عمر الطيِّب الدُّوش

جمعتني به الظروف في بخت الرضا «كلية المعلمين الوسطى i.t.t.c.» عام 1962 – 1964» جاء هو من مدارس «الدوش» الأهلية الوسطى، وجئت انا من مدرسة رفاعة الاهلية الوسطى، انتدبتنا وزارة التربية والتعليم «محمد طلعت فريد» لكي نتلقي كورسا لمدة سنتين في مواد المرحلة المتوسطة وعلم النفس التربوي وبعض المواد المصاحبة للمناهج كالتربية الفنية، الفلاحة والتربية البدنية، وكانت دفعتنا الـ «21» التي قال عنها عميد معهد التربية مندور المهدي إنها الدفعة ذات اللون الخاص والطعم الخاص، فقد حوت تلك الدفعة ثلاثة انماط للمعلمين: معلمون من المدارس الاهلية «المعانة» ومعلمون من الشؤون الدينية ومعلمو المرحلة المتوسطة الحكوميون.
وكان بهذه الفرقة عدد كبير من معلمي العاصمة نذكر منهم على سبيل المثال، عبد الله محمد احمد وامين زكي، محمد الخاتم، التيجاني صديق، محمد الخالد عمر، عمر يوسف … حمزة وعمر الدوش.. الخ.
وجاء الدوش الى كلية المعلمين الوسطى ببخت الرضا واختار ثلاث مواد وتخصص فيها: اللغة العربية، واللغة الانجليزية والتاريخ.
وكان من مجموعتي، لأنني كنت قد تخصصت في مادة اللغة الانجليزية ومادة التاريخ، وكان يقرأ كثيرا، وكنا نسكن في داخلية واحدة كانت تسمى «الهلتون» لجمالها ونظافتها، في غرفتين متجاورتين، وعندما اخرج من غرفتي لقضاء حاجة ما، ارى باب غرفته مفتوحا، واراه جالسا وسط السرير «دائما» وفي يده كتاب، اهو كتاب عربي ام انجليزي ؟ لا ادري كان يقرأ كثيرا وينام قليلا ولا يصحو مبكرا، ولا يتحدث كثيرا، ويكره الاستفاضة في الكلام، وكنت دائما أحاول ان اجلس بقربه في مائدة السفرة، وكنت «أشاغله» لأسبر غور مداركه الادبية، فأقول:
– هي تشرب من فنجانها… فيتم عجز البيت قائلا:
– وأنا أشرب من أجفانها..
ثم أصمت ويصمت هو قليلا واستطرد..
– حبيبتي من آسيا.. فيقول دون تلعثم:
– الأنف من شيراز والعينان من قفقاسيا…
وكان يحفظ دواوين «نزار قباني» كلها، لقد كان معجبا به وبأشعاره، وكان يجلس في آخر الصفوف في مدرج حصة اللغة العربية، بجانبه صديقه محمد الخاتم يكتب قصاصات من الورق عليها أبيات من الشعر، يحتفظ بها أو يمزقها..
في العصريات… يخرج مهندما يتوسط شلته التي لا تفارقه ولا يفارقها، يذهبون الى مدينة الدويم، يدخلون السينما ويجلسون في المقاهي وأمام الحوانيت يحتسون الشاي والقهوة وخلافها، ثم يعودن آخر الليل بعد ان فرجوا عن همومهم ومتعوا أنفسهم قليلا واراحوها من وعثاء التحصيل والقراءة..
كان لا يأتي الى «نادي المعلمين»، النادي الذي كان يعج بصنوف وانماط عديدة من المعلمين الذين جاءوا من كل حدب وصوب، معلمون من حلفا القديمة، من سنكات وهيا، من كسلا، سنجة، سنار، ملكال، جوبا، بور، واو، الجنينة، نيالا والفاشر، وكانت اصوات المعلمين عالية، ونبراتهم حادة… لهم صخب وضحك خاصة مجموعة لاعبي «الكونكان» عندما يقول الفاتح: خمسين..
اما دخان السجائر فمعقود فوق رؤوسهم يتماوج بين البساط والسقف، وتفل التمباك مكدس عند نملية الباب..
انتهت مدة بخت الرضا… وجئنا الى العاصمة وتم توزيعنا على مدارسها لنقوم بتطبيق ما درسناه من مادة ومعرفة وعلم نفس لمدة شهر واحد.
وذهب الدوش الى مدارس والده وهو يئن بصنوف العلم والمعرفة، ثم تفرقت بنا السبل، وكنت اسأل عنه دائما، فيجيبني صديقه وصديقي خضر محمد علي «جعفر قرعم»، وتفرقت بنا السبل ابعد من ذلك، فقد انتدبتنا حكومة السودان للعمل بالجماهيرية العربية الليبية، ذهبت وذهب معي جعفر قرعم وغيرنا، واعتقد ذهب عمر الطيب الدوش الى شرق اوربا «براغ».
والفترة التي عاشها عمر الدوش في مدينة ام درمان كانت كفيلة بأن تصنع منه فنانا عالميا، فأم درمان مدينة «السحر والجمال»، فبالرغم من تساقط مبانيها الا انها لا تخلو من لمسات تطفح بالفن والجمال والابداع، وقد نهل عمر الطيب الدوش من ينابيع فنها واحتسى من القوارير الفضية المذهبة، وارتدى الثياب البيضاء الواسعة الفضفاضة من جلابيب و«عراريق» يتعتر «الزول» فيها، ووضع على كتفيه صديري، وأدخل قدميه في مركوب «جنينة»، وعندما لاقت سعاد عمر «كبرت كراعه من الفرح فصارت نص في الأرض ونص في النعال»..
هذا عمر الطيب الدوش، المعلم، اما عمر الشاعر والفنان فأشكر الاخ جابر حسين الناقد والباحث المعلوم، فقد اهداني في يوم 2000/10/14م، ديوان «ليل المغنين» للشاعر عمر الدوش، فقرأته واستمتعت به، فكتبت عنه في جريدة «الرأي الآخر»، وأشكر الأستاذ/ زين العابدين محمود لتناوله شخصية الفنان عمر الدوش «جريدة الصحافة الملف الثقافي 2010/10/26م»، فأنت يا أخي زين العابدين ترى عمر الطيب الدوش شاعرا وفنانا ومسرحيا لا يشق له غبار، فقد استفدت من مقالك الكثير، وآمل ان تضيفوا الى صفحات هوية عمر الطيب الدوش، المعلومة الصغيرة التي ذكرتها في مقالي هذا..
٭ تاجوج بتحلب من عيون كسلا
المطر…
وتوزع القش والشجر
بتفرِّق الهم والكدر
حفيانة تجري وراء السراب
تاجوج بتكتب بالحراب
تاجوج بتكتب بالشمال
وبترتق التوب والنعال
وتمرق الهم الموكر
في قلوب كل الرجال
عمر الطيب الدوش ديوان «ليل المغنين».
٭ الذين ينامون في الأغنية
ويمدون أعناقهم مثل عشب طويل
هم القابضون على
جمرة الأرض والمستحيل
وهم رفقتي
شاكر لعيبي ديوان «استغاثات»
٭ بناضل وبتعلَّم
تلميذ في مدرسة الشعب
المدرسة فاتحة على الشارع
والشارع فاتح في القلب
والقلب مساكن شعبية
وديني محل ما توديني
محجوب شريف.. «ديوان السنبلاية».

