الدبلوماسية الرسالية

الدبلوماسية الرسالية

جرت العادة أن أقضي إجازة عيد الأضحى المبارك خارج الخرطوم ، فذلك أدعى لتهدئة ‏الأعصاب والاستمتاع بالإجازة وزيارة الأهل والأصدقاء. وفوق هذا وذاك فإن مغادرة العاصمة ‏وزخمها الاجتماعي وازدحامها وفوضى شوارعها المتكدسة بالسيارات وغيرها من مصادر ‏التلوث الصوتي مدعاة للراحة الجسدية والنفسية بما يساعد على تجديد النشاط. وكلما غادرت ‏العاصمة في إجازة ? قصيرة كانت أو طويلة – اصطحبت معي بعض الكتب المنتقاة مما ‏يتيح لي قراءة متأنية وممتعة في ذات الوقت. كان رفيقي في إجازة عيد الأضحي المبارك هذا ‏العام ذلك الكتاب الرائع الذي أتحف به الأخ السفير د. عطا الله حمد بشير المكتبة السودانية ‏والذي جاء بعنوان “ذكريات وتجارب دبلوماسية” ، وهو الكتاب الذي لا أظنني أغالي إن قلت ‏أنه من أميز ما صدر من كتب عن الدبلوماسية السودانية. ‏
تناول الكتاب حسبما يشير عنوانه تجارب السفير د. عطا الله الدبلوماسية المتنوعة ، ‏كدبلوماسي عمل تحت أنظمة سياسية متباينة في بلادنا تأرجحت بين العسكري والحزبي ‏الديمقراطي والعقائدي ، بالإضافة لتجربته كموظف دولي يعكس الوجه المشرق للدبلوماسية ‏السودانية في وقت تعرضت فيه للعديد من العقبات والنكبات. ومع أن الكتاب يتناول في ‏أسلوب أدبي رائع ومشوق حياة الكاتب وتجاربه الخاصة والعملية من الطفولة إلى الكهولة ، ‏إلا أننا نتناول في مقالنا هذا نقطة مهمة وردت في الفصل الخامس الذي يقع ضمن الباب ‏الثاني من الكتاب تحت العنوان الذي أوردناه في صدر المقال ، وقد أفرد الكاتب ثلاثين ‏صفحة من صفحات الكتاب لتناول هذه التجربة المهمة بالتحليل والتقييم ، وأشار بصفة ‏خاصة للأضرار التي أصابت البلاد من جراء هذه السياسة والتي جاءت في شكل توتر ‏لعلاقات السودان مع المجتمع الدولي ككل بما في ذلك المجموعتين الأفريقية والعربية. لا يقلل ‏ذلك بالطبع من أهمية ما ورد في الفصول الأخرى التي نثق أنها ستخضع للتناول ممن هم ‏أقدر منا لدراستها والاستفادة مما ورد فيها بما يساهم في وضع أسس راسخة يمكن أن تقوم ‏عليها دبلوماسية سودانية فاعلة تخدم المواطن والوطن. ‏
من الواضح ، كما يروي السفير عطا الله ، أن وزارة الخارجية كانت تحتل مركزاً متقدماً ‏في أولويات نظام الإنقاذ إذ يقول أنها كانت الأولى من بين الوزارات التي امتدت لها يد ‏التطهير والتمكين ، فهي قد تعرضت لثلاث حملات تطهيرية متتالية خلال السنوات الأولى ‏من عمر الإنقاذ. ومن الواضح أن حكومة الإنقاذ كانت تخطط لأن تشهد السياسة الخارجية ‏للبلاد تحت نظام الحكم الجديد منعطفات حادة ، وترى أنه لا بد من الاعتماد بصورة أساسية ‏على الكوادر الإنقاذية الموثوق بولائها لتنفيذ السياسة الجديدة. كان من الطبيعي والمحزن في ‏الوقت نفسه أن تطال سياسة التطهير والتمكين وزارة الخارجية بهذا الحماس الزائد حيث تم بعد ‏أربعة أشهر فقط من وقوع الإنقلاب في يونيو 1989 إعفاء 50% من السفراء و35% من ‏الدبلوماسيين كما ورد في الكتاب. جاء وصف السفير عطا الله لهذه الخطوة معبراً حيث أشار ‏لها بالمذبحة التي أفقدت الوزارة عدداً هائلاً من كوادرها المؤهلة ، وهو أمر ولا شك كان له ‏الأثر البالغ في تراجع أداء الوزارة خاصة والدبلوماسية السودانية بصفة عامة فيما أقبل من ‏سنوات واجهت فيها البلاد تحديات هائلة مما أدخلها في أزمات حادة لا زالت تعاني من آثارها ‏بصورة أو أخرى إلى يومنا هذا. ‏
