مجموعة «أحمر شفاه» لشريف عابدين: ظاهرة «التبئير» في فن القصة القصيرة

شوقي بدر يوسف

لا شك أن القصة القصيرة ما زالت حتى الآن هي سيدة الأنواع الأدبية. وأن التطوير وتجديد الدم ما زالا يعملان في جسدها ونسيجها الحكائي بكل قوة منذ تحولها من فن المقامة إلى ما نشاهده الآن على الساحة من نصوص قصصية تعتمد في بنيتها على روح التطوير والتجديد والتجريب الدائم المستمر باعتبارها فن الممكن والفن الماكر المراوغ في الشكل والمضمون وباعتبار أن هذا التطور الذي طرأ على الشكل القصصي منذ كتابات الرواد كان ضروريا حتى تتواءم القصة القصيرة بفنيتها مع مجريات الواقع المتغير دائما في كل ظروفه ومستجداته.
ولا شك أن ظاهرة التبئير في فن القصة أو زاوية الرؤية وهي الكوة الصغيرة التي ينظر منها الكاتب إلى الإشكالية أو وجهة النظر التي يريد التعبير عنها هي التي تحدد للكاتب موضوع الرؤية المراد التعويل عليها، وهي تختلف من كاتب إلى آخر، من الواقعية بكل أبعادها إلى السيريالية بكل ممكناتها كما كان عند كل من محمود تيمور ومحمود البدوي من رواد الواقعية إلى محمد حافظ رجب ومحمد الصاوي في الشكل السيريالي للقص القصير. ولعل الموجبات السردية هي التي تفرض الشكل الفني للكاتب لإنجاز مشهدية نصه القصصي يشعر بعدها القارئ عند إتمام القراءة بأنه وقع تحت تأثير قراءة تحتاج إلى جهد في التلقي وتوحد مع النص حتى يمكن الإلمام بكل دقائقه ومعطياته الفنية والدلالية.
وفي مجموعة «أحمر شفاه» لشريف عابدين والتي جاءت بعد مجموعته المكتملة «تلك الأشياء» التي ضمت خمس مجموعات من القص القصير جدا. نجد أن الكاتب يطرح في مجموعته الأخيرة أكثر من زاوية من زوايا التبئير في كل نص من نصوص هذه المجموعة من خلال نظرة، ووجهة نظر رؤيوية لواقع محدد يريد التعويل عليه ويحدد في محتواه بعض القضايا التي انتخبها من واقع الحياة والتي جاءت على شكل سرد يحمل بنية شعرية مجنحة حافلة بالغنائية في بعض الأحيان، ولعل هناك تأثر كبير بين بنية القص القصير جدا الذي بدأ به شريف كتاباته الأولى وبين قصص المجموعة التي جاءت على شكل أقاصيص قصيرة بعضها يجنح إلى شكل القصة القصيرة/القصيرة والبعض الآخر يأخذ شكل القصة القصيرة التقليدية.
وزاوية الرؤية في قصة «أحمر شفاه» على سبيل المثال وهو النص الذي حمل عنوان المجموعة تكمن في نظرة الفتاة الصغيرة الساذجة ذات الأثني عشر ربيعا إلى مكامن القبلة في رؤيتها الذاتية من خلال أحمر الشفاه الذي تضعه زوجة أبيها، كما تضعه أيضا بعض زميلاتها في الفصل، وكيف أن كلا منهن تمسح هذا الأحمر بطريقة تختلف عن الأخرى في الشكل والمضمون، وصولا إلى عنصر السخرية والمفارقة الذي يستخدمه الكاتب في الوصول إلى أن القبلة الناتجة عن أحمر الشفاه لا تنقل العدوى إنما هي بالدرجة الأولى تضعف المقاومة كما حدث في المشهد الذي صوره الكاتب وشاهدته الفتاة من كوة الباب بين زوجة أبيها المتكبرة دائما عليها، وبين أبيها الذي تتعامل معه الفتاة بعقدة الكترا، والذي وجدته بعد قبلة زوجته له يغط في نوم عميق، بينما زوجته تفتح الباب وتخرج وهي تتعإلى في مشيتها.
