في ذكرى الصحافي المخضرم (عبد الله رجب)

في ذكرى الصحافي المخضرم (عبد الله رجب)

صاحب (الصرّاحة) ، وكاتب (مذكرات أغبش)

(1915- 1986)

عبد الله الشقليني
[email][email protected][/email]

هرمٌ من أهرامات الصحافة عندنا هو ، ومنذ القِدم . من يوفيه حقه ؟ … لا أحد ، سوى الأسرة الصغيرة . فالأبناء والبنات والزوجة هم العشيرة منذ مجتمع الزراعة الأول ، يحفظون حق العشرة والوفاء .
في ذكرى رحيلك السابعة والعشرين، لن تحجب روحك عنا السُحب الكثيفة سيدي . ففي فراديسك البهية بإذنه تعالى تنعم أنت بمثوى تأتلق النفوس عنده ، وتتوهج أنت بنور النعيم الممنوح ، ورزق المولى الذي لا ينضب . فعندما تناديك الأرائك ، تقول في نفسك :
– أتصلح واحدة منها لضيوف الأُسرة ؟
وعندما تناديك فاكهة الجنان السرمدية ، أن تقطفها ، تقول لها أنت :
– أيمكنني أن أهب حصتي لحفيدي الصغير ( نِضال ) ؟
يقولون عندها لروحك الكريمة :
– أنسيت سيدنا نفسك ؟ ، لقد غادرت أنت الدنيا منذ السادس من يناير سنة ستة وثمانين وتسعمائة وألف . أحفادك الآن في سنوات الإزهار وجني الثمار. عبروا الطفولة منذ زمان ، وبقيت أنت في عُمر الشباب وصورة النبي يوسُف . ألم تزل تحمل همومهم ، وتدّخر كل ما تشتهي الأنفُس لهم ؟ .

(1)

في أوائل الثمانينات اعتدنا على مجيئه في الرابعة عصراً ، توصله المواصلات التي يتصيدها العامة . يتنازع الجميع عليها فيما بينهم ، وهو في عُمر من ينتظر الزحام حتى ينفضّ . ثم من بعد تسأل السيارات هل من راكب ؟ .
– الحلفاية…الحلفاية نَفر .
تسبقه بشاشته إلينا ، قبل أن نرى وجهه ، عصا صغيرة تسنده من أثر كسر قديم ، وصُحف ومجلات ودوريات عربية وانجليزية باليد الأخرى . ونحن من قبل قد استعمرنا داره بحُكم قرابة النَسب ، وسيد الدار قد قدِم من استشارية الصحافة في القصر الجمهوري في منتصف الثمانينات.

(2)

رأى سيدنا منذ زمان أن يكون ( أغبشاً ) ، فقد رفض المنزل الحكومي ، والهاتِف الحُكومي ، والسيارة الحكومية منذ السبعينات وفضّل أن يستأجر منزلاً للأسرة ، فالعُصامي المُخضرم سيد نفسه . لن تُغريه زينة الحياة أن ينسى محبته للصحافة ، استرخص النفيس الذي كان بين يديه من اليسار والنِعَم عندما كان يملك صحيفة ومطبعة في الخرطوم أيام الاستعمار ، وأحب القلم ، وأحب قلمه الصحافة ومتاعبها . شرع سيف ( الصراحة ) منذ نهاية الأربعينات في أوجه الظلم حينما أزهرت نباتاته الطُفيلية ، واستكتبت صحيفته اليَسَار الناهِض آنذاك . الحقّ لا يحبه أصحاب السُلطان على الدوام . المعارك الصحفية نيرانها تُصيب بالدوار . المنع والسجن ، والغرامات ، بل الأذى الجسدي أحياناً ، يتقبلها هو بطيب خاطر . النيران تستعر من حول سيدها ، ونعُمت الأسرة بلظاها وتقبلتها برضى من يهجُر الراحة في سبيل الرسالة ، التي رأى صاحبها أنها السُلطة التي تقوِّم الاعوجاج ، وترسي الشفافية . فعِفة اللسان و اليد هو شُغله الشاغل . الأخذ بالعلوم ونبذ الخُرافات ، والسعي وراء حقوق من لا يعرفون حقوقهم هو همه الأول . ظُلِمَتْ ( الصّراحة ) وصاحبها ، وقادها بعض الإعسار في أوائل الستينات إلى الحُكم المُجحِف بمصادرتها أيام الحُكم العسكري الأول ، ولم يُستعاد إلا بعض حقوق مالكها في عام 1984 م

(3)

