حزب البشير.. رحلة البحث عن «انقاذ»

الخرطوم : مزدلفة محمد عثمان :

بدا غريبا ومثيرا ما اطلقته قيادات نافذه فى حزب المؤتمر الوطنى على مدى الاسبوعين الماضيين من حاجة الحزب الى اصلاح وتغييرات كبيرة لم يكن احد يجرؤ على الهمس بها على مدى العشرين عاما الماضية ناهيك عن اطلاقها فى الهواء.. فالحزب الممسكة قياداته بمفاصل الدولة لسنوات طويلة غشيته موجة الرغبة فى التغيير بعدما احاط ربيع الثورات بدول قريبة استاثرت فيها احزاب الحكم بالسلطة لاعوام متواليات ، فانتبهت الخرطوم لضرورة تلافى ثغرات يمكن ان تنفذ منها شرارة الثورة والمطالبة بالتغيير فكان ان بدأ الحزب الحاكم لعمل الجدى للتغيير «الذاتى» ولم يجد مسؤول قطاع الفكر واحد ابرز قياداته المخضرمين ابراهيم احمد عمر حرجا فى الصدع امام المؤتمر التتنشيطى للقطاع السياسى الاسبوع قبل الماضى بتلك الرغبة والحاجة الملحة لاجراء اصلاحات ولم يكتف بتلك الدعوة لكنه لمس مناطق غاية فى الحساسية حين تحدث عما كان حزبه يمارس الشورى فعليا وكيف يتخذ القرار وباى طريقة يدير علاقاته مع الاحزاب السياسية الاخرى وما اذا كان الحوار مع الأحزاب الكبيرة بقصد إشراكهم في الحكومة المقبلة نهض على اسس وخطط صحيحة ويقول عمر وهو المكلف بمفاوضة الحزب الاتحادى بزعامة محمد عثمان الميرغنى متسائلا «هل كان حوارنا مع حزبي الأمة القومي والاتحادي مرتباً وواضحاً أم كان بمثابة حوار الطرشان؟ ؟ وهل كان المؤتمر الوطني بالفعل حزباً رسالياً يقدم النموذج للآخرين؟ وانتقل عمر بعد ذلك للتساؤل عن دور أجهزة الحزب القيادية: هل اجتماعات الحزب (الكثيرة) صورية شكلية أم شورية يُلتزم بها؟ وهل أداة الحزب (التي تصنع القرارات) تتمثل في المكتب القيادي أم مجلس الشورى أم المؤتمر العام؟ واسترسل قئلا لا بد أن يكون معروفاً من الذي يضع سياسات الحزب ومن الذي يقودها ويدافع عنها. وأضاف لا بد من تحديد الحزب نوع الديمقراطية التي يريد: هل هي الليبرالية الفردية الحديثة؟ أم الاقتصادية الاجتماعية؟ أم ديمقراطية التقانات الحديثة ، وسأل عمر عن المعنى المقصود من تعبير «الجمهورية الثانية» هل هو حكم الشعب بالشعب لأن رؤية المؤتمر الوطني في الأصل مرتبطة بقضايا الحياة؟ وقفز إلى نقطة تعتبر الاكثر حساسية حين قال: هل من الضروري تنحي السياسيين عن ساحة الحكم وتركها لتدار من قبل الاقتصاديين في ظل طغيان قضية العدالة الاجتماعية على الأطروحات السياسية؟
ولم يكتف «البروف» بتلك القنابل التى فجرها فعاد بعدها بيومين ليطالب نائب رئيس الحزب نافع على نافع بتنحيته من قطاع الفكر والثقافة تحت ذريعة فشله فى «استخلاص اى افكار « ، وما لاشك فيه ان ثورة القيادى الكبير لم تنشأ عن فراغ او لرغبة فى الظهور فالرجل معروف على نطاق واسع بالصدق والعفة والعمل بعيدا عن اضواء الاعلام .