كذلك ما وصفته زميلتها في المدرسة من أنها منغلقة على نفسها لا تفهم في أمور النساء شيئا مما يفهمنه زميلاتها، لذا جاء تعاملها مع أحمر الشفاه تعاملا ساذجا وهو ما أوضحه الكاتب في تفاصيل التفاعل بين الفتاة وبين هذه إشكالية الفتاة المتمرسة والمجربة في الحياة، وبين رؤية الفتاة للمشهد المسكوت عنه بين زوجة أبيها وأبيها.
وما تراه في أحوال المرأة من خلال هذا الطلاء الأحمر الذي يطل من فم المرأة في صورها المختلفة، زوجة أبيها، المدرسات في المدرسة، النساء في الشوارع، زميلاتها في الفصل، كل هؤلاء النسوة يضعن أحمر الشفاه لغرض ما، ولكن مسح هذا الأحمر يختلف من امرأة إلى أخرى وهو ما وطن في هاجس الفتاة وفي تفاعلها مع كل مشهد تراه لهذا الطلاء حتى أنها في مشهد حجرة نوم أبيها وهي الإشكالية الاجتماعية التي تفسرها بسذاجة مفرطة حين أنهى الكاتب قصته بهذه العبارة التي كانت تخاطب بها أباها قائلة: «لكن بما أن القبلات لا تنقل العدوى كما قالت زميلتي وإنما تضعف المقاومة، فإنها لن تحبني.
وأوقن أنها الأقوى؛ لأنها حين ضعفت بين يديك سرعان ما استعادت قدرتها! لكن موقفك اليوم طمأنني أنها لم تستطع أن تنقل إليك عدوى كراهيتي رغم أن شخيرك المرتفع أعلن انهيار مقاومتك.. تماما». (ص22).
ثمة زاويا تبئيرية أخرى للرؤية في نصوص المجموعة تجمع بين التراثية وقراءة الواقع بطريقة غير مباشرة نجد ذلك في قصة «مؤاخذة الجحش بقضم الجزرة» فمن خلال هذه الكوة التراثية الضيقة يطرح الكاتب رؤيته من خلال أبنة شاهبندر التجار التي أشاع القوم عنها أنها أحبت الفتى الذي كان يسحب حمارها إلى الكتّاب فوقعت في غرامه وقبلتّه بعد أن شاكسته وعصرت قشرة البرتقالة في عينيه، ويختفي الفتى ويبحث عنه العسس في كل مكان لمحاكمته على فعلته المشينة دون جدوى، وتتواتر الأحداث عبر مقولة القاضي الذي أدلى دلوه في هذه القضية بقوله: الأمر لا يستحق، لا يتجاوز جزرة قضمها جحش، وصارت هذه المقولة أمثولة ورمزا للتهكم على العسس: «فكان الناس يمطون بوزهم كلما مروا بأحدهم وينقشون مخطوطا صوريا للجحش على الجدران صار رمزا للتهكم من السلطات». (ص108)، وبعد محاولات عدة للوقوف على هذه القضية الشائكة يصدر حكم القاضي في نهاية النص: «يسجن الجحش لحين بت لجنة الحكماء في جواز قطع رأسه بدلا من ذيله بالقياس مع الجزء الذي قام بقضمه من أعلى الجزرة». (ص118)
وفي نص «إغواء عطرها» وهو نص مستمد من عادات وتقاليد شعبية وضعه الكاتب في زاوية رؤية حاول من خلالها بث وجهة نظر حول العطر وما يفعله في علاقات مطردة ومحتدمة بين الذات والآخر في صورة سردية تتسم بالشاعرية والكلمات المموسقة في شكلها وفعلها: «لكم عشقت عطرها.. لا بد أنني أرى ذلك العطر؛ لكم كان الصفاء يعم الكون حين ينتشر حولي، كم صارت واضحة تلك الرؤى! نعم أحتاج للوضوح وسط هذا الحشد من الضباب». (ص 94) ولعل المجال الذي يجابه وجهة النظر التي يريد الكاتب التعويل عليها في هذه النصوص تستمد رؤيتها من علاقة السارد بهواجسه المجنحة في النظر إلى الواقع برؤية رومانسية تعتمل فيها النظرة المتخيلة في إطار شعرية، وابتكار لنثرية هذه الشعرية، والحوار الحاصل بين الذات والآخر حول ما يفعله العطر وإغوائه في البحث عن اللذة، حيث يقول الراوي: «وما هي اللذة؟ ليست سوى موجات تسري داخلك.. مس السعادة ينساب خلالك.. اللدغة.. وخز مستودع البهجة ليغمر كل خلاياك».