من الطبيعي أن تترك القرارات التي صدرت بإحالة هذا العدد الهائل من السفراء ‏والدبلوماسيين أثراً عميقاً في نفوس من تبقى من زملائهم بالسلك الدبلوماسي. ولا أرى أنني ‏أجانب الصواب إن قلت أن من لم يطالهم سيف التمكين ظلوا في انتظار اليوم الذي يتلقون ‏فيه قرار إحالتهم للمعاش حسب مقتضيات ما كانت تسميه حكومة الإنقاذ في ذلك الوقت ‏بالصالح العام. ولا أظنني أغالي إن قلت أنني لم أفهم حتى الآن السبب الذي قاد لإحالة هذا ‏العدد الهائل من السفراء والدبلوماسيين مع استبقاء البعض الآخر. بالنظر للحيرة في تفسير ‏هذه القرارات وحجمها فقد كنت وغيري ممن لم يطالهم سيف التطهير ننتظر في أي وقت ‏ظهور أسماءنا على واحدة من هذه اللائحات ، وكنا نؤمن بأن الإبقاء علينا في مواقعنا كان ‏لفترة محددة لحين بسط سيطرة النظام وكوادره على كل أركان الوزارة. ولا أظنني في حاجة ‏لتوضيح أثر ذلك الوضع على الأداء العام في الوزارة وبعثاتها بالخارج فهو أبعد ما يكون عن ‏توفير الجو الصحي والمناسب للعمل والانتاج. ولعل مما زاد من حدة هذه الأوضاع القَلِقة أن ‏غالبية من تبقى من الدبلوماسيين القدامى بالوزارة كانوا يحسون ولفترة طويلة بعد الإنقلاب ‏بأنهم ليسوا موضع ثقة الحكومة التي يمثلونها. كما ساد نوع من انعدام الثقة كذلك بين القدامى ‏والقادمين من الكوادر العاملة بالسفارات بالخارج أو بإدارات الوزارة المختلفة بالداخل إلا في ‏حالات نادرة. قاد هذا الوضع الغريب والمشحون بالتوتر لحالة من التوجس والقلق ، مما جعل ‏من الصعب على الجانبين ولفترة طويلة العمل بصورة سلسة وبناءة. ‏
لا شك أن لحكومة الإنقاذ كغيرها من الحكومات أيديولوجية تحكم مجمل سياساتها الداخلية ‏والخارجية. غير أن ظروف رسم وتنفيذ السياسة الخارجية تختلف اختلافاً بيناً بالطبع عن ‏الظروف المتعلقة بالسياسات المحلية ، فالسياسة الخارجية لأي عضو من أعضاء المجتمع ‏الدولي تعكس حجم وقدرات ذلك العضو على الساحة الدولية. ولا يكفي بالطبع إيمان أي دولة ‏بصحة موقفها من ناحية فكرية أو سياسية لتحقيق أهدافها على الساحة الدولية ، إذ أن ‏ميزان القوى الفعلية هو الذي يحدد الحجم والموقع الذي يمكن أن تحتله الدولة المعنية على ‏الساحة الدولية. ومما لا شك فيه أن محاولة أي دولة لعب دور أكبر مما تتيحه إمكانياتها ‏ومقدراتها الفعلية يضعها في موقف لا تحسد عليه ، ومن البدهي في السياسة الدولية ضرورة ‏‏”إعداد القوة” بمختلف أشكالها قبل محاولة مواجهة الآخرين أو محاولة التأثير عليهم بأي ‏صورة من الصور. لم يكن مثل هذا الحديث يجد من يصغي إليه في وقت كان الشعار ‏المرفوع في إعلام الدولة هو “أمريكا دنا