دكتاتورية الإسلاميين بعد الثورات!!

ياسر الزعاترة

بوسع الإسلاميين أن يسردوا الكثير من الوقائع على دكتاتورية النماذج العلمانية والقومية واليسارية في المنطقة العربية طوال العقود الماضية، بل أبعد من ذلك بكثير، وهي نماذج بائسة إلى حد كبير؛ جمعت الدكتاتورية مع الفساد؛ وهما يجتمعان في أغلب الأحيان. وبوسع الأطراف الأخرى أن تشير إلى نماذج إسلامية مماثلة تنطوي على قدر من البؤس يتفاوت بين تجربة وأخرى، من إيران إلى السودان، فضلا عن تجربة حركة طالبان، مع أن من خلفوها في السلطة لم يختلفوا كثيرا، الأمر الذي له صلة بالمجتمع الأفغاني وبنيته الدينية والقبلية والاجتماعية.

نذكّر بهذا الأمر، لأن هناك من لم يتوقف كما كان يفعل منذ ثلاثة عقود عن ترديد ذات المقولات عن الإسلاميين، وميلهم إلى ديمقراطية (مرة واحدة)، ومن ثم الانقلاب عليها، ما يذكرنا بانحياز كثير منهم لانقلاب العسكر في الجزائر على الخيار الديمقراطي، مستشهدين بمقولة خطيب جمعة هامشي حول شطب الديمقراطية بعد الفوز، ومتجاهلين في الآن نفسه تأكيدات قادة جبهة الانقاذ على قبولهم بالتعددية.

اليوم يبدو المشهد مختلفا إلى حد كبير، فهذه الثورات التي تندرج تحت ما يسمى الربيع العربي لها ظروفها الموضوعية المختلفة كليا عما سبقها من تجارب، أكانت ثورية كما هو الحال في إيران، أم انقلابية كما هو الحال في السودان، أم سيطرة تدريجية عبر السلاح (ثورة مسلحة تقريبا) كما كان الحال في أفغانستان. ولا ننسى هنا تجربة جديدة لا يلتفت إليها أحد في سياق تقييم موقف الإسلاميين من التعددية والتداول على السلطة تتمثل في الصومال، في حين لن نعدم من يشير في المقابل إلى النموذج الإسلامي الآخر في ذات البلد ممثلا في حركة الشباب المجاهدين، وقد يضيفون إليها تجربة مالي أيضا!!

الربيع العربي حكاية مختلفة، إذ يتمثل في ثورات سياسية واجتماعية عنوانها الحرية والتعددية؛ كانت الطبقة الوسطى عمادها الأساسي أكثر من الفقيرة، وإن انحازت الأخيرة إليها تبعا لكفرها بالأوضاع القائمة. وجماهير هذه الثورات، وإن انحازت تاليا في الانتخابات للقوى الإسلامية، فذلك لا يعني قبولا بما تفعله تلك القوى بصرف النظر عن تفاصيله ومضمونه.

هي ثورات عنوانها الحرية والتعددية في ظل ثورة إعلامية ووعي متقدم لن يسمح لأي طرف مهما كان، ومهما قدم من شعارات أن يستحوذ على السلطة بغير رضا الشعب، كما أن فوزه لا يمنحه تزكية لأكثر من أربع سنوات سيعرض نفسه بعدها على الشعب من جديد، وقد يختارونه، وقد يختارون سواه، وقد يترددون بينه وبين خيارات أخرى.

من العبث والحالة هذه الحديث عن دكتاتورية مقبلة بثوب إسلامي، لأن الجماهير لن تقبل بذلك، بمن فيها قطاع عريض من المتدينين الذين لم يعودوا يرون الدين والتدين حكرا على قوى ما يسمى الإسلام السياسي، كما أنهم لا يرونه بديلا عن الحرية والتعددية وخدمة الناس بأفضل السبل الممكنة.

ربما كان من الصعب اعتبار ما جرى في مصر خلال الشهور الماضية جزءا من هذه النظرية التي نتحدث عنها ممثلة في استحالة أن يتمكن الإسلاميون حتى لو أرادوا من فرض دكتاتورية على الناس، والسبب أن الحملة ضدهم قد تداخل فيها ثوار مع فلول مع عناصر خارجية، لكن وجود قطاع ما من الثوار في المعركة يؤكد بدوره أن أحدا لن يتمكن من تجاهل رأي الناس، بدليل أن مرسي قد اضطر إلى التراجع عن كثير من قراراته تحت وطأة الاحتجاج الشعبي، لاسيما أن بعض القرارات كانت تنطوي على قدر من الخطأ.

إن ميل أية قوة إسلامية إلى خيار استعادة الدكتاتورية سيصطدم من دون شك بإرادة الجماهير التي ترفض استعادة الوضع القديم تحت أي شعار كان، وهي تريد أن يكون القرار لها وحدها في تحديد من يحكمها ويدير شؤونها. ونضيف هنا أن الإسلاميين ليسوا فصيلا واحدا، بل فصائل متعددة تتنافس فيما بينها على ثقة الجماهير (في مصر 16 حزبا إسلاميا مرخصا وتحت الترخيص).

المؤكد أن هذا الوضع الجديد لا يصب فقط في خدمة الشعوب التي ستبقى صاحبة الولاية على حكامها، بل سيصب أيضا في صالح الإسلاميين الذين سيكون عليهم الاستماع إلى نبض الجماهير بشكل دائم، ويدركوا تبعا لذلك أن الشعار الإسلامي ليس قابلا للتسويق إذا لم يلتحم بقضايا العدل والحرية ونبذ الفساد، وها هو النموذج السوداني، فضلا عن الإيراني شاهد حي على ذلك، ولو جرت انتخابات حرة ونزيهة في البلدين، فإن خسارة النخبة الحاكمة فيهما ستكون مؤكدة.

على الجميع والحالة هذه أن يقبلوا بحكم الصناديق، وأن يدركوا حقيقة أن التنافس الحقيقي ينبغي أن يكون على خدمة الناس وكسب ثقتهم، وواهم من يعتقد أنه سيكسب ثقة الناس من خلال الكذب والتزوير، ولو آمن الشارع المصري على سبيل المثال أن الدستور الذي عُرض عليه هو محطة للدكتاتورية لما صوت له بنعم، مع أن الآخرين لم يصوتوا بلا إلا في ظل حشد سياسي لا صلة للجزء الأكبر منه بمضمون الدستور نفسه.

نعود إلى القول إننا إزاء مخاض تاريخي في هذه المنطقة، وهو مخاض سيفضي إلى ممارسة سياسية تعلي من قيمة الحرية والتعددية، ولا تسمح بنشوء دكتاتوريات مهما كان الثوب الذي تلبسه، ولا حاجة تبعا لذلك في استمرار هذه المعزوفة المملة التي تزدري شعوبا صنعت ثورات رائعة لن تسمح لأحد بأن يسرقها ويعيد عقارب الساعة إلى الوراء من جديد. ( الدستور )

المدينة الاخبارية

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..