تيراب (السودانية) وتقاوي (المصرية)!ا

حفريات لغوية ? تيراب (السودانية) وتقاوي (المصرية) ..
بقلم: عبد المنعم عجب ألفيا
[email protected]

منذ فترة ليست بالقصيرة درجت وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة عندنا في ترديد كلمة “تقاوي” في الدلالة على البذور المعدة للزراعة. وذلك ظنا منها أنها هي الكلمة العربية الفصيحة البديلة لكلمة تيراب أو تواريب السودانية.
غير أن “تقاوي” كلمة “عامية” مصرية. وأغلب الظن ان أصلها قبطي أو نوبي قديم. ونحن نرجح أن أصلها هو كلمة “تقة” النوبية السودانية التي تحمل دلالة مغايرة لمعناها في اللهجة المصرية.
أما تيراب، لفظة عربية فصيحة، وترد في أمهات المعاجم العربية كواحدة من صيغ كلمة تراب. جاء في لسان العرب والقاموس المحيط والصحاح أن ” ترب وتراب وتورب وتيرب وتيراب وتوراب، كله واحد.”
فاختار لسان أهل السودان صيغة تيراب للدلالة على البذور التي تعد للزراعة وكذلك في الدلالة على عملية الزراعة: دفن البذور في التربة. والفعل منه: تيرب وتورب ويتيرب او يتورب اي يبذر البذور في الأرض بغرض الزراعة. وجمع تيراب : البذور المعدة للزراعة، تواريب.
هذا، وللتربة عندنا معنى آخر غير الأديم وهو القبر وجمعها تُرب. وهي كذلك في المعجم. جاء في لسان العرب:” تربة الإنسان: رمسه” أي قبره. فثلما اشتق اسم مكان دفن الإنسان في الأرض من التراب فقيل: تربة، كذلك اشتق دفن البذور في باطن الأرض وعملية الدفن، من التراب والتربة أيضا فقيل: تيراب.
وقد وردت لفظة توراب بمعنى تراب أو تيراب في شعر المتنبي. وذلك في قوله :
أيفطمه التوراب قبل فطامه * ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل
ولعل الطيب صالح يشير إلى هذا البيت حين قال: ” إن الصاحب بن عباد عاب على المتنبي استخدامه الكلمات الحوشية الغريبة مثل توراب ? غفر الله له. إنه لم يزل يتتبع المآخذ على المتنبي. ولو أنه عاش في السودان، لوجد أن الكلمة تجري على ألسنة عامة الناس… وأهل السودان يقولون تيراب للبذور تدفن في الارض كالقمح والذرة وغيرهما. وفي المعجم أن توراب او تيراب هي الأرض أو ما يدفن فيها.”
وتيراب اسم علم سوداني وأشهر من حمله السلطان تيراب من أقوى سلاطين الفور.
أما كلمة تقاوي فهي “عامية” مصرية ? حسب، عون الشريف قاسم، الذي يذكر في (قاموس اللهجة العامية السودانية) أن محمد بن عمر التونسي ( 1789-1857) قد أشار في كتابه ( تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان) إلى استعمال أهل مصر لكلمة تقاوي وذلك في سياق التعريف بكلمة تيراب السودانية، حيث يقول التونسي في معنى تيراب : “الحبوب التي تزرع في التراب والتي تعبر عنها أهل مصر بالتقاوي وأهل المغرب بالزريعة”.
هذا التباين في الألفاظ للدلالة على معنى واحد هو من أميز خصائص العربية وأعني خاصية الترادف. فالبذور المعدة للزاعة : هي تيراب، وتقاوي، وزريعة وربما غيرها. ولكل دولة أن تستعمل ما درجت عليه من ألفاظ مرادفة لألفاظ في دول أخرى للدلالة على هذا المعنى.
ومن هنا نقول إن الدعوات التي تنادي الآن بتوحيد المصطلحات والتعابير العربية تتنافي مع طبيعة هذه اللغة ومن شانه أن يقضي على الخاصية التعددية( الترادف) التي يباهي بها أصحاب هذه الدعوات أنفسهم، اللغات الأخرى. والمفارقة أن من ينادون بتوحيد المصطلحات العربية يظنون أنهم يحسنون صنعا؟ وما علموا أن نهجهم الأحادي هذا يؤدي إلى إفقار هذه اللغة. فتأمل! على قولة أستاذنا عبد الله الطيب.
وكان الباحث السوداني في الدراسات النوبية، فؤاد عكود، قد أورد في كتابه (من ثقافة وتاريخ النوبة) أن أصل تيراب نوبي سوداني. غير أننا نرى أن وجود هذا اللفظ في اللغات النوبية ليس دليلا على أصله النوبي، فالتداخل والاستلاف المتبادل بين اللغة العربية واللغات النوبية لا يخفى. ونحن نرجح أن تكون الكلمة قد دخلت اللغات النوبية من اللهجات العربية السودانية. ولكنها لم تحتفظ بالنطق العربي وإنما أصابها شيء من التحوير بعد دخولها اللسان النوبي اذ تنطق “تيرار” بمعنى زراعة و” تيري” للبذور المعدة للزراعة وذلك حسب ما أثبته (آرمبروستور) في معجمه في اللغة الدنقلاوية النوبية ( انجليزي ? انجليزي).
على أن هنالك في اللهجة السودانية مفردة آخرى تتفق مع كلمة تقاوي المصرية من حيث اللفظ ولكنها تختلف معها من حيث المعنى وهي كلمة ” تقة ” أو “تقاه”. وهي الرقعة من الأرض داخل المزرعة او الحواشة أو “البلاد” تنظف جيدا وتجمع فيها وتدرس وتدق المحاصيل حيث تفصل البذور عن القناديل.
يقول الشاعر المجيد، إسماعيل حسن، في رائعته “بلادي”: بلادي حنان وناسها حُنان.. يفضلوا الغير علي ذاتهم ، يقسموا اللقمة بيناتهم ..” إلى ان يقول:
” وحتى الطير يجيها جيعان من أطراف تقيها شبع”.
وفي الحكمة الشعبية :” القمرية ما بتعضر التقة”. أي لا تعذر. والمعنى أن من تعود الإحسان من شخص ما لا يعدم ان يجد حاجته عنده مهما تغير الحال. فالقمرية تظل تتردد وتنبش وتنكت في محل التقة أملا في التقاط بعض الحبوب حتى وان لم تكن في التقة أي بقايا من حبوب.
هذا، وقد خلت المعاجم العربية من كلمة تقة. وأغلب الظن أن أصلها سوداني نوبي. فقد وردت في معجم ارمبروستور في اللغة النوبية الدنقلاوية في ذات المعنى. يقول:
Taga: threshing-floor, place where cattle tread out corn, etc.
ولهذا نحن نرجح أن أصل كلمة “تقاوي” المصرية هو “تقة” النوبية جاءت في صيغة الجمع وتغيرت دلالتها مع مرور الزمن فتحول معناها من مكان جمع المحاصيل حيث تفصل الحبوب عن القناديل، لتعني الحبوب المعدة للزراعة وهو المعنى الذي تعطيه كلمة تيراب وجمعها تواريب في كلام أهل السودان.
خلاصة القول يجب علينا إلا نتحرج من استعمال الألفاظ والتعابير ذات الصبغة السودانية في لغة الكتابة والإعلام المخاطبات الرسمية متى ما كانت ذات أصل عربي حتى لو كانت غير موجودة في المعجم او متى ما كانت ذات أصل سوداني محلي موروث من لغاتنا الأخرى، ويجب ألا ننتظر حتى يزكيها لنا الآخرون. فالفصاحة تعني الإبانة والوضوح ولا شيء غير ذلك. هكذا يقول فقهاء اللغة العربية الأقدمون.
واللغة العربية منذ كانت في حال استلاف متبادل مع اللغات الأخرى فكثير من الألفاظ التي يظن أنها عربية فصيحة دخلت العربية من لغات أخرى مثل الفارسية والنبطية والسريانية والهندية والحبشية. وفي العهد الحديث دخلت كثير من المفردات من اللغات الأوربية وتعربت وصارت جزء لا يتجزأ من التعبير العربي الحديث.
وهذا يتطلب خلق وعي مبصر بأهمية وقيمة ما نملك. فنقصان هذا الوعي ولد لدينا إحساسا لا شعوريا زائفا، إن هنالك دائما أصلا خارجيا عند الآخر العربي نقيس عليه وان ما عندنا لا يصح الا اذا قسناه على ذلك الخارج. وهذا الإحساس جعلنا نهجر الكثير مما تزخر به ذاكرتنا اللغوية من المفردات والتعابير الجميلة والبليغة، وذلك تقليدا وتبعية للأخر.
يجب أن يكون لنا حضور مؤثر في صناعة تاريخ وحاضر ومستقبل اللغة العربية وإلا نظل مجرد مقلدين، مستهلكين لهذه اللغة، بل لا بد أن نكون منتجين لها أيضا. نقول ذلك، ونحن على علم بان التأثير اللغوي محكوم بالنفوذ والقوة السياسية والاقتصادية والانتشار الإعلامي. غير أن العمل على خلق وعي بقيمة ما عندنا هو أضعف الإيمان.

