زمان التحولات (5/5): نافذة التغيير المنتظرة ..

تناولت هذه السلسلة خلال الحلقات الأربع الماضية التحولات الإقليمية والدولية وانعكاساتها على السودان وعلى رأسها بروز أهمية البلاد الجيوسياسية سياسيا وأمنيا واقتصاديا كما أصبح واضحا في مكافحة الإرهاب وتجارة البشر. وتلقت هذه النقلة دفعة إضافية بالتحول الذي أحدثه السودان في علاقاته الإقليمية والاصطفاف مع المجموعة الخليجية في مواجهة إيران، وهي الخطوة التي أدت من ناحية ثانية إلى بدء تدفق الأموال الخليجية للاستثمار في موارد البلاد الطبيعية تدعيما للأمن الغذائي، الأمر الذي ينقل علاقة السودان مع الدول الخليجية إلى مرتبة نوعية جديدة ذات بعد استراتيجي أمنيا واقتصاديا.
هذا التطور سيلقي بتأثيراته على المشهد السياسي الداخلي المأزوم فهل يمكن أن يسهم في توسيع هامش الحركة السياسية أمام القوى المعارضة بما يسهم في تحقيق استقرار أفضل أم ترى الحكومة فيما جرى تأكيد على صواب نظرتها وتصرفاتها ودفعها بالتالي إلى الاستمرار في سيطرتها المحكمة على مفاصل السلطة.
نظريا ودستوريا يفترض أن تكون هذه هي الدورة النهائية للرئيس عمر البشير، الأمر الذي ينبغي أن يدفع الحزب الوطني أن يهيئ نفسه لاختيار مرشح جديد لانتخابات 2020، على ان واقع الحال قد يأتي بقراءة مختلفة. وعلى رأس هذه أن البشير ومنذ انفصال الجنوب قبل خمس سنوات عزز من سلطته رئيسا حتى على حساب الحزب الوطني ومن خلفه الحركة الاسلامية التي جاءت بالإنقاذ إلى السلطة ابتداء قبل أكثر من 27 عاما، وكذلك فإن الاختراقات التي تمت في علاقات البلاد الخارجية خاصة في المستوى الخليجي تعود إلى مبادرته الشخصية أكثر منها نتاج عمل مؤسسي وبالتالي فهذه الدول سترى في وجوده ضمانا لاستمرار هذا الخط.
بل وحتى الدفء الذي بدأ يسري في علاقات السودان مع الدول الغربية وآخرها تخفيف العقوبات الامريكية على السودان يمكن استخدامه ضد الرأي السابق القائل أن الوسيلة الرئيسية لاستعادة السودان علاقاته الخارجية تتمثل في تنحي البشير عن الرئاسة بسبب تداعيات قضية المحكمة الجنائية. طبعا سيظل الثامن من يوليو المقبل تاريخا مهما إذ سيتم فيه إما إلغاء العقوبات الأمريكية على السودان نهائيا أو إعادة تثبيتها.
وفي اليوم التالي لأداء ترمب القسم رئيسا، وضع على الصفحة الرسمية للبيت الأبيض إعلانات عن خطوط عريضة لسياساته في مختلف المجالات ومن بينها السياسة الخارجية التي قال إنها ستركز على المصلحة الأمريكية وحماية أمنها القومي، وأنها تضع مواجهة تنظيم داعش في قائمة أولوياتها وأنها ستتعامل مع المجتمع الدولي لوقف تمويلها والتصدي إلى آلتها الإعلامية والمشاركة في المعلومات الاستخبارية عنها، ومضيفا أن إدارته لن تبحث عن أعداء جدد وإنما يسعدها أن يتحول الأعداء السابقين إلى أصدقاء والاصدقاء إلى حلفاء. وإذا أضيف إلى ذلك أن وزير الخارجية الجديد ركس تيلرسون بخلفيته النفطية من الذين لا يؤمنون بديبلوماسية المقاطعة، وأن القضايا الخمس التي وضعتها إدارة أوباما لقياس مدى التقدم في علاقاتها بالسودان وهي:
? التعاون في مواجهة داعش
? وقطع الصلة بجيش الرب،
? النأي عن التدخل في جنوب السودان،
? وتسهيل مرور الإغاثة
? وعدم القيام بعمليات عسكرية ضد المتمردين
يبدو من السهل الالتزام بها. فالحكومة وعبر قرار من مجلس الوزراء أعلنت عن تمديد لوقف إطلاق النار لفترة ستة أشهر وموقف الحكومة من تقديم الإغاثة حصل على تقريظ من المجتمع الدولي مقابل الانتقاد الذي لقيه موقف الحركة الشعبية، وعليه فاحتمالات المضي قدما في إلغاء العقوبات تبدو أكثر ترجيحا خاصة وللحكومة ما يدفعها لبذل الجهد للمحافظة على هذه النافذة التي فتحت والسعي إلى توسيعها لتصبح بابا.
هذا التطور في جانبيه الإقليمي والدولي وببعديه الأمني والاقتصادي جعل الحكومة في موقف أفضل بانتقالها من حالة الدفاع التي ظلت فيها طوال العقدين الماضيين إلى إبرام تحالفات تقوم على المصلحة المباشرة، وهو ديدن العلاقات الدولية، كما أنه المجال الذي لا تستطيع المعارضة أن تنافس فيه.