وهو مايقوله الكاتب والمحلل السياسى الطيب زين العابدين بان ابراهيم احمد عمر « رجل شجاع صادق مع نفسه متمسك بقيمه التي نشأ عليها في حضن الحركة الإسلامية « ويضيف زين العابدين ان الصورة امام «البروف» بدات تتضح بعد أكثر من عشرين سنة من احتكار الحركة الإسلامية للسلطة تمثلت في انفصال الجنوب ونشوب حرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق واحتمال حرب متجددة في دارفور وشرق السودان، اقتصاد مهدد بالانهيار، وعزلة خارجية خانقة وصلت إلى ملاحقة الرئيس بمذكرة توقيف دولية وشهد عمر كما يقول الطيب زين العابدين أن الأحزاب الكبيرة التي كانوا يقولون عنها متكالبة على السلطة وتسعى إليها بكل الوسائل مستعينة بأعداء الوطن في الخارج تأبى المشاركة فيها رغم العرض الوزاري المغري. وتشكك عمر في أن قرارات الحزب ربما تطبخ خارج أجهزته القيادية، وأن مشروع الوفاق الوطني والمشاركة العريضة في السلطة الذي أجازته كل هيئات الحزب لم ينفذ بالصورة المثلى التي تجعله مقبولاً للآخرين لأن قلة قليلة متنفذة ترى ألا ضرورة لذلك ويمكن للأمور أن تسير كما كانت في السابق. واضاف يقول «أحسب أن عمر يريد البوح المسموع بأن حصيلة ما انتهينا إليه بعد هذه الفترة الطويلة من الحكم تحتاج إلى مراجعة جذرية شاملة تقوّم فيها التجربة الماضية بنقد ذاتي صادق وجرئ حتى يتلمس الحزب طريق الإصلاح للمستقبل، وليس صحيحاً أن يقال إن كل شئٍ على مايرام.»
لكن الحديث عن حزب متمكن ومسيطر يحاط دوما بحواجز عالية تحول دون الحصول على معلومات حول حقيقة ما يجرى والدواعى التى دفعت بابراهيم احمد عمر ومن بعده رئيس القطاع السياسى قطبى المهدى للدعوة الى التغيير ، ومقصدهم من المطالبات المستمرة بالاصلاح و ما اذا كانت تعنى تبديل السياسات ام الاشخاص ، فكانت رحلة البحث عن خلفيات التملل تلك شاقة ومضنية عزفت فيها قيادات معروفة عن الحديث بينما ارتأت اخرى الجود برؤاها دون كشف هويتها فيما كان اخرون يضربون وعودا حصدنا معها السراب ، غير ان الحقيقة تؤشر لحالة من الغليان يعيشها المؤتمر الوطنى اكدتها معلومات حصلت عليها «الاحداث» من مصادر موثوقة قالت ان مؤتمر القطاع السياسى الاخير كشف لحد بعيد حالة الضعف التى يعيشها الحزب حيث لم يتجاوز عدد الحضور المشاركين فى المؤتمر المائة عضو فى وقت كان القطاع والى وقت ليس بعيد يعتبر الاكثر نشاطا وحيويا وحضورا عضويا وبحسب المصدر فان قيادة نافع على نافع للقطاع فى وقت سابق خلقت منه كيانا قويا تحرص على حضور اجتماعاته والمشاركة فى انشطته كل الوجوه القوية البارزة ، لكن استبدال نافع برئيس البرلمان احمد ابراهيم الطاهر ومن بعده قطبى المهدى اضعف نشاطه لحد ملحوظ وتاثرت بالتالى السياسات العامة وتاهت العضوية كما يقول المصدر واختزلت نفسها فى قضايا هامشية فضلا عن انشغال القيادات بعد الانتخابات الاخيرة بالمناصب التنفيذية على حساب تطوير الحزب والدفع به الى الامام ، ويعتقد المصدر ان قضايا المال والاقتصاد كان لها تاثير ايضا على المؤتمر الوطنى ملمحا الى صراع خفى يدور بين ما اسماها مراكز قوى حول