درس من أبي

[email][email protected][/email]

تمهيد :
كان أبي ، رحمه الله ، منذ شبابه عكس الغالبية العظمى من أهل منطقته في زمانه : لا يقرب الخمر والتابا والسجاير والقمار؛ ولا يجالس من يتعاطونها . لذلك كان شبه معزول من محيطه ، إلا من قلة تحسب في اليد الواحدة . وكان أغلب أهل القرية يتفادون الجلوس معه ويتحاشون مخالطته. بل كان بعضهم يسخرون منه ويزدرون تمسكه. فقد شاهدت الهمز عليه بعيني ، وسمعت القطيعة فيه بأذني ، عندما بنى أول زاوية للصلاة في القرية أمام بيته في الخمسينات ? واصبح يؤذن للأوقات الخمسة ويؤم فيها أبناءه وأصهاره وجارين أصلا كانا يجتمعان معنا ، بأولادهم وأكلهم ، في وجبتي الغداء والعشاء كل يوم في الخلوة (الديوان).

أما شباب القرية ، فلا يجالسه ويضحكان إلا واحد فقط أعجبه نهج أبي ولكن بعد تجربة شخصية مر بها في “شكلة” كبيرة مشؤومة في قرية مجاورة ضد بعض من أهلها سببها الشراب ، قبل العشرين من عمره ? وبعد خروجه من المستشفى وقضاء شهور السجن ، تاب وركل ذلك العالم واصبح مثل أبي : ما بين زراعته وتسويقها في البندر وبيته .

حادثة سطحية عميقة :
حدث سطحي في ظاهره شهدته في صحبة والدي في “الخرطوم لحم الرأس”؛ لكنه عميق في معناه ، وكان لي فيه درس كبير! ففي عام 1965 أتى والدي من قريته البعيدة على النيل لزيارة ثلاثة من أبنائه في العاصمة? ومنهم كاتب هذه السطور- للإطمئنان علينا ثم قفل راجعا لساقيته بعد ثلاثة أيام . وحدث في زيارته تلك ما ظل عالقا في ذاكرتي يعاودني كثيرا .

كنت طالبا بالثانوي واسكن في داخلية في حي المقرن عندما زارني أبي ظهرا في الداخلية، فذهبت معه مشيا إلى موقف بصات الجريف غرب (حيث يسكن أحد أبنائه) وكان الموقف بالسوق العربي بالخرطوم.
كان أبي من بداية ذلك المشوار يلقي السلام على كل من اقترب منا من المارة أو تقاطع طريقه مع سيرنا بقوله : “السلام عليكم ” محييا بإلتفاتة ودودة كأنه يعرفهم . فقد كانت تلك هي عادته التي تربى عليها ومارسها في قريته وما جاورها طيلة حياته هناك!
ولكن كل من ألغى عليهم التحية كانوا لا يردون عليه إلا بعلامات الإستغراب والتوجس التي ترتسم على وجوههم عند سماعهم تحيته ، دون أن يقولوا كلمة ، كأنما كانوا يستنكرون عليه “تشويشه عليهم وتضييعه لوقتهم ” ? فتحس قولهم في نفوسهم : ( الزول دا ما عندو شغله …ولا فاكه منو … مالو فالق دماغنا كأنو بعرفك !)? بل تقرأ في وجوههم أسوأ من ذلك !

وفي عمري اليافع ذاك ، أحسست من أولئك المارة إزدراءا شديدا وتحقيرا لأبي … لم استطع تحمله طويلا ..

فقلت لأبي بأن الناس هنا في الخرطوم لا يسلمون على من يقابلهم في الطريق إن كانوا لا يعرفونهم . فلم يرد علي أبي ‼ وواصل السلام على كل من قابلنا… وواصل الناس أزدراءهم لتحيته!

وعندما كررت محاولاتي لإثنائه عن السلام على الناس في ذلك المشوار ، رفض قولي وحسمني بأنه يفعل ذلك لنفسه ولا يهمه إن لم يستجيبوا لتحيته . فسكت . كانت شخصية أبي كما الفولاذ .

واستمر ذلك الحال طول الطريق … ولم يؤثر سلوك المارة في أبي إطلاقا … ولكنه كان يملأني أنا ضيقا وغيظا حتى فكرت أن أمشي مسرعا تاركا والدي خلفي حتى أتفادى ذلك الأحساس…لكنني عدلت عن الفكرة ، فكيف لإبن أن يترك والده خلفة ولو كان والده سكرانا يسيء إلى الناس !

وواصلت السير بجواره وظل الحنق على إزدراء الناس له يكاد يخفس ضلوعي … أما هو فظل منشرح الوجه يلقي السلام !

وصلنا محطة بصات الجريف وصعدت إلى البص الذي كان عليه الدور متفحصا لأرى إن كان به مقاعد شاغرة … وكانت الكراسي الأمامية مليئة ، لكن كثيرا من المقاعد الخلفية شاغر . فقلت لأبي أن يصعد … وتقدمته نحو الشاغرة .

صعد أبي وقال : ” السلام عليكم ”

عندها رد تقريبا كل من في البص : ” عليكم السلام ورحمة الله وبركاته !” .

وكانت أصواتهم مفعمة بالترحاب للذي بدأهم بالسلام بتلك الطريقة الشاملة القوية.
ووقف أثنان من الشباب الجالسين في المقاعد الأمامية وكل منهم ينادي بطريقته على أبي: “تعال جاي إتفضل أقعد هنا يا حاج !” … وهم جميعا لا يعرفونه ولا يعرفهم !
وأثرني ردهم ? فكأنهم برأوا أبي من التهم التي ألصقها عليه إولئك المارة ظلما ? وكأنهم أعادوا لي كرامة أبي وعزه في نفسي .

ولكن لم يدر بذهن أبي أي شيئ مما دار في ذهني . فقد كان يفعل ما كان يفعله عادة طيلة عمره !

بذلك علمني أبي درسا لم ولن أنساه أبدا: ” اصمد ، سوي ما تراه إيجابي ، وبس ! “.[طبعا اليوم “السلام عليكم” هذه ليست إيجابية ولا عملية مع كل الناس كما حسبها أبي ? إيجابية فقط لمن يحتاجها ، ويا حبذا لو معها عطية ولو فريني !]

ختام :
فقد صمد أبي مع طريقة حياته ، العازلة له من أهل قريته ، طيلة عمره كله تقريبا .. وصمد مع زاويته وأذانه سنينا حتى وفاته في يونيو 1971. ولكن في آخر سنينه انضم إليه نفر من أهل الفريق ومن نفس الذين كانوا يوما يتهامزون عليه? وأصبحوا هم من يقومون بواجب الزاوية حتى رحلوا هم أيضا للدار الآخرة? وفيما بعد ، طور أهل القرية الزاوية إلى جامع أمام القرية … و يصلي فيه اليوم أكثريتهم تقريبا ؛ ولا يوجد من يزدري الآذان أو يغمز عليه .. لكن المؤسف أن الغمز يحدث الآن على من تشغله المعايش فلا يلبيه أو لمن له رأي في جوامع الإنقاذ أو غير ذلك ? وهو في إعتقادي مؤسف بنفس القدر الذي كان يحدث لأبي ? لكن القوم لا يتفكرون ? بل لا يتذكرون !

متى تتفتح عقولنا حتى نرضى بالآخرين كما هم ُ ? وكل شاة معلقة من عصبتها !
============================
علي محمود ? الولايات المتحدة

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..