(ص99)، وفي نص «ضمادة من طين» يعرج الكاتب إلى رؤية الواقع عبر فلسفته ونقله إلى زاوية الرؤية من خلال نظرة إلى هذا الرجل القابع بجوار الرصيف في هذا البرد القارس بملابسه الممزقة وجسده النحيل، ولعل ثقوب ملابسه وتغلغل البرد القارس إلى جسده هي ما يعنينا في هذا النص: «ومن بين الثقوب في الثوب الداكن يطل لون بشرته القمحي الأفتح نسبيا، تتسلل من خلال أنياب البرد الثلجية تتغلغل حتى عظامه». (ص61)
ويطارد الواقع هذا الرجل بعد أن عثر على كيس فيه بعض الفضلات التي ألقاها رجل ضخم الجثة عليه آثار النعمة. لكن الواقع ما زال يطارد الرجل النحيل حين ألقت عليه سيارة عابرة الطين فضمدت جسده بهذا الطين، وصارت بشرته جميعها مثل حياته كما أوضح الكاتب في نهاية النص.
ولعل اختيار أنواع التبئير في التعبير عن نصوص هذه المجموعة خاصة ما نجده متحققا في مجالات السرد هو ليس اختيارا قام به الكاتب دون تمييز أو تفكير بل إنه نوع من التعبير عن وجهات نظر لها رؤية فنية دالة على الإفادة وطرح مساءلة للواقع في نواح عدة ما يجعل القاص يفند رؤاه وأفكاره في سبيل الوصول إلى نقطة محددة يجنح إليها سرديا. ولا بد من الإشارة إلى ثمة مجموعة من الظروف المتحكمة في ترتيب أفكار الكاتب وسردياته النوعية في مجال القص.
ولأن الكاتب في نصوصه المطروحة قد جاء إلى مجال القصة القصيرة في حالتها التقليدية من مضمار القصة القصيرة جدا. فإن الشكل الفني لديه ما زال يطرح الرؤى نفسها والتنوع القائم في ذاكرته وبالتالي فإن التبئير في مجموعته الجديدة «أحمر شفاه» قد جاء منتشيا بالأفكار نفسها والمضامين مفتوحة النهايات في مواقفها المأزومة والسريعة المحتوى والشاعرية الشكل عبر التقاط مواقف محددة يرى الكاتب إنها هي الأنسب في توقفه أمام لقطاتها وومضتها وهو ما وجدناه في نصوص «نشيج متصل لرداء ممزق»، «يوم طويل من ذلك الشهر»، «حكاية كل يوم»، «رجل وحيد ينتهكني»، «حياة مؤجلة» حيث تتغير رؤية كل كاتب عن الآخر في تقديم الأحداث والمواقف التي يرى معطياتها كفيلة بتحديد وجهة النظر المراد التعويل عليها والتحرك من خلالها سرديا من خلال تبئير الموقف وطرحه في منظومة سردية يرى من وجهة نظره أنها جديرة بالتعبير واللعب عليها والاشتغال على معادلها الموضوعي المحقق لهذا التبئير.

كاتب مصري

شوقي بدر يوسف
القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..