نواحى مالية قال انها مرتبطة بمشروعات كبيرة ولاتخضع للمراجعة لصرفها خارج الميزانية الرسمية ، ولا تعتبر قضايا المال وحدها مصدرا للتشاكس فالطريقة التى غادر بها مستشار الرئيس للشؤون الامنية الفريق صلاح عبدالله»قوش» منصبه فى الحزب والمستشارية القت بظلال قاتمة على مجريات الاحداث فى الحزب الحاكم يضاف الى ذلك مانشره موقع «ويكليكيس» من محادثات ومهاتفات بين مسؤولين فى الحزب الحاكم غض النظر عن مصداقيتها او كذبها كما يقول المصدر لكن دورها كان قويا فى خلخلة الحزب وتفكير البعض فى احتمالية صدقية تلك الوثائق التى نشرت «نميمة» بين رموز معروفة حول قيادات مرموقة فى الحزب والدولة ، ويمضى الى ان انفصال جنوب السودان ايضا كان ذو اثر خاصة بعد تبرؤ شريحة «المجاهدين»عن اتفاق نيفاشا التى يرون فيها تفريطا كبيرا سمح بذهاب الجنوب وخسارة الوطن جزءا كبيرا من اراضيه ويشير المسؤول الى ان نقاشات كثيرة تدور فى اجتماعات الحزب الداخلية منذ نحو عام حول الحاجة الى التغيير واجراء اصلاحات قوية وارتفعت تلك الاصوات بعد ثورتى تونس ومصر التى اطاحت بحكم الرئيسين زين العابدين بن على وحسنى مبارك ولحق بهم اخيرا العقيد الليبى معمر القذافى .
لكن رئيس القطاع السياسى فى الحزب قطبى المهدى اكد لـ»الاحداث» ان الحديث عن التغيير ليس بالضرورة ان يكون مؤشرا مواجهة الحزب ازمة معينة او مشكلة محددة لكنه مطلوب فى كل الاحوال ، ويقول «فى قمة النجاح وفى قمة القوة يجب ان تفكر فى المستقبل ، الذى يحتكم الى مقتضيات جديدة يجب ان يكون هناك استعداد للتعامل معها ، ويشير قطبى الى ان مايدور عن التجديد والتغيير فى الوطنى او فى مؤسسات الدولة وهياكلها تحتمه طبيعة المرحلة المقبلة ، اذا المؤتمر الوطنى لم يتمكن من قراءة المستقبل بشكل جيد ، سيفشل ، بالتاكيد ، ويستدرك قطبى بان ذلك لايعنى الانتقاص من دور الحزب فى المرحلة الماضية ، فالدولة بقيادة المؤتمر حققت انجازات كبيرة بينها التعليم او الفدرالية او المشاركة الديموقراطية وتوسع فيها الحزب بشكل كبير ويضيف قطبى قائلا «الان نفكر بان التوسع الافقى يجعلنا نركز على النوعية بدلا عن الكم ، هذا يقتضى افكار جديدة وخبرات ايضا جديدة لمعالجتها فى المرحلة المقبلة ولا ينتقص من دور الذين انجزوا ثورة التعليم مثلا او الفدرالية وغيرها لكن كل هذه القضايا تحتاج لتجويد فى المرحلة المقبلة
ويقول عضو فى المكتب القيادى للمؤتمر الوطنى مفضلا حجب هويته لـ»الاحداث» ان حزبه عازم على تقييم تجربته بشكل كامل فى شقيها السياسى والتنفيذى بعد 22 عاما من الحكم ، مشددا على ان دعوات الاصلاح ليست معزولة ولاتتبناها قيادات فى مواجهة البقية ويؤكد ان قيادة الوطنى ترى ان السنوات الماضية كفيلة باجراء عملية «جرد حساب»يتمكن على ضوءها من وضع استراتيجية للمرحلة المقبلة واكد ان لجانا مختصة تعكف على تلك الخطوات منذ وقت ليس بعيد لاجراء تعديلات جذرية على النظام الاساسى ولم ينف المسؤول مواجهة حزبه ارتباكا واضحا فى الشكل التنظيمى واختلاطه بالمناصب التنفيذية خاصة عندما يكون نائب رئيس الحزب منتخبا مثلا فان