المصادر:
1- أبو البقاء العكبري، شرح ديوان ابي الطيب المتنبي، دار الفكر، بيروت، 2003
2- ابن منظور، معجم لسان العرب، دار احياء التراث العربي، بيروت ط3
3- الفيروزآبادي، معجم القاموس المحيط، دار المعرفة، بيروت 2008
4- الجوهري، معجم الصحاح، دار المعرفة ، بيروت 2005
5- الطيب صالح ، في صحبة المتنبي ورفاقه، رياض الريس للنشر 2005
6- عون الشريف قاسم، قاموس اللهجة العامية في السودان،المكتب المصري الحديث ، القاهرة ، ط2 1985
7- فؤاد عكود، من ثقافة وتاريخ النوبة، العالمية للطباعة والنشر،2007
8- C.H. Armbruster, Dongolese Nubian, A lexicon, Cambridge University press, 1965.

تعليق واحد

  1. اللغة تعبير بليغ عن ما وصل اليه سؤ حالنا فى عهد الكيزان واقرب مثال عندما تجد سودانى يتحدث مع شامى او مصرى على طول يغير لهجتو….؟؟؟
    شكرا على المقال الجميل….

  2. الزريعة زاتها ما سودانية!! و هي حبوب الذرة تغمر بالماء لصنع الآبري،، أو الحلو مر، زي ما بقولوا ناس البنادر

  3. الأديب عبدالمنعم عجب الفيا، وينك
    يشهد الله بأنك من أنضج من يكتبون في الٍأسافير السودانية، ولكنك صرت مقل في كتاباتك مؤخرا ولعل المانع خير.

    القراءة لك هى معرفة ومتعة وإستنارة، فنرجو أن تكثر لنا منها فكل ما تكتبه نعتبره تحفه نحافظ عليها ونتداولها فيما بيننا
    لك كل الود

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..