أخبار السودان

(17) يناير .. صور من المشهد قبل انطلاقة المواكب

كتب: ماهر أبوجوخ (صحفي فيس بوك)

قبل ساعات من إنطلاقة مسيرات الرحيل التي أعلن عنها تجمع المهنيين والمجموعات الموقعة على ميثاق الحرية والتغيير اليوم الخميس 17 يناير 2019م في الواحدة من نهار اليوم في أكثر من مدينة فإن تطورات مهمة شهدها تستوجب التوقف عند بعض تفاصيلها.

وينظر المراقبون ليوم الخميس 17 يناير بإعتباره اليوم الأكثر مفصلية في تاريخ الحراك الشعبي الذي إنطلق يوم 13 ديسمبر بالدمازين بإعتباره سيشهد لأول مرة مواكب متزامنة بـ(12) مدينة سبق لبعضها تنظيم مواكب سابقة على رأسها (عطبرة، القضارف، دنقلا، سنار، الخرطوم،بورتسودان، مدني، الأبيض وأم روابة) في ما تدخل مدن لأول مرة وأبرزها (الدويم، أبوجبيهة ورفاعة)، ولعل ما سيعزز هذه الدعوة إعلان جهات من غير الفاعلين سياسياً كمجموعة أقمار الضواحي أحد ابرز مجموعات الحواتة –وهم الشباب المعجبين بالفنان الراحل محمود عبدالعزيز- إعتزامهم الإحتفاء بالذكري السنوية لمحمود التي تتزامن مع ذات يوم الموكب بالمشاركة في الموكب.

في ذات السياق فإن يوم أمس شهد إنضمام مدن لقائمة مدن المواكب وعلى رأسها (كسلا، حلفا الجديدة والمناقل) مع إنتقال الأمر لبعض القرى بولايتي الجزيرة والنيل الأبيض، وهو تحول يهزم التفسيرات والمنطق الحكومي بأن الأزمة بدأت إقتصادية بالمدن الولائية قبل أن يتم إختطافها من القوي السياسية بالخرطوم وأن تشهدها إنحساراً بالولايات بعد إنتهاء الأزمة الإقتصادية فيها.، في ما نظم المحامون بالدمازين وقفة إحتجاجية رفضت قمع المواكب ودعت لإطلاق سراح المعتقلين والإلتزام بالحقوق المنصوص عليها بالدستور.

(الجنينة) و(شندي)

بجانب هذه المدن المقرر خروجها في مواكب متزامنة اليوم فقد إنتشرت على مجموعات التواصل الإجتماعي دعوات لتنظيم موكبين في كل من (الجنينة) و(شندي) ومواقع أخرى والتي لم يرد ذكرها في الإعلان الرسمي لتجمع المهنيين المنشور.

نجد أن إنضمام (الجنينة) لقائمة مدن الحراك مهم لكونها تعزز مشاركة دارفور في هذا الحراك وهو أمر يجعل هذا الحراك شامل كل أنحاء السودان، أما شندي فتكتسب أهمية معنوية كبيرة لكونها مسقط رأس البشير وعدد كبير من القادة السياسيين والعسكريين الحاليين، وبالتالي فإن خروج من موكب من هذه المدينة سيتجاوز الدلالة السياسية ويبث رسالة سلبية مفادها أن النظام مرفوض وغير مرغوب فيه حتى داخل عمقه الإجتماعي وهو ما سيسعي النظام لتجنب حدوثه لأن إنخراط شندي وإنضمامها لمدن المواكب سيكون أشبه بتلقي لإمبرطور الروماني بوليس قيصر الطعنة القاتلة من أخلص اصدقائه الأوفياء بروتس ولذلك سيعمل بكل قوة بأن لا يردد (آه حتى شندي !!).

