكم أم درمان الأوسط (القاعة الكبرى) برئاسة القاضى حسن إبراهيم المَهلّاوِى فرفض الأستاذ محمود محمد طه التعاون مع المحكمة لأنَّها شُكِّلت وِفقاً لقوانين غير دستورية، وقد أدّبَ الأستاذ محمود جلّاديه بمرافعتهِ الخالدة التى تلاها بثباتٍ نادر على مسامع القاضى المهلاوى والحضور، قال: (أنا قلت رأى مِرارَاً فى قوانين سبتمبر 1983م من أنها مُخالفة للشريعة وللإسلام.. أكثر من ذلك، فإنّها شوَّهت الشريعة، وشوَهت الإسلام، ونفّرت عنه.. يُضاف إلى ذلك أنّها وُضِعت، وأٌستُغِلّت، لإرهابِ الشعب، وسَوْقِه إلى الإستكانةِ، عن طريقِ إذلاله.. ثُمَّ أنّها هدَّدت وُحدَة البلاد.
هذا من حيثُ التنظِير..
وأمّا من حيثُ التطبيق، فإنّ القُضاةُ الذين يتولُّونَ المحاكمة تحتَها، غير مؤهلين فنيّاً، وضَعُفُوا أخلاقِيّاً، عن أن يمْتنِعُوا، عن أن يضعُوا انفُسِهِم تحت سيطرة السلطة التنفيذيِّة، تستعمِلُهم لإضاعةِ الحقوق وإذلال الشعب، وتشويه الإسلام، وإهانة الفِكر والمفكرين، وإذلال المعارضِين السياسيين..
ومن أجلِ ذلك، فإنِّى غير مُستعِد للتعاون، مع أىِّ محكمة تنكَّرَت لحُرمةِ القضاءِ المُستقِل، ورضِيت أنْ تكونَ أداةً من أدواتِ إذلالِ الشعب وإهانةِ الفكرِ الحُرّ، والتنكيل بالمعارضِين السياسيين.)
وإمعانا فى المؤامرة نُفِذَ حكم الإعدام فى الأستاذ محمود محمد طه صبيحة يوم الجمعة 18 يناير 1985م الموافق لليوم 26 ربيع الآخِرة لسنةِ 1405هـ.
ولكن لاحِقاً، بتاريخ 18 نوفمبر 1986م أصدرت المحكمة العليا السودانية حُكمها النهائى فى هذه القضيّة ببُطلانِ أحكام (محمكة الموضوع) ومحكمة الإستئناف بحق الأستاذ محمود محمد طه!.. ولكن بعد ماذا؟.
ومرَّة أُخرى تأكّد للناسِ أنَّ مُجمل المحاكمة وتوابِعها كانت مُجرَّد مسرحية سيئة الإخراج، ومؤامرة وإغتيال من الأخوان المسلمين وشريكهم جعفر نميرى الذى نصّبوه زُوْرَاً، أميرَاً للمؤمنين.
وما زال الأخوان المسلمون يخشون الجمهوريين وفكرهم، وقد تابع الناس مؤخّراً كيف رفضت حكومة السودان إعادة تسجيل الحزب الجمهورى، وكيف عرقلت مساعى الأستاذ المحامى نبيل اديب للطعنِ فى قرار مسجل الأحزاب السياسية برفض تسجيل الحزب الجمهورى!. ويستغلَّ الكيزان سِلمية الجمهوريين وعدم لجُوءِهم إلى العنفِ أبداً.
هذا، وجاء فى بيانِ رئيس الحزب الجمهورى للفترةِ الثانية الآتى: (الحزب الجمهورى ليس حزباً يقومُ على التهرِيجِ، كما هى العادة المألوفة لدى الاحزاب التى نراها ونسمعُ عنها، وانّما هو دعوة إلى فكرة أولاً وقبل كل شىء. والجمهوريون قومٌ ارتضوا هذه الفكرة، وارتبطوا بها وعملوا على تحقيقها.. وأنَّ الحكومة نظام اجتماعى تعاقد الناسُ للدخولِ فيه، ليتخذوه وسيلة إلى غاية. هذه الغاية هى الحُرِّية الفردية، فالحكومة الصالحة هى الحكومة التي تحقِّقُ للفردِ أكبر قِسطٍ من الحُرِّية، هى الحكومة التى لا تأخُذُ من حُرِّية الفردِ الَّا القدر الضرورى لحِفظِ حَقِّ سائرِ المجموعة، وبذلك تصبح الفكرة الاجتماعية الصالحة، التى تقومُ عليها الحكومة الصالحة، هى الفلسفة التى تُوفِّقُ توفِيقاً مُتكافِلاً بين حَقِّ الجماعة فى العدلِ وحقَّ الفردِ فى الحُرِّية الفردية المُطلَقة.. ولا يمكن أنَّ يتمتّعَ الفردُ بالحُرِّيةِ الّا إذا تحرَّرَ من الجهلِ، وللتحرُرِ من الجَهلِ لا بُدَّ من نظامٍ (يكفُلُ للفردِ حاجتهِ من الغذاء الصالح، والسكن الصالح، واللباس الصالح.. أى لا بُدَّ من المساواةِ الاقتصادية، ولا تكون المساواة الاقتصادية مؤدِّية عملها الَّا إذا كفلَت الحُرِّية الجماعِيَّة، أى الديمقراطية، والديمقراطية الحَقَّة هى الديمقراطية الشعبية).
