الضائقة..!ا

العصب السابع

الضائقة..!

شمائل النور

لو أجرى أي فرد منا عملية إحصائية سريعة لعدد مرات زيادة أسعار السلع الاستهلاكية بعد التاسع من يوليو قد نتجاوز أصابع اليدين، وما يحكى للإعلام عن محاولات تخفيف المعيشة ما هو إلا مجرد مؤانسة تعتمد على اللا شيء ولا تمت إلي واقع الحال بصلة،الحديث عن خطة إسعافية ثم برنامج ثلاثي ما هو إلا كلام والسلام، الخطة الإسعافية التي أُعلنت قبيل الانفصال والتي كان من المفترض أن تضمن استقراراً لفترة “6” لم تستطع الاستقرار لست ساعات والذي يتحمل كل العبء هو المواطن فقط، هو من يدفع وهو من يُدفع به إلى الهاوية. والملاحظ أن السوق لم يتوقف وليس هناك مجرد أمل أن ترجع الأسعار كما هي أو حتى تستقر على ما هي عليه، السوق يزداد التهاباً صباح كل يوم، فلم تعد سلعة دون سواها تغالي في سعرها بل كل السلع الآن لحقت بها زيادات لترفع سعرها أضعافاً، والمواطن أمام خيارين إما أن يصوم عن الأكل والشرب ويموت غبناً، أو يصرف كل ما في جيبه مقابل الماء والكلأ ويترك ثانويات الأشياء التي لا غنى عنها.. وإن الذي يدعو إلى الاستفزاز أكثر أن الحكومة لا زالت تكرر عبارة “ارتفاع الأسعار غير مبرر” وهي مكتوفة الأيدي وكأنها تتفرج على مباراة، وترمي اللوم على صغار التجار وتترك التجار الكبار الذي يحكمون السوق ويتحكمون فيه من وراء ستار ويحتمون بالحكومة، فليس من الإنصاف أن يدعو الشعب على تجار “الدكاكين”، بل التجار الذين يتأذى منهم الشعب هم تجار الحكومة الذين يديرون السوق في الخفاء والحكومة تعلمهم، لكن على مستوى المواطن، الواضح أن ارتفاع الأسعار له ألف مبرر لكن الحكومة تعودت على عدم مواجهة الأزمات بشفافية تضمن لها حلاً وهذه أكبر مآزقها، ظلت ترقص فرحاً بألاّ صائبة سوف تصيب الاقتصاد بعد انفصال الجنوب في معادلة لا يمكن أن تقنع طفلاً، والجميع يدرك أن النفط يُمثل عماد الاقتصاد، فكيف لا يتأثر الاقتصاد وقد ذهب ثلث هذا المورد، والحكومة لم تجتهد في إيجاد مورد لسد هذه الفجوة قبل وقت كاف، وكل حيلتها “شوية” قمح وذهب وخطط إنشائية لا تستند على أرقام واقعية. الآن الجميع أدرك أن أزمة اقتصادية فادحة مقبلة على السودان وها هي الآن البداية تُبشر.. الدولار لم تُكبح جماحه، أتذكرون عندما وصل “5” جنيهات، الآن يتجاوز الـ “5” ودون توقف يمضي، في نكسة غير مسبوقة.. كل هذا واقع بيننا نشاهده ويزداد تأزماً كل يوم وتمتع نفسها بشقاء المواطن وتعاسته وكدحه خلف لقمة العيش، رغم كل ذلك ليت كل ما يدفعه المواطن يذهب في مساره الصحيح، لكن السؤال الكبير حتى متى يستمر الوضع هكذا وحتى متى نصمت ونتفرج.؟.

تعليق واحد

  1. الانفجار قادم لامحالة و البنسمعوا وبنشوفوا فى شاشات التلفاز فى الدول الاخرى مانستبعد وا حايكون عندنا هنافى قلب البلد دى مادام الحكومة بالوضع المزرى الماثل امامنا والواحد لو سمع انفجارات او إقتيالات مايستغرب لانو البغش الله الله بغشو:mad: 😡 😡 😡

  2. الاخت شمائل النور ….هناك مقال رائع كتبه الاستاذ على عبد الرحيم على

    تحت عنوان .حقائق واباطيل عن الاقتصاد السودانى …بتاريخ 7/12/2011م…..اتمنى ان تقوم الراكوبه باعاده نشر هذا المقال ليتعرف اهل السودان الى اين هم ذاهبون وماذا يستوجب منهم ان يفعلوه ….وفيه اجابه شافيه عن سوالك حتى متى يستمر الحال هكذا؟؟وفيه ايضا اجابه لكل اسئلة القراء باذن الله .وشكرا.