ولعل هذه واحدة من الأوقات التي يفترض أن يم فيها تحويل المشكلة إلى فرصة. والمشكلة تتمثل في تعويل المعارضة الكبير على العامل الخارجي في مواجهة الانقاذ. والفرصة تتمثل في العودة إلى الداخل والارتباط بالقواعد وفق مفهوم جديد يعطي المجتمع دورا أكبر. وفي تجربة قرية “ألتي” في ولاية الجزيرة التي أوردها الاستاذ أحمد المصطفى إبراهيم ما يستحق التوقف. فقد قرر أهل القرية تفعيل نشاط اللجنة الشعبية عندهم وذلك عبر تقسيم سكان القرية حسب المجالات التي يعملون فيها واتضح بعد الحصر وجود عشر مهن من أطباء ومعلمين وحرفيين وغيرهم. وقامت كل فئة باختيار ثلاثة ممثلين ليمثلوا الفئة المعينة في المجلس الأعلى للجنة الشعبية كما تم تعيين واحد من كل مجموعة ليكونوا أعضاء في اللجنة التنفيذية المكونة من عشر أشخاص. أول مهمة قامت بها اللجنة إجراء إحصاء سكاني شامل أبرز ملامحه أنه مقابل كل ثمانية مواليد جدد هناك وفاة واحدة.
أهمية هذا التحرك أنه بدأ من أسفل وبمبادرة ذاتية، الأمر الذي يشير إلى الامكانيات العالية الموجودة لدى القواعد وتحتاج إلى استغلال أفضل من القوى السياسية. بل هناك بعض المنافذ والسياسات التي يمكن تطويرها والمضي بها خطوات إلى الأمام مثل التوافق الذي بشر به والي شمال كردفان أحمد هارون باستبعاد البعد السياسي من تشكيل اللجان الشعبية وتكوينها وفق أسس للتمثيل النسبي يشمل النساء والشباب وأصحاب الخبرات وغير ذلك، لكن الإشكال في هذه الخطوات أن تأثيرها يصبح محدودا وكان يمكن أن تحدث فارقا كبيرا إذا تم اعتمادها سياسة عامة تنفذها الحكومة وتتعامل معها الاحزاب المعارضة بجدية وإيجابية أكبر إذ يمكن لجهد مثل هذا أن ينقل العمل السياسي إلى مرحلة جديدة. فعملية مثل إجراء إحصاء سكاني للقرى أو المدن لا يحتاج إلى تغيير في بنية النظام وهي خطوة أولية وأساسية يمكن البناء عليها لأنها تفتح أفاقا لعمل مجتمعي أكبر. تأسيس مثل هذا الوجود القاعدي كفيل باستيلاد قيادات مجتمعية جديدة تتراكم خبراتها عبر العمل الإيجابي في جانب البناء بدلا من المعارضة النظرية وأهم من ذلك أنه يمكنها التواصل مع قواعدها بصورة أفضل وحشدها في عمل سياسي أكبر مثل مراقبة الانتخابات للحد من التزوير مثلا. فهنالك من الآليات التي يمكن اللجوء إليها لضمان نظافة العملية الانتخابية كالنص على حضور مندوبي الأحزاب المشاركة في الانتخابات في المركز وفتح الصناديق أمام هؤلاء المندوبين وحصر الأصوات والتوقيع على النتيجة من قبل كل الحضور قبل إرسالها إلى المركز، وهو ما أثبتته تجربة فوز 19 نائبا مستقلا في الانتخابات الاخيرة. على أن خطوة مثل هذه تحتاج إلى عمل سياسي لتثبيتها قانونيا وأهم من ذلك وجود الكوادر اللازمة للحضور والمشاركة في كل مراحل العملية الانتخابية، وهي قضية تتعلق بقدرة المعارضة على التوصل مع مناصريها أكثر من قدرة الحكومة على التزوير.
حالة الانهاك التي تعيشها كل القوى السياسية بلغت مداها بوصول مرحلة ثورة أكتوبر بشخصياتها وأفكارها وممارساتها إلى خط النهاية، ولعل هذا يوفر فرصة تفرض على كل من البشير والصادق المهدي المضي قدما وتنفيذ إعلانهما الخاص بالتخلي عن مواقعهما الحالية وفتح الطريق أمام قيادات جديدة، وعلى الحركات المسلحة وضع السلاح جانبا والانخراط في عمل سلمي مدني، وهي خطوات ستسهم في تمكين المجتمع من القيام بدور أكثر نشاطا وفاعلية بما يؤسس لعملية تغيير مستدام يبنى بالتدرج ويحوطه سياج من القبول العام يمكن أن يمثل أساسا للشرعية التي كان غيابها منبعا لعدم الاستقرار الذي شاب تجربة البلاد السياسية.
+++++++
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. “والمشكلة تتمثل في تعويل المعارضة الكبير على العامل الخارجي في مواجهة الانقاذ. والفرصة تتمثل في العودة إلى الداخل والارتباط بالقواعد وفق مفهوم جديد يعطي المجتمع دورا أكبر”.

    شُكراً يا أستاذ؛ أوجزت وأحسنت.

    من لا يستطيع حماية الانتخابات لن يستطيع الفوز بها.

    ما معنى أن تقاطع الانتخابات ثُم تعترف عملياً بنتيجتها عبر التفاوض مع الحكومة التي انبثقت عنها؟؟

  2. “والمشكلة تتمثل في تعويل المعارضة الكبير على العامل الخارجي في مواجهة الانقاذ. والفرصة تتمثل في العودة إلى الداخل والارتباط بالقواعد وفق مفهوم جديد يعطي المجتمع دورا أكبر”.

    شُكراً يا أستاذ؛ أوجزت وأحسنت.

    من لا يستطيع حماية الانتخابات لن يستطيع الفوز بها.

    ما معنى أن تقاطع الانتخابات ثُم تعترف عملياً بنتيجتها عبر التفاوض مع الحكومة التي انبثقت عنها؟؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..