معطيات (كسلا)

لا يمكن إغفال الوزن السياسي والإعلامي لكسلا في الحراك السياسي بالبلاد، إلا أن موكبها نهار الأربعاء 16 يناير 2019م إرتبط بمعطيات ذاتية إضافية أولها بأنها المدينة ظلت جراء تجربة قاربت العقود الثلاثة تعاني من التهتك الذي طال نسيجها الإجتماعي ودوامة الإستقطابات داخلية جراء ممارسات الانقاذ التي كبلتها لسنوات عديدة ، أما ثانيها فهو مرتبط بصورة عامة رسمت عنها نتيجة لتنظيم مساندي الحكومة لموكب خلال الأسابيع الأولي للحراك بجانب مشاهد لصور متداولة لمواطنين من الولاية على متن لواري بغرض المشاركة ضمن حشد الساحة الخضراء، وهو ما جعل الولاية تبدو وكأنها منطقة سند للنظام وهو ما أثار إستهجان عدد من الناشطين بمواقع التواصل الإجتماعي، ولاحقاً سعتب حكومة الولاية لإستثمار هذا الأمر بتنظيم زيارة البشير بعد حوالي 10 ايام.

يكتسب الحراك الذي شهدته مدينتي كسلا وحلفا الجديدة أمس عامل إضافي لكونهما تحديا سلطة الطوارئ السارية بالولاية الذي تم تجديده مؤخراً لعدة أشهر ، وبالتالي فإن تنظيم مواكب في ظل سريانه يحتاج قدر أكبر من الجسارة مقارنة بالمدن الأخرى التي لا تعيش أوضاع الطوارئ. وسيبقي تدخل القوات المسلحة المتمركزة بحامية كسلا في موكب 16 يناير وحماية الموكب هو التطور الأهم والأبرز لكونه يعد مؤشر لتنامي المواقف الرافض بالجيش للإفراط في إستخدام العنف والرصاص ضد المتظاهرين الملتزمين بشكل كامل بالسلمية.

تحرير الدروع البشرية

يمكن القول أن مواكب 16 يناير بكسلا تمكن فعلياً من القفز على جميع المعطيات السابقة التي أشرنا إليها، في ما سيبقي الدرس الأهم المتعلق بكسلا متصل بحملة تخوين مارسها بعض الناشطين على المدينة وأهلها وقاطني الولاية جراء موكب التأييد الحكومة الذي أشرنا إليه أعلاه، فذاك الموقف يصادر حق أشخاص وقناعاتهم الحرة بأن يساندوا من يريدوا والخلاف معهم في الرؤية تجاه مستقبل البلاد بإعتبار أن الحراك يتسمك بتمتع الجميع بالحرية والمساواة فلا تحظي مواكب بالدعم والسند والرعاية الحكومية في ما تقابل أخرى سلمية بقمع شرطي وأمني.

إن التحول الذي يسعي له الحراك يتمثل في طي حقبة الإقصاء والتهميش بالسودان للأبد وأن (لا تزر فيه وازرة وزر أخرى) لينال من أجرم العقاب وفقاً للقانون دون أن ينسحب ذلك على من تشاركوا معهم الأفكار والقناعات الفكرية والسياسية. في تقديري أن هذا المسلك والمفهوم ضروري لتحرير دروع بشرية يحتجزهم من إرتكبوا تجاوزات بالتخويف من الإنتقام القادم الذي سيطال الجميع، فالأفكار والقناعات لا يترتب على اساسها أي تصنيف سلباً أم إيجاباً، في ما ترتبط المحاسبة والعقاب بالقانون، فهذا الحراك من أجل سيادة أحكام القانون وليس بغرض إستبدال قانون التمييز والكبت والقمع بقانون الغابة.

الإستفادة من الدروس

لعل الوقائع التي إرتبطت بكسلا ما قبل وبعد موكب 16 يناير أفرزت تجربة يجب الإستفادة منها مستقبلاً، بضرورة تجنب سحب أي موقف إتخذته فئة أو مجموعة على جميع الموجودين بالمحيط ثم الإنجراف في تلاسن وحملة تخوين غير مجديه أو مفيدة ربما تنتج عنه أضرار أكثر من فوائده و وربما يترتب عليها الإنحراف عن المعركة الأساسية.

يبدو أن أولئك الناشطين الذين إستنوا أحرف كيبورداتهم سابقاً بالحاجة الآن للإقرار بخطأ ما إرتكبوه وأن يقدموا نقداً ذاتياً عن ما ذلك الخطأ، أن التجربة الراهنة لهذا الحراك نجلس فيها جميعاً أمامها بمقاعد التلاميذ نتعلم منها والوقوع في الهفوت خلالها أمر وارد الحدوث ومن أخطائنا نتعلم وبالإعتذار والنقذ ذاتي نتطور.