    مفهوم العيش الطيب، خرافة الحل الزراعي، والصناعة

    تشغل الناس في السودان هذه الأيام مشكلة الوضع الاقتصادي للبلاد في ظل أزمة اقتصادية عالمية وفي أعقاب انفصال الجنوب وذهابه بغالب النفط ، شغلاً ربما يزيد على اشتغالهم بالحكومة الجديدة ? والذي أحسبه اشتغالاً لايعدو فضول غير المكترث ? فأمر الاقتصاد لا شك يحدث فرقاً في حياة الناس بشكل ثابت بينما تغيير الحكومة ألفه الناس جعجعة بلا طحين ? والطحين هنا منشود حرفياً!
    والمتأمل في مذاهب الحكومة في الاقتصاد تصيبه الحيرة من بعض الامور الثوابت لديها كالعقيدة الثابتة في حل المشكل الاقتصادي في السودان عبر الزراعة أو رسوخ العلاقة الاقتصادية مع الصين على المدى الطويل أو رفع الفقر بالتمويل الأصغر. وليس العجب من نهج الحكومة وحدها ولكن العجب يمتد ليشمل نهج المجتمع نفسه الذي تحول الى مجتمع استهلاكي دون المرور بالمرحلة المتوقعة وهي مرحلة الانتاج. كيف سينفطم السودانيون من الزيت الأسود بعد طول رضاع وقد نما في الاقتصاد الشعر والاظفار بينما لا يزال العظم رِمَّة؟ أما وصف السودان بأنه دولة نفطية فهو ضلالة أخرى تضاف لما سبق.
    سأحاول من خلال هذا المقال أن ألقي الضوء على بعض المفاهيم الخاطئة ? في ظني ? والسائدة عند الناس عن الوضع الاقتصادي في السودان. ولئن بدت بعض الحقائق أو الآراء التي سأطرحها مقنطة فالأمر في مجمله ليس كذلك ولكن الصعود إلى أعلى يحتاج أولاً إلى وضع الأقدام على أرض صلبة وهو ما نفقده الآن قولاً وفعلاً وفهماً. ويحسن بنا لتصحيح هذا الأمر أن نقدم له بمناقشة المطلب الأساس: العيش الطيب.
    مفهوم العيش الطيب عند الناس:
    العيش الطيب فكرة شخصية إلى حد كبير ولكنها ضرورية على المستوى المجتمعى لحاجة المجتمع إلى تحديد ضروريات الحياة وتعريف الفقر، ولأن رغبات الناس واحتياجاتهم قد تتفاوت إلى حد كبير، فإن تعريف العيش الطيب بشكل تفصيلي يغدو صعباً. فالضروريات تختلف في هذا العصر باختلاف الزمان والمكان حيث تختلف ضروريات الامريكي عن ضروريات الصومالي، وضروريات القرن التاسع عشر تختلف عنها في القرن الحادي والعشرين بل حتى بين الأفراد تختلف ضروريات الزاهد القانع عنها لدى الطموح محب المتع، أما تعريف الضروريات بأنها إقامة الأود فقط فهذا قد تجاوزه الناس منذ زمن بعيد ? رغم أن إقامة الأود لازالت مطلب كثير من الناس حتى في أيامنا هذه.
    الداعي لهذا الكلام هو أنه قبل مناقشة أحوال الاقتصاد والمعاش في بلادنا ? وبما أن الاقتصاد هدفه الأساسي هو توفير العيش الطيب للناس ? فلابد من تكوين فكرة عن العيش الطيب الذي يبتغيه الناس لمعرفة ما اذا كان اقتصاد البلاد حسن أم سيئ، وكيف ومتى يصل الاقتصاد إلى المستوى المطلوب.
    لايحسبنّ الناس أن معرفة ضروريات الحياة للناس بالأمر الهيّن فأهواء الناس لها في تحديد ذلك نصيب والأهواء شديدة التباين. أذكر أني سمعت من كبارنا أنه في أوقات سابقة كان بعض فقراء القرية يأتون الى التاجر ليستبدلوا بعض اللوبيا ? وهي غذاؤهم ? ببعض السكر والشاي أو السجائر، كيف تحسب الضروريات لمثل هذا؟! أو للذي يسأل الناس في الطرقات وهو يحمل هاتفاً جوالاً، أو الذي يعيش في سقيفة (راكوبة) فيها تلفاز بطبق فضائي بينما يبيت أطفاله جياعاً؟!