بقلم: محمد خير حسن سيد أحمد «رفاعة»:
الصحافة

تعليق واحد

  1. شكرا الاستاذ محمد خير على هذه السياحة الرصينة فى عالم وتاريخ الشاعر المعلم الفذ عمر الطيب الدوش..لقد كنت تلميذه فى مدارس الدوش المتوسطة وكان ابا لفصلنا وكان بعكس جميع الاستاذة الاجلاء بالمدرسة يتعامل معنا بروح الصديق وحنان الاب ولم يستخدم
    الضرب مطلقا فى عقاب من يخطئ . وقد كان رحمه الله رحمة واسعة يدير الجمعية الادبية بذوق الفنان والشاعر وقد حبب الينا القراءة والاهتمام بالفنون والادب بطريقته المدهشة فى التعليم ..عمر الدوش رمز كبير من رموز الوطنية السودانية ويستحق التوثيق الشامل
    لحياته المتنوعة وشعره الخالد ومسرحه العميق المتميز اتمنى ان تكون هذه الكتابة بداية
    لهذا التوثيق
    اخيرا …
    امسح لى بتصحيح معلومة وردت فى مقالك وهى أن مدارس الدوش تخص الاستاذ المربى الكبير السيد سيد الدوش وهو عم الشاعر وليس والده .
    مع عميق الشكر والتقدير .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..