المثقال المكسيكي يتحول من مشروب للفقراء إلى صرعة بين شباب أمريكا اللاتينية

ترتفع سحابة بخار بيضاء عندما يكوّن العمال برفوشهم (مجرفة) القوية، كومة من لحاء نبتة صبار الأجافي الصحراوية (planta de تغطي الفرن الطيني، ينتشر في المكان عبق زيوت عطرية وعصير الفاكهة والخبز المحمص.

لخمسة أيام تستمر عملية طهو قلب صبار الأجافي في جورة (حفرة) مشتعلة بنار الحطب والأحجار، مغطى سطحها بألياف النباتات والرمل.
“الآن فقط نعرف إن كان الأمر يستحق كل هذا العناء” هكذا تقول جراسييلا آنخيليس كارينيو. “يكمن السر في تحديد كمية الحطب المناسبة. إذا زادت الكمية احترق الصبار، وإذا قلت لا يمكن لها أن تنضج أبدا”.

تمتلك أسرة آنخيليس معمل تقطير مشروب “المثقال” في حي لوس أنجلوس، ببلدة سانتا كتارينا، في واكساكا جنوب المكسيك، حيث تنتج يدويا هذا المشروب القوي تحت مسمى “ريال مينيرو” وتعني عامل المناجم الملكية.

ظلت أسرة آنخيليس لوقت طويل تنتج “المثقال” من أجل استعمالهم لشخصي أو من أجل الجيران، حيث كان ينظر في هذه الأنحاء لهذا المشروب على أنه خاص بالفقراء، ولكنه الآن أصبح موضة. في مكسيكوسيتي، تم إنشاء حانات لا تقدم أي مشروبات أخرى سوى “المثقال”، وفي الخارج يشهد الطلب على مشروب الفقراء الصباري القوي إقبالا متزايدا أكثر فأكثر.

في الوقت نفسه يجب الأخذ في الاعتبار أن مشروب “المثقال” الجيد ليس رخيص الثمن، فعلى سبيل المثال حانة ” Mezcalería Berlín” في ألمانيا التي تستورد هذا المشروب من المكسيك يتراوح سعر الزجاجة من 30 إلى 100 يورو أو ما يعادل (40 إلى 130 دولار). وهناك أنواع فاخرة ومميزة يصل سعر الزجاجة منها إلى 170 يورو (225 دولار).

بخلاف التكيلا، المشروب المكسيكي الأكثر شيوعا، والذي يتم انتاجه صناعيا وعلى نطاق واسع من نبتة الأجافي الزرقاء (نوع من الصبار ذو أوراق عريضة وله زهرة نادرة تنمو مرة واحدة في العمر)، فمعظم انتاج “المثقال” لا يزال يتم يدويا حتى الآن.
تقول جراسييلا إنه “في شمال البلاد توجد مزارع كبيرة. أما هنا فغالبية السكان لديهم قطع أرض زراعية صغيرة، وبالتالي فإن محصولهم من الآجافي محدود، ولهذا يعمل الكثير من أهالي واكساكا في مجال التقطير، كنشاط جانبي، بالإضافة إلى عملهم الأساسي في زراعة الآجافي والذرة والفاصوليا الحمراء”.

دخلت أسرة آنخيليس بقوة في مجال صناعة “المثقال” منذ عامين. أصبح لديهم بعض الأراضي الزراعية، ليست بالكبيرة، لذا يلجأون إلى شراء الجانب الأكبر من ثمار الآجافي من مزارعي المنطقة. تؤكد جراثييلا وهي تتفقد بعض المزروعات في حقل عائلتها أن “عملية انتقاء النبتات في حد ذاتها تتطلب خبرة كبيرة، فهناك خمسون نوعا مختلفا من الآجافي، البري منها مذاقه شديد التعقيد، ولكن لا يوجد منه الكثير، ولهذا يستخدم النوع الشوكي التقليدي الذي يمثل 90% من إجمالي المحصول”.