    هذا السلوك غير المنطقي يعقّد الصورة للذي يريد أن يضع معاييراً لقياس الوضع الاقتصادي المطلوب حيث يجمع الناس بين الإنتاج القروي و الإستهلاك المدني في سلوك مختل. فالتدرج الطبيعي للمجتمعات هو أن تتحول من مجتمعات زراعية رعوية في الأرياف إلى مجتمعات صناعية في المدن وكلها مجتمعات منتجة، ثم لا تلبث بعد أن تصيبها دعة العيش وتعتاد الوفرة وسهولة المال أن تتحول إلى مجتمعات استهلاكية بينما تتولّى شعوب أخرى حديثة التحول الى المدن والصناعة عملية الانتاج لإشباع الرغبات الاستهلاكية لهؤلاء السابقين.
    هذه هي الدورة الطبيعية للنمط الاستهلاكي للشعوب ويشذ عنها بعض الحالات كالدول التي تتحول مباشرة الى الخدمات دون استقرار طويل في الصناعة أو التي تعتمد على الموارد الطبيعية الضخمة. أما الحال في السودان ? وفي غيره القليل ? فيعتبر شذوذاً سالباً على هذه القاعدة حيث يشهد المجتمع تحولاُ نحو الاستهلاك دون نهضة انتاجية تذكر، ساعد على ذلك ما زُيّن للناس في بضع سنين سِمان أن السودان دولة نفطية ? وهو ضلال سأفصل فيه لاحقاً ? ولكن ما يهمنا هنا هو أن معيار العيش الطيب لدى الناس قد ارتفع في هذه السنوات المعدودة ارتفاعاً مخلاً وسيعسر جداً انزاله ذلك لأنه قد حفَّ في صعوده بالشهوات وحفَّ في هبوطه بالمكاره.
    لن يقبل سكان المدن بالعودة إلى الأرياف حتى وإن سألوا الناس إلحافاً ? وهو حاصل ? ولن يقبل آكلو القمح باللوبيا الا أن يشرفوا على الهلاك. لن يقبل الناس بالبدائل المتوفرة لأنها غدت أدنى من مستوى العيش الطيب، والاقتصاد في السودان عليه أن يُسكن الناس في المدن وإن لم يعمروها وأن يوفر لهم القمح وإن لم يزرعوه، وما المجتمع الاستهلاكي غير هذا؟!
    هذه الفجوة بين الواقع الاقتصادي ومفهوم العيش الطيب ستظل مصدراً للاضطراب السياسي والاجتماعي والأمني، اضطراباً يزيد باتساع الفجوة ويقل بضيقها، ولا تضيق الفجوة الا بتحريك أحد الطرفين نحو الآخر أو كلاهما، وقد ذكرت صعوبة تخفيض مستوى العيش الطيب سلفاَ فلا يبقى الا التركيز على الإنتاج لينهض بالاقتصاد تجاه مستوى العيش الطيب المنشود.
    نمضي الآن لمناقشة موضوع الإنتاج ومجالاته لنقر أن الزراعة وحدها لن تحدث النهضة الاقتصادية المطلوبة ولنصحح بعض المفاهيم عن موارد السودان الطبيعية وأهمية الصناعة وغير ذلك مما يشيع بين الناس عكسه هذه الأيام.
    خرافة الحل الزراعي:
    لن ينهض السودان نهضة اقتصادية كبرى معتمداً على الزراعة وحدها أو عليها بشكل أساسي. هذه الحقيقة ستقف في وجه كل النفرات والنهضات والوثبات الزراعية التي سيحدثها السودان ولو فرضنا نجاحها الكامل وزيادة. القاعدة التي يعرفها الاقتصاديون ويجب أن يعرفها السياسيون عندنا هي: التصنيع هو الوسيلة الأساسية للنمو (manufacturing is the main engine of growth)، واذا كان هنالك من أمر طرأ على هذه القاعدة ليهز عرش الصناعة فهو قطاع الخدمات وفي ذلك تفصيل ليس من مرادنا هنا، المهم هنا هو أن الزراعة لم تعد وسيلة النمو الاقتصادي واسمحوا لي ببذل البراهين. الدول التي تعتبر سلة غذاء العالم ? بحق! ? هي امريكا وكندا واستراليا. هذه الدول الثلاثة تطعم وحدها مايقرب من نصف العالم قمحاً ورغم ذلك يشكل القطاع الزراعي فيها نسبة 1.1%،2.2%،3.9% (على التوالي) من الدخل القومي لها. والآن لننظر إلى الجهة المقابلة ، فالزراعة في بعض أفقر دول العالم ? الصومال وافريقيا الوسطى واثيوبيا ? تشكل 60%،54%،50% (على التوالى) من الدخل القومي لها. القائمة التالية تعطي صورة أشمل (بين القوسين احصاء بعد الانفصال):
    الزراعة الصناعة الخدمات
    أمريكا 1.2 22.2 76.6
    كندا 2.2 26.3 71.5
    أستراليا 3.9 25.5 70.6
    السودان 45 (31.6) 45 (26) 10 (42.1)
    الصومال 60 7.4 32
    افريقيا الوسطى 53.8 14.5 31.7
    اثيوبيا 50 11 39

