إبداء شعور

إن تظاهرات طالبات و طلاب المدارس الثانوية في الخرطوم بحري قبيل العصيان المدني الأخير , قد أعادت إلى نفسي ذكريات محببة كنت قد كتبتها في مقالة قمت بنشرها في صحيفة ( الخرطوم ) بتاريخ 1/9/2007 و تحمل نفس العنوان أعلاه , و هي مقالة حاوية على جوانب عدة من الحياة السياسية و الثقافية في فترة الزمن الجميل كما يطلقون عليه و هي فترة الستينات من القرن الماضي , فإليكم بها :
كانت مدرسة الخرطوم بحري الثانوية الحكومية هي المدرسة الثانوية الوحيدة في مدينة الخرطوم بحري و في منطقة شرق النيل كلها , و لذلك كان إحساسنا بالمسؤولية , مدرسين و طلابا , كبيرا تجاه مجتمع المنطقة . كنا نترك بوابة المدرسة مفتوحة عند مزاولتنا للمناشط المختلفة من خلال الجمعيات كالندوات الثقافية و المحاضرات و الحفلات الترفيهية و كنا ندعوالمواطنين ليشاركوننا , و قد تعمق هذا الشعور عندنا عند نشوب المظاهرات التي سبقت التحرك الجماهيري العام أثناء ثورة أكتوبر 1964 و نحن حينذاك في السنة الثانية الثانوية . لقد عبرت الأخبار ( كبري ) النيل الأزرق قادمة إلينا من نادي طلاب جامعة الخرطوم بعد الندوة الشهيرة عن مشكلة الجنوب , و تجمعنا نحن بعض الطلبة البارزين و إتفقنا على المواقف الإيجابية و إتصلنا بالجامعة عن طريق معارفنا هناك .
في صبيحة يوم إندلاع المظاهرات خرجنا نحن من المدرسة و قد شجعنا الأساتذة الشباب على ذلك و أخبرونا ألا نرضخ للتهديدات , و أنا أذكر هنا أستاذين كانا قد وقفا معنا و شدا من أزرنا و هما الأستاذ ( الدكتور حاليا ) حيدر إبراهيم علي و الآخر الأستاذ عثمان عبد العاطي و الذي ترك التعليم بعد ذلك و إنضم إلى الحكومات المحلية ضابطا في المجلس الريفي بالخرطوم بحري . خرجنا و بدأنا في الهتافات و عبرنا السوق و انضمت الينا أعداد من السابلة و مررنا بالمجلس الريفي ثم بموقف بصات شمبات و الحلفاية و هناك رفعت صوتي عاليا بالهتاف و تقدمت الى الأمام حتى يراني أهلي و معارفي , و إزداد عدد الجماهير و نحن نقترب من المجلس البلدي , و فجأة خرجت علينا ( الكوامر ) حاملة جنود مكافحة الشغب , مع أنه لم يكن هنالك شغب , و ألقوا علينا ( البمبان ) ثم نزلوا علينا بعصيهم و تفرقنا و دافعنا عن أنفسنا بالحجارة و نحن نعدو نحو المدرسة , و لكننا فوجئنا بأن بوابتها قد أغلقت ! خرج علينا صول المدرسة و إسمه خير السيد , و هو المسؤول عن النظام و التدريب العسكري ( الكديت ) و جلد المعاقبين , حاملا عصاه و قال بصوت جهير : ( قايلين الحكاية لعب ؟ الناظر قال مافي واحد يدخل , يلا بيوتكم ) , وأسقط في أيدينا ! تفرقنا بخطى متثاقلة نحو بيوتنا بينما إستمر بعض الطلاب المتخاذلين يتلقون دروسهم . كنا نأتي يوميا الى خارج سور المدرسة و نمكث في ( برندات ) السوق نتسقط الأخبار , و كنا نتبارى في كشف رجال البوليس السري الذين كانوا يتجولون بالملابس المدنية و يندسون بين الناس لتصيّد الأخبار و كنا نلاحظ أحيانا الحذاء ( الصندل ) العسكري أو المنديل الأحمر في الجيب و كلها أشياء كانت تصرف لعساكر الشرطة .