عذابها”. من الطبيعي أن يأتي على رأس مقتضيات ‏الأخذ بأسباب القوة المطلوبة لرسم وتنفيذ سياسة خارجية فاعلة إعداد الكوادر المدربة تدريباً ‏عالياً يمكنها من الدفاع عن مصالح الوطن. ولا أعتقد أننا نغالي إن قلنا أن سياسة التمكين ‏التي اتبعتها حكومة الإنقاذ في بداياتها أدت في الحقيقة لإصابة الدبلوماسية السودانية بعوار ‏لا زالت تعاني منه إلى يوم الناس هذا بالرغم من بعض الجهود التي بذلت ولا زالت تبذل ‏لتجاوزه. ‏
من جهة أخرى فإن سياسة التمكين كانت واحدة من الخطوات التي أصابت السياسة ‏الخارجية للبلاد في مقتل ، فبسبب حالة القلق التي أشرنا لها أعلاه والتي سادت في صفوف ‏قدامى الدبلوماسيين فإن تجسير الهوة بين القادمين والقدامى استغرق وقتاً أطول مما يجب ، ‏وقاد بصورة واضحة لعرقلة عملية الانتقال السلس للخبرات فأفقد الوزارة سنوات طويلة كان ‏بالإمكان استثمارها في ترشيد وتقوية وسائل رسم وتنفيذ سياستها الخارجية بالصورة التي تخدم ‏المصالح العليا للبلاد ومواطنيها. ولا شك أن بلادنا كواحدة من دول العام الثالث المستضعفة ‏كانت في غنى عن اتباع هذه السياسة التي تضافرت مع عدد من مواقف الحكومة المتشددة ‏على الساحة الدولية مما كلفها الكثير في تعاملها مع المجتمع الدولي ، فتوالت عليها المصائب ‏من كل حدب وصوب. ‏
انطلاقاً من المثل السوداني الحكيم الذي يقول: “العترة بتصلح المشي” فإننا نأمل أن تتمكن ‏حكومة الإنقاذ والمجتمع السياسي السوداني عامة من إخضاع تجربة سياسة التمكين وعمليات ‏التطهير التي طالت الخدمة المدنية في فترات زمنية سابقة ، للدراسة المستوفية حتى يمكن ‏الاستفادة من هذه التجارب في مستقبل الأيام بإذن الله ، خاصة وأن المشاكل التي واجهتها ‏البلاد على الساحة الدولية أكدت أن مثل هذه السياسات وما تبعها من مواقف خاطئة كانت ‏سبباً وراء العديد من الأزمات التي عاشتها ولا زالت تعيشها البلاد. ولعل الأنسب هو تبني ‏السياسة المتبعة في العديد من الدول بما فيها السودان في زمان سابق والسعي مستقبلاً لإبعاد ‏الخدمة العامة بصورة تامة عن التأثيرات السياسية وتأكيد حيادها الكامل فيما يتصل ‏بالسياسات التي تتبناها مختلف الأحزاب والمجموعات السياسية في البلاد. من ناحية أخرى ‏فقد أثبتت القرارات الثورية على مدى تاريخ بلادنا منذ استقلالها في عام 1956 أن الأضرار ‏الناتجةة عنها أكبر بكثير من الفوائد ، لذلك فقد آن الأوان لجلوس مختلف القوى السياسية ‏للإتفاق ما أمكن حول مبادئ وأهداف ووسائل محددة تكون أساساً لرسم وتنفيذ السياسة ‏الخارجية للبلاد في الحاضر والمستقبل بالصورة التي تقي تعاملنا مع المجتمع الدولي تقلبات ‏السياسة الداخلية. ولا أظننا نغالي إن قلنا إن تجربتنا خلال العققود الثلاثة الماضية أكدت دون ‏أدنى شك أن المواقف الخاطئة على الساحة الدولية تؤدي إلى هزيمة كل الجهود من أجل بناء ‏الدولة واقتصادها على أسس راسخة وسليمة.

محجوب الباشا
[email][email protected][/email] ‏

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..