في الثمانينات من القرن الماضي ، رصد سيدنا أخطاء حفظة القرآن من القُراء السودانيين من إذاعة أم درمان خلال عامين ، وهو يستمع من المذياع كل صباح . كتب عن دراسته تلك ، وحدد الأخطاء ، ومواضعها ، والمُقرئين واحداً ، واحداً . ذكر اليوم والتاريخ وساعة البث ، والآيات مُبتدأها ومنتهاها ، ونشر المبحث في صفحتين من الصحيفة اليومية تلك الأيام . غضِب الجميع عليه ، كيف يجسُر من لم يتتلمذ عند الأزهريين أن يُصحِح أمراً من صميم أمور الدين ! . تبسم سيدنا ، و هو ينتظر الردود الموضوعية المُفصلة ، ولا ردود .
ما كَتَب هو عن أمر قبل أن يحيط بأسبابه ، ونهل من مصادره الوثيقة ،وصديقه الصدوق في الزمان كِتاب . كُنت عندما أشتجر مع الصديق ( الدكتور عبدالمنعم فضل الله ) ونختلف في الكلمات ومعانيها ونتبارى ، نحتكِم إليه في المعاني الإنجليزية ، فكان يسألنا :
– في أي العلوم تتصارعان ؟ ، للكلمات في قواميس الطب غيرها في الهندسة ، أو الفلسفة أو علوم الاجتماع أو القانون أو غيرهم ؟..
نشير إليه بالعلم الذي نختلف في رواياته و يجيبنا شفهياً دون مرجع في المعنى الذي نطلب ، وعندما نستطلع الأسفار نجد فيها بعض مما أفاض . كان قاموساً ومُنجداً مُتحركاً ، وموسوعة علوم وآداب ومعرفة .

(4)

وُلد بسنجة حوالى عام 1915 م ، و درس الابتدائية في العشرينات كتلميذ نظامي ثم استكمل من بعد تعليم نفسه بنفسه و بالمراسلة ، واستحق لقب العِصامي المخضرم . مكتبته تعُج بالكُتب والدوريات والنفيس من المعاجم والمجلات الإنجليزية والعربية ، وعليها مراجعة اللغة بقلم الرُصاص بخط يده ، تغطي كل الصفحات .بها تصحيح أخطاء اللغة ، وسهو الطباعة ، وتجاوز الغفلة وضعف التجويد ، ودقة الإملاء . يترجم المقالات السياسة المُميزة عن الصُحف والمجلات الأجنبية . له تراجم مُسلسلة عن مجلة ( سايكولوجيست ) الإنجليزية ،يكتبها في مجلة الإذاعة والتلفزيون تباعاً كل أسبوع ، يلونها بالإضافة والنصائح والتلميحات من عنده بين مزدوجتين . دقيق في تتبع النُظم فيفصل النص المُتَرجم عن الإضافة بوضوح العارف . داوم على ترجمة المقالات السياسية الأجنبية لكُتاب أعمدة مشهورين بالكمّ الغزير من المعارف والرؤية الثاقبة والتحليل للحاضر وملامح المستقبل ، إذ تحوي الرؤية الناصعة وخبرة التناول واللغة السياسية المبدعة . للرأي سماوات منفتحة ، ولا حاجة للتقيّة أو الالتفاف على الرأي المخالف . كان ( عبد الله رجب ) سيد الترجمة بحق ، فقد مثل السودان في أول مؤتمر للترجمة في دولة الكويت في أوائل السبعينات . نذر وقته قبل وفاته لملء الفراغات الزمنية في موسوعته الاجتماعية ، التاريخية ، والثقافية ( مذكرات أغبش ) . وبدأ يجددها بالفعل . قال لنا مرة عندما سألناه :
– أستطيع الزعم بأن ( مذكرات أغبش ) سوف تصبح من كلاسيكيات الشعب السوداني ، مثل (طبقات ود ضيف الله ) وسوف تعيش في وجدان هذا الشعب تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل ، بإذن الله . فهي سيرة أجيال تحكي مسيرة السودان وأهله ، سبل العيش ، وتواريخ النهضة .

(5)

عتب عليه البعض أن تناول سيرتهم بالصّراحة ، فالحقائق لديه لا تقبل المساومة ، وإلا ستفقد المصداقية ، ومصداقية التأريخ وثقته كمصدر . جدد بعض المذكرات ، وكان يُراجِع دار الوثائق المركزية لإثراء الوقائع التي كتبها ، وكان شاهد عصرها . عاجلته المنيّة قبل الاستكمال . أكمل الأمر من بعده ابنه وصديقنا الصحافي (عبد الحفيظ عبد الله رجب ) ، حتى ظهر سفر ( مذكرات أغبش ) إلى الوجود بطبعة دار الخليج للصحافة والطباعة والنشر عام 1988 م. ونَعُمت المكتبة السودانية وهي تتزين به. وأظن المذكرات في حاجة لإعادة الطبع والتحقيق . والمخطوطات التي كان يدونها بيده في حاجة للملمة أطرافها وتجميعها ” كمخطوطات ” .
عند تناول سيدنا الكتابة والترجمة ،يجبر الهامات أن تزدهي رفعةً وهي تنحني أمام موسوعيته المُترفة وهي تتخطى الجسور واحداً ، واحداً . فقد أحب الفقيد وطنه وأهل وطنه وأسرف في محبتهم ، وأتخذ في دروب المحبة الطريق الوعر ، واصطفي لرسالته الغالي و النفيس ليكون مثالاً ناضجاً بقصة المثقف وقضايا شعبه .