أخيرا بعد أيام قضيناها على تلك الحالة أعلن الناظر أنه يجب على كل طالب منا أن يحضر ولي أمره ليقابله , فذهبت إلى أخي الكبير أحمد نسبة لتواجد والدي خارج الخرطوم و أخبرته فأتى معي لمقابلة الناظر , و في مكتبه بدا الناظر غاضبا و تحدث كثيرا عن انصراف الطلبة الى ما لا يعنيهم و أنهم على وشك أن يضيّعوا مستقبلهم و أولى لهم أن ينظروا الى أهليهم , و فجأة سألني سؤالا مباشرا : ( هسي لو سألتك مرقت و ظاهرت ليه , بتقدر تجاوب ؟ ) و وجدت نفسي أجيبه : ( إبداء شعور يا أستاذ ) , إهتاج الناظر و أمرني أن أخرج من المدرسة مطرودا و لينفعني إبداء الشعور ! صرخ أخي أحمد في وجهي و أمرني أن أصمت و لا أقول كلمة واحدة , ثم بدأ يترجى في الناظر أن يسامحني على إبداء شعوري , و أخيرا قبل الناظر أن يأخذ تعهدا من أخي أحمد ألا أعود للتظاهر بينما أنا صامت كما أمرني أخي أحمد , ثم نادى الناظر على الصول خير السيد و أمره أن يعاقبني بما هو متفق عليه بينهما , قبل أن يسمح لي بدخول الفصل . تلقفني الصول خير السيد و أوقفني أمام حائط (البرندة ) و وجهي على الحائط و قال لي : ( شايف النقطة الفوق دي ؟ إيدينك الإتنين يكونوا فيها و لو نزّلتهم حأعد من الأول , مفهوم ؟ ) و بدأ في جلدي ب ( البسطونة ) جلدا مبرحا و أنا أقول له : ( ما عندك وطنية , هسي لو كنت ولدك كنت بتدقني شديد كده ؟ ) و هو يرفع صوته بعدد الجلدات , و عندما وصل الى الجلدة السابعة تخدّرت مؤخرتي و إستمر في الجلد الى أن وصل الى العشرين جلدة ثم توقف و أمرني بالدخول الى الفصل . نقل أخي أحمد ما حدث في المدرسة لبقية الأهل في الحلفاية و صاروا كلهم يضحكون و يقولون لي : ( قلت للناظر إبداء شعور ؟ هاهاها ) .
حقيقة , تمعنت بعد ذلك في سؤال الناظر لي لماذا خرجت و تظاهرت , هل كان ذلك ضد حكومة 17 نوفمبر أم كان ضد يد البطش و القمع التي كانت تمتلكها الشرطة ؟ حكومة 17 نوفمبر و رغم قصر مدتها التي لم تتجاوز الست سنوات أنجزت الكثير للوطن و وفت لشعارها الذي رفعته و هو ( أحكموا علينا بأعمالنا ) و ها نحن نحكم عليها و نعدد إنجازاتها الكثيرة في البنية التحتية للسودان و التي ظلت كما هي في مرافق كثيرة لسنين عددا , مثلا الطرق المسفلتة و السكك الحديدية و الجسور و السدود و المشاريع الزراعية المروية , و فوق كل ذلك المواطن السوداني الذي كان يعيش في رفاهية و كان الإقتصاد قويا و كان السودان جاذبا للمستثمرين و للمهاجرين . ( أحكموا علينا بأعمالنا ) شعار حكومة عبود أرى نفسي أقارنه مع شعار حكومة النميري ( أبن و عمر ) و المقصود به البناء و التعمير , و لكن أحدهم عندما لاحظ تواجد هذا الشعار على أماكن عدة و بالخط العريض , سال ببراءة : ( إنتوا ابن و عمر ديل منو ؟ ) , و أتت بعد ذلك حكومة البشير بشعارها ( نأكل مما نزرع و نلبس مما نصنع ) و لا زلنا نجد أنفسنا لا نأكل الا الخشاش و لا نلبس الا الأسمال .
لقد كانت الإيدولوجيات وراء تأجيج نيران ثورة أكتوبر , و ساعدتهم على ذلك طيبة الرئيس عبود و أعضاء مجلسه . كان أهلنا يحللون ما حدث بأنه تآمر ضد القبائل الكبرى خاصة الشايقية لأنهم كانوا المهيمنين , و أننا قد خُدعنا بالشعارات البراقة التي كانت تنطلق من المظاهرات و كانت تدبجها المنشورات السياسية , و حقيقة , أثبتت الأيام بعد ذلك صدق حدسهم اذ طالت حملات التطهير المجحفة كل الشايقية في كل المرافق , و صعدت عناصر عملت لمصلحتها و مصلحة من هم خلفها , و سقطت الأقنعة عن الشعارات البراقة ..
كما أسلفت في مقالة سابقة كان الأستاذ بشير قسم الله مدرس مادة التاريخ أبا لفصلنا و كانت لنا حصة أسبوعية للمكتبة جعلها مفتوحة يدرسنا فيها عن التربية الوطنية التي أعد فيها منهجا تربويا كاملا , كما كان يحدثنا عن علم النفس الذي كان دارسا له , فيحدثنا عن تكوين شخصية الفرد في فترة المراهقة و كان يشجعنا على ابداء الرأي و مواجهة الجمهور من خلال الحصص التي نقوم أنفسنا بتدريسها بينما هو يجلس في مكان الطالب ? الأستاذ و يستمع و يبدي ملاحظاته , و كان يردد علينا اسم جوستاف فرويد مقرونا بالتحليل النفسي , و في ذات مرة و أثناء تجوالي في دور الكتب وجدت كتاب سلامة موسى ( الشخصية الناجعة ) فاشتريته و قرأته بنهم و لمرات عدة . لقد تطرق فيه سلامة موسى للكيفية التي تكون بها الشخصية قوية و إجتماعية و إقتحامية و مؤثرة , كما تطرق فيه لنظرية فرويد عن التحليل النفسي , و كما هو معروف فان سلامة موسى و هدى شعراوي يعتبران رائدي تحرير المرأة في مصر . لقد قادني ذلك الى التعمق في علم النفس فقرأت الكثيرعن التحليل النفسي وعلمت مما قاله فرويد أن العقل الظاهر لا يؤثر كثيرا في السلوك البشري , و إنما ذلك يقوم به العقل الباطن , و أن للانسان ثلاث ذوات : ذات حيوانية و ذات بشرية و ذات مثالية , و أن الذات الحيوانية كلها لاشعورية و تدفع نحو غاياته السافلة التي تتمحور في اللذة و الألم , و أن الذات البشرية كلها شعورية واعية تراعي في تصرفاتها قيود المجتمع , و أن الذات المثالية هي الضمير أو الرقيب الرادع , و أن العقد النفسية هي رغبات مكبوتة في الأعماق لم يتمكن الفرد من إشباعها , و أن الكثيرين قد إنتقدوا فرويد لتركيزه على الجنس في التحليل النفسي .