سلطاته تتمدد على حساب رئيس الحزب منوها الى ان ذلك الارتباك يبدو جليا فى الولايات واكد ان كل التجربة خاضعة للتقييم والتقويم حتى على مستوى الدساتير الولائية ويؤكد المسؤول ان جلوس القيادى فى الحزب لثمانى سنوات متصلة على الكرسى تحت ذريعة انتخابه المتكرر ايضا خضع لنقاش مكثف خاصة وان الممسكين بمقاليد الامور على اساس المنصب كما يقول المصدر باتوا يتصرفون وكان كل شئ «ملكهم»، وردا على منبع الدعوة للتغيير وما اذا تصب فى اتجاه تبديل الاشخاص ام السياسيات قال بانها تعنى بالجانبين لان التجربة كما يقول افرزت خللا واضحا فى الهياكل استلزمت اجراء تغيير ملموس كما ان وجوها بعينها ظلت فى اماكنها لا تتزحزح منذ مجئ الانقاذ فى العام 89 ، ويشير الى ان السياسات التى حكمت بها الجبهة الاسلامية فى العام نفسه لم يعد بالامكان تطبيقها اليوم وان كان المؤتمر الوطنى جزء من الحركة الاسلامية وينفى عضو قيادى الوطنى بشدة مايتردد عن تشدد قطاع الشباب فى احداث تغيير ومطالبتهم بازاحة كل طاقم الصف الاول واكد اتفاق الجميع على ان الاصلاح والتبديل ينبغى ان يكون تدريجيا لحاجة الجيل الجديد للنصح والخبرة التى اكتسبها «الكبار»
ويعتقد الطيب زين العابدين ان توقيت اطلاق تلك التصريحات الناقدة للذات فيها استشعار بثقل مسئولية انفصال الجنوب التي يتحملها الحزب الحاكم بالدرجة الأولى، وأن ثورات الربيع العربي لا يمكن تجاهلها واعتبار السودان في مأمن منها، فضلا عن ان مناسبة وضع دستور جديد للسودان تستدعي إعادة النظر في نظام الحكم، كما أن احتمال تقاعد الرئيس البشير اختيارياً بعد دورته الحالية تعني البحث عن مرشح جديد للحزب الحاكم مما يغير المعادلة القائمة. ويضيف بالقول «كل ذلك يدعو لتفكير جرئ وخلاق في هذه المرحلة حول أوضاع الحكم في السودان وما انتهت إليه من حالة لا تسر»ويؤكد المحلل السياسى ان قواعد الحزب (البريئة والشبابية) ستؤيد ما يقوله عمر وغيره من دعاة الاصلاح لأنها مكتوية بما تسمعه في الشارع السياسي من نقد مر ولاذع لأداء الحزب خاصة في جبهة الفساد وغلاء الأسعار ومخصصات الدستوريين الكبار التي تبلع عشرات الملايين من الجنيهات القديمة شهرياً، واضطراب السياسات وتعدد المرجعيات وتناقض التصريحات. وقد يقول بعض الشباب إنه نسي أن يدعو لتغيير القيادات المعتقة التي بقيت في السلطة دهراً طويلاً حتى تكلست عظامها
ويتوقع الطيب زين العابدين ان يمضى ما اثاره ابراهيم احمد عمر وكل دعاة التغيير لن يؤثر على الحزب أو السلطة لأن القيادة المتنفذة باقية كما بقي «عسيب»، ليس لها الرغبة أو الإرادة أو القدرة على التغيير. ويضيف متسائلا ولماذا التغيير؟ فالانقاذ عاشت بهذا المنهج السلطوي المنفرد في الحكم أكثر من عشرين سنة وتستطيع لو وقفت متكاتفة ومطيعة لقيادتها السرمدية أن تستمر به لعشرات قادمات.. واذا انهك ابراهيم احمد عمر من الكفاح السياسي فعليه التنحى جانباً مثل ما حدث لآخرين قبله ويظل أخاً كريماً له كل الاحترام اللائق به، ويا (دار ما دخلك شر)..

الاحداث

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..