(6)

في قضية أزمة حرية الصحافة التي نعانيها الآن ،نقطف من “مذكرات أغبش ” ما ذكره الأستاذ ” عبد الله رجب ” عن اتحاد الصحافة أيام المُستعمر ، علنا نتذكر ” بأية حال عُدت يا عيد !:
{ كان اتحاد الصحافة قد تأسس في الأربعينات ورئيسه الأول ” أحمد يوسف هاشم ” وكان الاتحاد لا يفرق بين أصحاب الصحف و”المحررين المستخدمين “، كما كان يضم اسمياً الصحافيين الأجانب بالجريدتين الانجليزيتين والجريدة اليونانية . وكان سكرتيره الأول ” إسماعيل العتباني ” ( لو لم تخني الذاكرة ) ، ولكن رئاسة “أحمد يوسف هاشم ” كانت ممتازة وقد ظل يمنح حيويته لتلك المؤسسة ولم تؤثر فيه ارتباطاته السياسية ، وقد سُميّ المرحوم ” أحمد يوسف هاشم ” ” أبو الصحف ” لأنه كان يحرص على حضور ولادة كل صحيفة جديدة ويتسلم نسختها الأولى من المطبعة ويقدم تهانيه وانتقاداته بمودة صافية . وكان يدافع عن مصالح الصحافة ككل لدى السلطات كما كان يحتج على المظالم التي تقع على الأفراد الصحافيين ? فعلى الرغم من تعاونه السياسي والمالي مع دائرة المهدي فإنه قد صاغ بنفسه البيان الذي هاجم اعتداء ” المهدويين ” أكثر من مرة على صحفيين منهم ” عبد الله رجب ” و ” صالح عرابي ” 1950 ، ثم قاد حملة اضراب الصحافة عند تعطيل جريدة ” الصراحة ” في ديسمبر 1952 م.وعلى كل حال ، فإن اتحاد الصحافة ككل ولجنته التنفيذية المنتخبة وخصوصاً في الخمسينات هي التي ظلت تقود الاحتجاج على المواد القانونية المقيدة للحريات مثل :
قانون الصحافة والطباعة 1931 م ، وهو يسمح بالتعطيل الإداري للصحف .
المادة 105 التي كانت تعاقب على الإساءة وإثارة الكراهية ضد حكومة السودان أو حكومة بريطانيا أو حكومة مصر .
المادة 106،107،و107 (أ) الإثارة العامة وإثارة الطبقات .
المادة 127 (أ) إثارة الشغب .
المادة 436 إشانة السمعة .
المادة 437 (أ) الكذب الضار
واللجنة التنفيذية للاتحاد قد شملت في أوقات مختلفة الأساتذة إسماعيل العتباني ، وبشير محمد سعيد ومحجوب عثمان ومحجوب محمد صالح ومحمد سعيد معروف وفضل بشير وعبد الله رجب ( بعد تنازل أحمد يوسف عن الرئاسة أختير ” بشير محمد سعيد ” كرئيس في عام 1956 م ، وقد خدم بشير الاتحاد من ناحية التمويل وتأثيث دار ، وسعى من أجل توطيد امتيازات حكومية للصحافيين ? ولكنه كان يفتقد الحمية المأثورة عن أبي الصحف رحمه الله ) }

(7)

