ينتابني سؤال ملح ومقلق، وهو: أيهما السابق وأيهما اللاحق،القفز والغطس في الماء البارد ، أم تعلم السباحة اولا ؟
وقبل الحصول علي الإجابة ، بدأ السودان العوم في المياه العميقة، اعتبارًا من الحادي والعشرين من نوفمبر 2021 وهو حدث يجب أن تؤرخ به شواهدنا التأريخية، تماما كما نقول الاول من يناير لعيد استقلالنا، والحادي والعشرين من اكتوبر ، لثورة السودان الحقيقية، والتاسع عشر من ثورة ديسمبر المجيدة، وكذلك تواريخ الانقلابات العسكرية المشئومة، فهي محسوبة علي حركة تأريخنا الحديث ، شيئنا أم أبينا…وكلها حوادث سياسية فارقة في تأريخ السودان، وكذلك سينضم أليها الحدث التاريخي الاقتصادي لاول مرة…تعويم الجنيه السوداني.
في الحادي والعشرين من فبراير…ترك الجنيه السوداني وحيدا..يصارع الامواج العاتية بدون خبرة سابقة او فرقة انقاذ مدربة…
وفي حقيقة الأمر، فإن الجنيه السوداني، من يومه، ولد يتيما..ولم يجد الرعاية الطبيعية من اهله حتي يشب ويكبر كبقية سلة العملات الاجنبية..فقد ظل جيلا بعد جيل يصارع الرياح والأهواء دون سند يحميه..وبعد ان تعري تماما ، ألقي به في اليم وقيل له إياك إياك ان تبتل بالماء!!
ومن الغريب حقًا …فان معظم العملات الوطنية في العالم يحدث تعويمها ، بعد معالجات كثيرة، لأسباب أقتصادية بالدرجة الأولي معظمها خارج سيطرة الدولة…ما عدا هذا الجنيه المسكين…فهو ضحية أهله لضعف الاداء الحكومي والفساد السياسي وضعف الوازع الوطني عند تجار العملة.
وبأعلان تعويم الجنيه السوداني، وكأن القوم في حالة تأهب وانتظار، بدأ الكل في حالة نشوة وفرحة، كمن تخلص من طفل مشوه لا يريد علاجه..وأخذ الكل يبارك…سفارات …ومنظمات…ثم دول ورموز عالمية…وللأسف كلهم من علي الرصيف..يتفرجون علي سباق جديد من سباقات( التعويم) علي أناس جدد يجهلون كل فنون التجديف.
في العصور الوسطي من التأريخ الاوروبي، كانت الكنيسة تسيطر وتهيمن علي كل مظاهر الحياة…وإجبار الناس علي( الإيمان ) الذي يعتقده القساوسة والكهنة والرهبان . وكان الفلاسفة يتسالون عن ايهما السابق وايهما اللاحق: المعرفة…أم الايمان؟ بمعني هل اؤمن اولا ثم أعرف التعاليم الدينيةأم اتعلم وأعرف ، ثم أؤمن؟ وقد خلصوا الي ان الإيمان القائم علي المعرفة هو الاجدي والانفع للايمان ذاته..وهانحن في السودان..وفي أعتاب مدخل الألفية الثالثة نعيد السؤال : ايهما السابق…تعويم الجنيه ام تعلم السباحة اولا؟
