لحظة أمل – وتأمل – عند تقاطع طريق

لحظة أمل – وتأمل – عند تقاطع طريق

الطاهر ساتي

** درجة الحرارة ، كما توقعت نشرة إرصاد البارحة دون الأربعين بقليل ، ولكن ذات الحرارة درجتها فوق الأسفلت قاب قوسين أو أدنى من الخمسين .. عند تقاطع المك نمر مع السيد عبد الرحمن ، إشارة المرور حمراء ، بدأت عدها التنازلي نحو الصفراء ثم الخضراء بتسع وتسعين ثانية .. تلك الثواني وطأتها ثقيلة على صبر سائقي المركبات ، بحيث هم دائما على عجالة من أمرهم ، ولذلك تزعجهم الإشارة الحمراء ، حتى ولو كانت ذات عد تنازلي يبدأ بالثلاثين ثانية..!!

** نعم ، يزعجهم أمر التوقف ، وكذلك أي أمر آخر .. فالناس في بلدي لايحبون الأوامر ، أيا كان مصدرها وأسبابها وأهدافها ، وأمر التوقف عند الإشارة الحمراء جزء من الكل غير المحبوب .. شعب يعشق العيش بطريقته الخاصة ، على سجيته ، كما يهوى ، بلاقيود ، بلا أوامر ، بلا رقيب ، حرا كما ولدته أمه .. ولذلك عجزت صفوف المنافذ في بلدي عن الانتظام .. تأمل روعة صفوفنا عند منافذ استخراج الأوراق الثبوتية بمباني الداخلية ، منافذ فحص أوراق الدخول والخروج بمطار الخرطوم ، منافذ بيع سكر كنانة ، منافذ بيع تذاكر مباراة هلال مريخ ، وغيرها.. صفوف رائعة ، كما أمواج البحر حين تغضبها ماكينات سفينة عابرة ، بين كل صف وصف ، معركة صفين ..لاينتظمون ، ليس حبا في الفوضى ، ولكن رفضا لأمر التنظيم ..!!

** و.. نرجع لتقاطع المك مع السيد ، ألقاب مزعجة ولكن لاغبار عليها حين ترد في سياق وصف حال عند تقاطع طريقين .. حال سائق ينتظر الضوء الأخضر ليمر وحال صبي – تسرب من مراحل التعليم – يتمنى ألا يكتمل العد التنازلي للإشارة الحمراء ، كل ثانية من ذاك العد التنازلي هي بمثابة : لحظة أمل .. تبقت ستين ثانية والصبي لم يبع منديلا.. درجة الحرارة تستدعي بأن يقتني المرء منديلا يمسح به عرقه ، ولذلك جاء الصبي بالبضاعة المناسبة في المكان المناسب .. يعرضها الصبي لسائق العربة كامري .. درجة الحرارة فوق الأسفلت – حيث يقف الصبي – تختلف عن درجة الحرارة داخل العربة كامري، حيث السائق المستهدف بالمنديل.. الصبي كان يجهل – أويتجاهل – فرق الدرجات عندما طرق زجاج الكاميري برفق ، راجيا من السائق شراء منديل ، ولهذا لم يكتمل البيع ..لم يختلفا في السعر ، فالزجاج العازل بينهما يعكس بأن السائق يرفض حتى مبدأ التفاوض في السعر .. ربما اختلاف درجة الحرارة – ما بين سطح الأسفلت وجوف الكامري – حال دون إكمال ( صفقة المنديل ) .. وكان العد التنازلي للإشارة الحمراء قد بلغ الأربعين .. والصبي لم يبع منديلا ..!!

** غادر تلك ، إلى حيث التي تقف وراءها ، عربة تاكسي .. وقبل أن يمد الصبي منديله ، رفع السائق علبة منديل لم تكن على الطبلون ، بمعنى : شكرا ، عندي منديل .. والصبيان حين يهرولون – بمناديلهم – على الأسفلت الساخن ، لايستهدفون سائقي السيارات التي على طبلونها علب المناديل ، بحيث يظنون بأن حاجة السائق إلى مناديلهم – فقط – هي التي ترغمه على الشراء وليست حاجتهم إلى جنيهات تسد رمقهم .. ولذلك تجاهل الصبي سائق العربة كوريلا التي كانت تقف بيميني ، تجاهله – كما سائق التاكسي – بعد أن ألقى نظرة يائسة على علبة مناديله المحشوة ، بمظان أنه ليس بحاجة إلى المزيد.. ولكن سائق الكوريلا لم يستجب لتجاهل الصبي ، ناداه واشترى منه علبتين ورفض استلام باقي المبلغ ، مشيرا إلى ناحيتي : إدي الزول داك علبتين وكدا حبايب .. فابتسمنا لبعض ، وابتسم الصبي .. وكاد العد التنازلي للإشارة الحمراء يكتمل ..فليكتمل ، لقد تعلم الصبي – في ثوانيه الأخيرة – بأن مناديله ليست لمسح عرق سائقي المركبات فقط ، بل لمسح عرقه أيضا..!!

صحيفة الحقيقة

تعليق واحد

  1. الذي يحيرنا وجود الاف الصبية صغار السن يستظلون من الشمس بالشمس يستجدون الناس ببضاعة علها تسد بعض رمقهم لا يرتادون المدارس و لا يحلمون بها ..كل ذلك في دولة المشروع الحضاري التي تدعي و يدعي منسوبوها انهم اتوا بما لم يستطعه الاوائل من التنمية و الانجازات و تستدعي انجازاتها هذه 77 وزيرا مركزيا و عدد لا يحصي من الولائيين و جيشا من المستشارين و الدستوريين و البرلمانيين تنفق عليهم خمسة اضعاف ما تنفقه علي الصحة و اضعاف ما تنفقه علي التعليم و اضعاف ما تنفقه علي الخدمات الاجتماعية … و تهتف بلا حياء " هي لله"!

  2. ودالطاهر واللمحات الانسانية العجيبة لك الود يارجل ياراقى والتحية والتقدير والمحبة لصاحب
    الكوريلا الرجل الانسان .. وانا كذلك ابتسمت بسمة عريضة ومعاها تنهيده بعد اكملت المقال
    والسودان مازال محافظ بالناس الطيبة …

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..