وتأسيساً عليه نستطيعُ أن نقرِّرَ بإطمئنان، أن الفكرةَ الجمهورية، والحزب الجمهورى، والإنسان الجمهورى هم جميعاً مسارب نور ومصادرُ إشعاع وإستِنارة. قدّموا عملاً سودانياً خالصاً مُجرّداً من الغرضِ، وكان كفيلاً بإنقاذ السودان وشعبه من هذه التعاسة وهذا الشقاء. ولكن أعداء السودان وشعبه وأعداء البشرية جمعاء كانوا لهم بالمِرصاد، ليهْوِى السودان وشعبه ومستقبله فى الهاويةِ التى فيها الآن.
ويدعو للحُزنِ أنَّ الرجل الذى بذل حياته كلها ينتج فكراً نافِعاً ومُنقِذاً، وحزباً حديثاً فاعِلاً ورُؤى نافِعة لمصلحةِ الشعب السودانى لم يدافع عنه الشعب السودانى فى مِحنَتِه. الجمهوريون الذين دافعوا عن السودانيين بمختلفِ تنظيماتهم وعن حقِّهِم فى الحرية والكرامة والعيش الكريم، لم يجدوا فى مِحنتِهم ومُؤامرةِ الكيزان ضِدَّهم من يقف معهم ويدافع عنهم، ولم يبكِ إغتيال الأستاذ محمود، غاندى السودان وعموم أفريقيا غير العالم الفريد بروفسير عبد الله الطيب، طيَّب اللهُ ثراهُ، الذى نعَاهُ بمرثيّةٍ مُعبِّرة بعنوان “مصابٌ وحُزن” نورِدُ منها:
ذهـبَ الفـضـلُ والتـسـامـح والعـفـو وجاء الإعــدام والتشــريد،
فيــم هـذا الطـغـيان ما هذه الأحــقاد ما هـذه القلوب السُود،
ما الـذى جــدّ ما الذى جلب القسوة من أين ذا العتـم الشـديد،
قد أســأنا إلى الشـريعة والإسلام مـا هـكـذا تقـام الحدود ،
مـا كـذا سنة النبـى ولا الوحـى الـذى أنـزل الحـكيـم الحـميد ،
سنة المصطفى هى اللِّيـن، هـذى غِلظة بــل فــظاظة بل جمود،
إن عـنــدى حـرية الرأى أمـر يـقـتضيـه الإيـمـان والتوحيد ،
لا أحـب التطـرّف المفـرط، الرفـق سبيـل الإســلام لا التشــديد،
إننـا نحن مالكيون سنيون حــب النبـى فينـا وطيد،
وسـطـور الآيــات قالت عليكم أنفسـاً لا يضـرّكم من يحيـد ،
وتلـونـا فيهـن آيــة (لا إكراه فـى الـدين) بئس عنها الصدود ،
جـعـلـوه ضـحـيـة لـم يكـن منه شـروع فى الحـرب أو تهـديد ،
رب إنـا إليــك نجــأر بالشـكـوى أغـث يا لطيف أنت الودود ،
حـكمـتـنـا وقـلـدت أمرنا صعلوك قـوم فـغـرّه التـقـلــيـد ،
طـبـقـات مـن الزعانـف فى الضوء تـَوَارَى وفى الظـلام تـَـرود ،
دأبـها الخـيـانة والغدر وليسـت غير الفسـاد تجـيـد ،
يصـدر الأمـر كى يوقـعـه جـلـدٌ ثخــين عنـها وحس بليـد ،
ويـدٌ كـزّة ووجـه بلا مـاء حيـاء وخـبث نفـس عـتـيـد،
لـيـس يبغـى إلا البـقــاء ولا يحـفـل والـشــعب جائع مكدود ،
ينقــض اليــوم كـلّ ما قالـه أمس وفــيـه غــدا بنقـضٍ يعـود ،
فانـزع المـلك منـه، رب لك الملك وذو العـرش أنت أنت الـمـجــيد ،
وأذقــه كأسـا بـهـا قد سـقى قـومـاً ولا ينــج الفاسق الرعديد ،
وهــلاكا له كـمـا هلكـت عــاد وبُـعـداً كمـا أبيــدت ثمود ،
وعـسـى الله أن يشـاء لنا النصــر وللـظـالم العــذاب الشديد ،
ولأحــزابـه اللئـام فـكـبـّوا فى مضيـق طريقهـم مسدود ،
تـتـلـقـاهـم جـهـنـم يصلـون بها ســآء وِردُها الــمــورُود ،
لا تخيـِّب دعاءنا ربّ وانصرنا وأنت المولى ونحـن العـبـيـد ،
وصــلاة عــلـى الـنـبـى وتسليم به نـبـلــغ المـنـى ونزيـد،
وعلـى الآل والـصحابــة سادتى وتــغــشـاك رحمـةٌ محمُود.

عبد العزيز عثمان سام
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. وكيف أنَّ المتآمرونَ تنكَّرُوا !!!؟؟؟؟ عجايب! اللغة ما عارفين قواعدها وتتكلمون عن قواعد الدين!!!

  2. وكيف أنَّ المتآمرونَ تنكَّرُوا !!!؟؟؟؟ عجايب! اللغة ما عارفين قواعدها وتتكلمون عن قواعد الدين!!!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..