كتب الأستاذ ” عبد الله رجب ” عن بدء صحيفته ” الصراحة ” ، ونقطف من سِفره ” مذكرات أغبش ” على لسانه الراوي :
{ إني ظللت أحلم بالصحافة منذ أواخر العشرينات ، وقد اصدرت صحيفة محلية تُكتب باليد في السوكي عام 1922 ، وسميتها ” الحق الصراح ” ومنذ ذلك العام بدأت مراسلة الصحف ، ولكن أول جريدة سودانية نشرت لي شيئاً هي ” السودان ” في أعوام 1935/1937 م ، ثم قفزت إلى ” النيل ” في أعوام 1938/1945 م ، وجربت السودان الجديد الأسبوعية 1944/1946 م ، و” الرأي العام ” 1945 م و ” أخبار فوراوي ” 1945/1949 م و ” الشباب ” 1946/1948 م. ومع أنني انسحبت من شراكة مجلة ” كردفان ” 1945م فإن مراسلاتي لها قد اتصلت ..والتحقت بـ ” السودان الجديد ” اليومية في ابريل 1947 م واتصلت كتاباتي بها إلى يناير 1950 م .
حصلت مفاوضة مع المرحوم ” عبد الله ميرغني ” للعمل بـ ” صوت السودان ” 1946 م بواسطة الأخ ” محمد أحمد السلمابي ” مع أني كنت أتعاطف مع حزب الاتحاديين ( بفضل تعاوني مع إبراهيم يوسف سليمان” في لجنة المؤتمر بالقضارف 1942/1945م و ” عبد الله ميرغني ” ? كان ذاك اتحادياً – ) فإنني رجحت العمل مع ” مكي عباس ” بمجلة ” الرائد ” ? على أساس أن ” الصوت ” طائفية ? ولكنه ابطأ عني فقبلت عرض “السودان الجديد ” لأنها مستقلة ( وكنتُ قد اعتذرت للمرحوم” أحمد يوسف هاشم ” عندما عرض عليّ العمل بـ ” النيل ” في سنة 1942 م لأنها طائفية !) .
في سنة 1949 م كان ” أحمد يوسف هاشم ” قد دخل الجمعية التشريعية بالتعاون مع حزب الأمة ، وقد فكرت في انتمائي السياسي ، وطورت فكرة جريدة ” الصَّراحة ” وحصلت على رخصتها في تلك السنة ولكنها صدرت في 1/1/ 1950 م }
امتدت الصراحة منذ 1950 وإلى 1960 حين صادر ماكيناتها المستوردة الجديدة عسكر عبود ، وأصدروا بها صحيفة ” الثورة ” !!!

(8)

أما عن الخاص من حياة الراحل المقيم الأستاذ ” عبد الله رجب “، فلن يوفيه مقال . كان هو الأب بحنوه وكرمه وشهامته ونُبل خصاله وتواضعه وأدبه . له نظرات بعيدة في التربية ومؤاخاة الأبناء وترك لهم الحرية المسئولة باباً مُشرعاً أوسع مما عرفه مُجايليه . كان نهراً يتدفق يسقي القاصي والداني . كان سيدنا سند الأهل والمعارف والعشيرة ، كان هو ( الدُخري وكان البَحَر الكبير ) .
وفي يوم من الأيام سجد لربه فجراً ، فقفا ساكناً . ظل يَسمعنا هو بلا حِراك أسبوعا في مستشفى سوبا من بعد ،وفي صبيحة 6/1/1986 تخيرته الرفقة السرمدية . نَعُم الثرى بحضنه بحلفاية الملوك ، مَلِكاً دثرته أرض الملوك . لتعطره الفيوض الربانية بشآبيب الرحمة بإذن مولاه ، و يُشرق قبره بوهج بروق الجِنان وهي تسكُب نفيس رياحينها عليه ، ويسكنه المولى جوار الصديقين ، فنعم الجار ونعم المستجير .

عبد الله الشقليني
06/01/2013

تعليق واحد

  1. لك الشكر يا استاذ الشقليني فانت دائما ما تذكرنا بالعمالقه في بلادنا حتي تبقي ذكراهم العطره فينا دائما وابدا وخاصة اجيالنا التي لم تحظي بمزاملة هولاء الاكابر

    عبدالله رجب والسلمابي واحمد يوسف هاشم ومكي عباس

    انظروا وتمعنوا في سيرة هولاء الرجال العظماء اعضاء اللجنة التنفيذية لاتحاد الصحفيين وقد شملت في أوقات مختلفة الأساتذة إسماعيل العتباني ، وبشير محمد سعيد ومحجوب عثمان ومحجوب محمد صالح ومحمد سعيد معروف وفضل بشير وعبد الله رجب ,,عقد فريد من رواد الصحافه في بلادنا

    وقارنوا هولاء الرجال بصحفيي الانقاذ كمال حسن بحيت,, الطيب مصطفي,, اسحاق فضل الله,واولاد البلال,,وابوالعزائم اخوان وعلي العتباني وعروه وعثمان ميرغني وعبدالظافر وغيرهم من الذين ابتلانا بهم رب العباد من مجمل ابتلاءته بنا والحمد الله انه زمن الانحطاط الانقاذي ولكننا لن نقنط من رحمة رب العباد سيزول نظام الانقاذ الي مزبلة التاريخ ومعه هولاء الاقزام والشراذم الذين يطلقون علي انفسهم زورا مسمي الصحفيين

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..