بعد استخراج نحو أربعين كيلو جرام من اللحاء من فرن الطين، يتركها العمال لتجف، لمدة خمسة أيام، لتبدأ بعد ذلك عملية التقطيع. هناك مزارع يوجد بها مطاحن حجرية تدار بواسطة الخيول، ولكن أسرة آنخيليس تستخدم آلة تقوم بعملية التقطيع إلى قطع صغيرة.
تُترك قطع الآجافي لتتخمر في براميل خشبية ضخمة، وتستمر عملية إضافة الماء إليها لمدة ثلاثة أيام، فيما يقوم الخبراء بعملية اختبار الطعم بصفة مستمرة، ليقرروا التوقيت المناسب لبدء عملية التقطير.

ينثرون بعض القطرات على راحة اليد للتأكد تماما، وإذا كانت لا تزال بها بلورات فهذا يعني أن المادة ليست جاهزة بعد. وحول هذا الأمر تؤكد جراسييلا “يحتاج صانع “المثقال” الجيد لاستخدام جميع حواسه، التذوق والشم واللمس”.

في عملية التقطير، يقوم والد جراسييلا، لورنزو آنحيليس مندوزا، بوضع الآجافي المتخمر تماما في أوعية من الفخار، يتم تسخينها بلهب يوضع من أسفل، يجري تركيز الكحول في وعاء معدني بمساعدة الماء البارد، ويتم تنقيطه على ملعقة خشبية التي تقلب السائل المقطر حتى الوعاء النهائي.
تعلق جراسييلا “يقولون إن هذه التقنية عرفتها المكسيك عن طريق المهاجرين الفليبينيين، ولكن هناك أدلة على استخدام السكان الأصليين من الهنود الحمر لأساليب مشابهة قبل العصر الكولونيالي الإسباني”.

بعد تكرار عملية التقطير من اثنين لثلاث مرات، يقوم لورنزو بإجراء اختبار. يسقط السائل في صحن صغير من خلال قمع وكلما كانت الفقاقيع أكبر كلما كانت نسبة الكحول أعلى، مشروب المثقال الجيد تترواح النسبة فيه من 48% إلى 53%.

وبالرغم من أن الأساس في عملية تصنيع “المثقال” دائما واحد، توجد هناك بعض الاختلافات بين معمل تقطير وآخر. تقول جراسييلا “يتميز كل معمل بأسلوبه الخاص في صناعة الأفران، فضلا عن تقنياتها الخاصة في التخمير، ومن هنا نعتبر أن “المثقال” هو المشروب المكسيكي الوطني الحقيقي، لأنه يعكس كافة جوانب الحياة في بلادي”.

استخدم السكان الأصلييون ? المنحدرون من سلالة المايا أصحاب حضارة الأزتيك- صبار الأجافي بعدة طرق مختلفة، وصنعوا من نباته المخمر “جعة البلكي” التي كان يتم تناولها في المناسبات وأثناء المراسم الطقسية.
جدير بالذكر أن كلمة “مثقال” مشتقة من “مثقالي” والتي تعني في لغة “النهاوتل” التي كان يتحدثها شعب المايا “الأجافي الناضج”.
تخصصت عائلة آنخيليس في نوع متميز يعرف بـ”مثقال صدور الدجاج” مستخرج لحاؤه من قلب الأجافي، يضاف إلى خليطه أثناء عملية التقطير عصير التفاح والأناناس واللوز ومشروب الساكي المستخرج من الأرز والموز، كما يعلقون في أنابيب المختبر المستخدمة في التقطير قطع صدور دجاج، وتكون المحصلة في النهاية مشروب قوي تمتزج به نكهات الفواكه والأعشاب العطرية والطعم الشهي.

“بالنسبة لمنطقة جنوب المكسيك، المثقال ليس مجرد مشروب، إنها صناعة متكاملة توفر فرص عمل في منطقة ذات مقومات محدودة” هذا ما يؤكده نيلز دالمان، الذي يقوم بالتواصل مع منتجي المشروب من أجل تصديره إلى ألمانيا.

في النهاية تعلق جراسييلا بفخر “لأول مرة منذ تفاقم ظاهرة الهجرة، عاد شخصان من الولايات المتحدة، إلى مسقط رأسهم في بلدة جيريرو، ليعملوا في هذا المجال. أن يعود أحد بعد الرحيل، كان هذا في الماضي أمر لا يمكن تصوره على الإطلاق”.
هدهد

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..