إنني أعتبر أن أعظم إفرازات ثورة أكتوبر 1964 هو الوعي المعرفي الذي إنتشر بإنتشار مواعينه مع إنفتاح الآفاق الثقافية . كنا نذهب الى المركز الثقافي البريطاني لمشاهدة أفلام روائع القصص , و كذا نعرج على المركز الثقافي الأمريكي و نستعير الكتب لقراءتها , ثم نمر على المركز الثقافي الفرنسي , ثم المركز الثقافي السوفيتي , ثم معهد جوتة الألماني لنحضر المعارض الثقافية و المحاضرات , و كان تبادل الآراء عن طريق الندوات المفتوحة في كل الأندية الثقافية و في الليالي السياسية و حتى في مواقف البصات و تحت الشجر , و كانت دور السينما تعرض أروع الأفلام العالمية , أما دور الكتب فقد كانت تعج بكل إصدارات دور النشر العربية و العالمية. لقد وجدنا أنفسنا ننهل من كل هذا الكم الهائل من المعرفة , بدون خطوط صفراء أو حمراء , فنهلنا من كتب الفلسفة الإسلامية كما عند الفارابي و الغزالي و إبن سينا و إبن رشد , و دخلنا الى الفلسفة الحديثة فتعرفنا على تشارلس دارون و نظرية النشؤ و الإرتقاء ثم توماس مور واليوتوبيا ثم فريدريك إنجلز و المادية الديالكتيكية ثم كارل مركس و رأس المال ثم لينين و التطبيق العملي للشيوعية , و لم ننس آدم سميث و إقتصاد السوق ثم سارتر و سيمون ديبوفوار و النظرية الوجودية , و حتى في مجال القصص الواقعية مررنا بفرانسوا ساجان و البرتو مورافيا و د. ه. لورنس . كان كل ذلك يمثل لنا إنعتاقا من إنغلاق المحلية و سباحة في فضاءات العالمية و نحن بعد نعتبر في مقتبل العمر , و قد تخمّر كل ذلك و تصادم و تفاعل مع ما هو مترسب في دواخلنا و أحالنا لفترة من الزمان الى براثن التوهان في مهمه الشك و اليقين , و صرنا نمثل حقا و حقيقة أزمة الانسان المعاصر التي بدأها ديكارت بنظرية الشك و ختمها كولين ويلسون بالانسان اللامنتمي .
أذكر في تلك الفترة أن حضرت الى السودان فرقة أفريقية من شرق أفريقيا كانت تغني بالسواحيلي و كان هدفها أن تطوف على الدول الأفريقية داعية للسلام و لإستشراف المستقبل . كانت تسمى (هارامبي أفريكا ) و كانت أغانيها تدور حول ذات الهدف و لديها أغنية مشهورة تقول : ( أي الطرق نطرق يا أفريقيا ) . حقا كان الشباب أمثالنا في حيرة و كانوا يعودون الى دواخلهم طلبا للإهتداء , و هكذا توزعتهم الإيدولوجيات من أقصى اليمين الى أقصى اليسار و بقي من بقي منهم في الوسط . هنا أذكر أزمة الكاتب المصري الدكتور مصطفى محمود الذي عانى في نفس فترة الستينات في مصر من تلاطم الأفكار و الإيدولوجيات عليه حتى عاد الى دواخله و إهتدى الى طريقه و أخرج كتابه ( رحلتي من الشك الى الإيمان ) . هذا يقودني هنا الى أيهما أجدى : الوصاية و تلقين السبيل و الهدف و حجر ما عدا ذلك من أفكار تعتبر هدامة , أم إطلاق العنان و إزالة كل الحواجز و ترك المرء ليقرر في حرية ما يريد ؟ إن الناس ليسوا متساوين في رجاحة عقولهم أو في درجة إستيعابهم أو في حسن إختيارهم و لذلك لا بد من وجود ثوابت داخلية و إيعازية لا تحيد عنها الحرية و لا تتخطاها , و هكذا كان ديدني …

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..