سيبقي الدرس الأكثر أهمية مستقبلاً هو عدم (تضييق ما وسع أو أغلق ما يمكن إستمرار فتحه) حيث أثبتت التجربة أن هذا الحراك تطور وتنامي وإكتشاب أراضي جديدة بمقدرته وقابليته على جذب وإنضمام مناصرين جدد لصفوفه نظراً لفتح أبوابه مشرعه وعدم وضع الأسلاك على أسواره في وجه المترددين أو القابعين بالضفة الأخرى الراغبين في الإنضمام إليه.

حكومة بلا حلول

بات واضحاً أن الحكومة عاجزة عن إستيعاب الواقع الحالي وتعاني من مشكلة أساسية في تشخيص العله مما يجعلها تعالج الملاريا بـ(الأسبرين) ونتيجة لذلك فإن الأوضاع تمضي على الأرض في غير صالحها وبالتالي فإن إستمرار الأوضاع على هذا المنوال قد ينقل المشهد لخطوات تصعيدية إضافية خاصة في حل تحقيق مواكب نسبة نجاح تفوق الـ60% في المدن المعلن عنها بإعتباره سيكون بمثابة إهالة التراب على الحل الأمني نهائياً ويجعل لحظة الحقيقة قد حانت وجاء أوانها.

ما سيزيد من نقمة الشارع على المعالجات الإقتصادية التي تسعي الحكومة لتطبيقها والتي كُشف بعض من تفاصيلها عقب إجتماع المكتب القيادي للحزب الحاكم في وقت متأخر من مساء أمس الأربعاء 16 يناير بحل أزمة النقد بإستخدام فئات جديدة أعلى على رأسها المائة جنيه بأن ذلك يتجاوز سؤال من خلق الأزمة ولماذا لمرحلة جديدة بفرض حل على حساب المواطن بجعله يفقد قيمة نقوده، أما بقية مركبات الأزمة الإقتصادية من إنعدام المواد البترولية والدقيق وإختلال الميزان التجاري فلا يمكن إصالحه في ظل إستمرار الصرف الحكومي المتنامي على الهياكل المترهلة ومفاقمتها بالفساد الذي زكمت رائحته الأنوف فمن الواضح أن الحكومة وحزبها الحاكم طيلة الفترة السابقة لا يمتلكون معالجات لهذه الأزمات الجذرية وتقتصر وعودها على معالجة كوارث سياساتها التي أتبعتها منذ أواخر 2017م ..!!

يبدو أن الدعوة التي أطلقها الحزب الحاكم الخاصة بإبتدار مبادرة حوار مع الشباب وغير المنتمين سياسياً ومنظمات المجتمع التي أعلن عنها رئيس قطاعه السياسي دون إعطاء تفصيل عنها ثم العزف الإعلامي مؤخراً بإيجاد (طريق ثالث) الذي يفتقر الغطاء السياسي ويعاني من ملامح مطموسه هو فعلياً تجريب للمجرب ومحاولة كسب الوقت في إنتظار حدوث الفرج (والذي من الواضح أنه مرتبط بوصول فئات الـ100 جنيه لمعالجة أزمة الكتلة النقدية).

من الواضح بأن الحزب الحاكم لم يتسوعب حتى اللحظة الراهنة بأن الواقع تجاوز أزمة البنكنوت ومعاناة الصفوف وباتت الأزمة في فقدان الشعب لثقته فيهم التي تزايدت وتعمقت حينما إكتشفوا بأن حكامهم الذين عزلوا أنفسهم في أبراج عاجية غير قادرين حتى اللحظة لإستيعاب أسباب نزولهم للشوارع في أسبوعهم الخامس، فهذا شعب ليس جائع وإنما خائف من مقدرتهم على تقديم حياة مستقبلية أفضل فمن يعجز عن فهم مطالبك اليوم فمن المؤكد بأنه عاجز تماماً عن إستيعاب ما تبتغي تحقيقه والوصول إليه مستقبلاً ..!!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..