جبر الخاطر

كان كلما مر ببيته المطل على الطريق المؤدي إلى المسجد ألقى عليه التحية فيبادله صاحب الدار بأحسن منها ويضيف قائلاً : ” اتفضل يا ولدي أشرب معاي كباية شاي” وكان صاحبنا دائماً على عجلة من أمره فيعتذر له ويوعده بتلبية دعوته في المرة القادمة. تكررت الدعوة واعتذر صاحبنا عنها مراراً. في يوم من الأيام وكان الفصل صيفاً والوقت نهاراً، تذكر صاحبنا دعوة صاحبه المتكررة، فنوى زيارته تلبية لدعوته فذهب إليه وألقى التحية عليه وقال له جئتك لشرب الشاي. رحب به “فكي آدم ” ترحيباً بالغاً قائلاً ” الليلة جيت تجبر بخاطري يا ولدي الله يجبر بخاطرك.”

حكى ” فكى آدم” لصاحبه شيئاً عن حياته وأهله الذين فارقهم منذ زمان بعيد وانقطع التواصل بينهم ، وحدثه عن الأسباب التي منعته عن الزواج وأنه بلغ من العمر عتيا واستقر به المقام منذ سنين في هذه البلدة المباركة الطيب أهلها ووجد عندهم حسن المعاملة وطيب المعشر وسيقضي باقي عمره معهم وهو مطمئن إذا وافته المنية أنهم سيكرمونه كما أحسنوا معاملته في حياته.

بدأ صاحبنا يفكر في كلام “فكي آدم” وقد تأثر بحديثه وأعاد التفكير في الظروف التي ترغم الإنسان على فراق أهله وتحرمه من التواصل معهم والأسباب التي تدفعه عن العزوف عن الزواج وتكوين أسرة أشد ما يحتاجها الإنسان في مثل هذه الظروف: الغربة وبلوغ سن الشيخوخة، فسالت دمعة من عينه مناجياً نفسه ما أقسى ظروف الحياة عندما تحرم الإنسان عن أهله وعشيرته.

جال صاحبنا ببصره في غرفة “فكي آدم” التي لا يوجد بها نوافذ ولا حتى “طاقة” لمرور الهواء، وبدت له موحشة مظلمة رغم أن الوقت كان نهاراً وأشعة الشمس تتسرب إليها من خلال شقوق جدرانها المتصدعة، كما أنها خالية تماماً من الأثاث سوى “عنقريب” قصير متأرجح متهتك الحبال موضوع “قصاد” الباب و”تبروقة مهترئة” وجرة صغيرة “قلة” صغيرة وإبريق

شرع “فكي آدم” في تجهيز الشاي: بدأ “يبحت” بطرف أصبعه حول “عنقريبه” عن ” كسرات” فحم قام بجمع كمية قليلة منه، “ولملم” شوية ” قشقش” من داخل الغرفة وأشعل النار وقام بوضع “كفتيرة” صغيرة قديمة لا يكاد يبين لها لون من تراكم الدخان “السكن” عليها. عبأ “الكفتيرة” من “إبريقه” ، واستغرق الماء وقتا طويلاً إلى أن وصل درجة الغليان، ثم أخذ قليلاً من الشاي والسكر من علبة داكنة اللون ووضعهما في “الكفتيرة” وترك الماء يغلي ويغلي. فاحت رائحة الشاي وعطرت أجواء الغرفة. صب “فكي آدم” الشاي في “كباية مكسرة الحواف” كانت أصلاً وعاء لمربى وقدمه لصاحبه . رشف صاحبنا رشفة فوجد طعم الشاي طيباً وأعجبته نكهته فشربه حتى آخر قطرة مثنياً على صاحبه وطلب المزيد منه. بعد أن شرب صاحبنا الكوب الثاني قال: كانت هذه أطيب “كباية شاي” شربها في حياته. ودع صاحبنا “فكي آدم” ووعده بزيارة أخرى. شكره “فكي آدم” على الزيارة ودعا له بخير. في تلك الليلة وعند آذان الفجر، رأى صاحبنا رؤية جميله فاستبشر بها خيرا، ولما كانت الأعمال بالنيات ومرتبطة بقرائن الأحوال ، خطر على ذهن صاحبنا تلك الزيارة التي قام بها نهاراً بنية تطييب خاطر “فكي آدم” والتي ربما تكون السبب في تلك الرؤية الجميلة.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. 1. هذه اخري قصة قصيرة جدا لإسحاق بله الأمين، ولكن يا لروعتها! اميز ما فيها في رائيي هي هذه النهاية الهادئة المفتوحة(making it an open-end narrative)، وكانها تقول لك ولي قراؤوها “ليس الوجهة(telos) هي بيت القصيد، بل المشوار والطريق” _ وهل من رمز اقوي مباراة واستدعاءأ لمشوار حياة الغريب الفكي آدم في تلك البلدة الطيب اهلها كطيبته وزهده الرائعين؟
    2. شكرا يا إسحاق بله الأمين علي هذا الابداع القصصي.

  2. قصة قصيرة جيدة … ممتازة على الرقم من ان الخيال فيها محدود .. استعاض عن الخيال بسرد ادق تفاصيل المكان الرئيسي ( الغرفة ) … عدم المباشرة بوصف ضعف البصر لأمر جيد …. سهولة اللغة وخلو القصة من التعقيد والغموض لأمر جيد … فقط تحتاج لمفاجأة القارئ بما يأتي …. لا تعطيه ما يتوقعه او الذي في خياله وذلك ليكون الواقع في شكله الخيالي …… ليس فيها أي تناقض بين البيئة الواقعية …. الجميل : مخالفتها للسائد في القصة القصيرة والرواية في وقتنا هذا ( الجنس والرومانسية ) هنا ولوج لقيم روحية اجمل واشمل … الشاب تقي متواضع … زهد وقناعة ورضا ممثلا في الشيخ … روح السماحة وايواء الغريب كصفة مجتمعية …. النهاية المفتوحة … او صعوبة النهاية هي المحك …

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..