بازرعة.. لسنا بخير!!

وهكذا يرحل الشاعر المخضرم حسين بازرعة في هدوء فخيم، ودونما ضجة، كعادة العظماء في بلادي، بعد أن كتب فأجاد، وأشجى وأطرب. وغنى له المغنون فما تركوا في فنون تحريك الوجدان شاردة ولا واردة. يرحل بازرعة بعد ثلاث وثمانون عاماً، حافلة بالشعر والنثر والحنين، حتى عرف كشاعر اللوعة والعيون، والغرام والغربة، والشجون. هي سنوات قضى نيفاً منها متجولاً في مدن الشرق مزاجية الطبع والمناخ، بورتسودان، وسنكات. والتي عرف عنها منذ قديم العهود أنها لا تشفي غليل العشاق والمبدعين للإرتواء في غالب الأوقات. ثلاث وثمانون عاماً حسوما، أخذت منها سنوات الغربة المتطاولة جزءاً غير قليل. وكما أغنية الحقيبة، يظل بازرعة قيمة راسخة في أدبيات الغناء السوداني المعتق والجميل (وكل طائر مرتحل .. عبر البحر .. قاصد الأهل .. حملتو أشواقي الدفيقة)
غنى بازرعة للغربة، واللوعة، والحب، والشجن، والشوق، والفراق، وغنى للوطن. وشكل مع رفيق دربه المغني عثمان حسين ثنائية قل أن تتواجد بذلك التناغم الأليف، وهم يشكلان معاً وجدان السودانيين ولا يزالان. وستظل أغاني مثل (القبلة السكرى، أنا والنجم والمسا، بعد الصبر، ذكرتني، لا وحبك، من أجل حبي، شجن، الوكر المهجور، عاهدتني، أرضنا الطيبة، الفرقة من بكره، وأجمل ايامي) هي أغنيات خالدة، ستظل لسنوات طويلة محتفظة بملامحها داخل وجدان أهل السودان. ويأتي رحيل بازرعة في وقت تشابهت فيه الأغنيات، ولجأ الناس لمحاولة إعادة إنتاج القديم في قوالب جديدة على طريقة استنساخ البرامج التلفزيونية المكررة التي تعني بتكرار القديم، والتنافس على إجادته بدرجة أو بأخرى، كأقصى ما يمكن أن تصل إليه نهضة الغناء في خيال القائمين على الأمر. ويرحل بازرعة والوجدان السوداني والذائقة الجمالية نفسها مهددة بما طرأ على الناس من طوارئ، شوهت الحاضر، وعصفت بملامح المستقبل. فصارت أغنيات تعتمد التغافل، والتجاهل، والتظاهر بأن شبئاً لم يكن، وأننا بخير. لكن الواقع يقول أننا لسنا بخير، وأن أغنياتنا غائبة، ومصادرة، ومخنوقة حينما افتقدت رافعة الحرية، ورافعة الرصانة والجمال. يرحل بازرعة وشعراءنا نهباً للمنافي والمهاجر، وفي وقت رحل فيه المغنون منا، أو غيبهم الموت و المرض. ويرحل الشاعر الفذ في وقت لا زالت فيه أغنياتنا متهمة بالتذكر، في زمان النسيان. ومتهمة باصطحاب قيم الماضي المعتقة والتي ترفض الإنحياز لغربة واقعنا الحالي عما ابتدع مجتمعنا في سنوات تعايشه الطويلة من قيم ومن مفردات، ويرحل شاعرنا في وقت سيادة قيم الدخيل المحلي الشاذة ومحاولة توطينها في تربة البلاد المسالمة مستخدماً ما استبطنت دواخله من تطلعات بعيدة عما ذهبت إليه كلمات أغنياتنا القديمة من معان ومن طيبة ومن حنين. وعموماً لسنا بخير أيها الشاعر الراحل بعد أن لم يحتمله العام أو لم يحتمل هو العام بعد أن ضاقت البلاد بأهلها برداً وجفاف. رحم الله شاعرنا المخضرم حسين بازرعة بقدر ما قدم لفنه، ولوطنه وشعبه من أحرف، ومن كلمات.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..