    ملاحظات:
    ? أرقام السودان بعد الانفصال لا تكمل المائة ولكني نقلتها دون تعديل من كتاب "السودان حقائق وأرقام". بقية القائمة منقولة ? بعلاتها ? من موقع وكالة المخابرات الامريكية.
    ? الزراعة تشمل الغابات والثروة السمكية والحيوانية، الصناعة تشمل التعدين والنفط، بينما الخدمات هي كل نشاط اقتصادي دون ذلك.
    ? وحتى لايظن القارئ الكريم أن اقتصاد السودان صناعي بأكثر مما هو عليه في أمريكا، أنبه أن أمريكا ب22% من اقتصادها للصناعة تظل الدولة الصناعية الأولى في العالم، وهذا دلالة على ضخامة قطاع الخدمات فيها لا ضآلة قطاع الصناعة.
    لقد سبق أن ذكرت أن المجتمعات تتحول من مجتمعات قروية زراعية ورعوية إلى مجتمعات مدنية صناعية خدمية، هذه قاعدة اقتصادية تاريخية معروفة، رغم ذلك تظل كثير من الأصوات تعلو ? خصوصاً بعد انحسار النفط مع الجنوب ? أن السودان في الأساس دولة زراعية ومن ثمّ فنهضته لا بدّ أن تكون من خلال الزراعة. دعونا ننظر في هذه المقولة المضللة بعد أن نفترض أن النهضة المنشودة ستكون من خلال التصدير بعد الاكتفاء الذاتي (مجرد الاكتفاء من الطعام لن يكون نهضة!)، كيف سينافس السودان – الواقع في شريط الصحراء – غيره بمنتجاته الزراعية بينما معدل الأمطار فيه دون النصف من المتوسط العالمي؟! واذا سقا زرعه من النيل أو المياه الجوفية فسيرفع تكلفة الري وهو ينافس دولاً تكلفة الري فيها صفرية. هذا فقط من حيث الإمكانات الطبيعية دون الخوض في الإمكانات العلمية والبشرية وغيرها. إنّ الذي يظن أن السودان عليه أن يعتمد في الأساس على الزراعة للنهوض الاقتصادي لمجرد أن فيه النيل وأراضيه منبسطة فهو واهم، فالعديد من الدول التي تملك إمكانات زراعية أضخم مما يملك السودان أما دول متخلفة أو أنها تقدمت دون الاعتماد في الأساس على الزراعة.
    كذلك فإن الزراعة تتضاءل في امكانيتها لخلق الوظائف أمام الصناعة والخدمات ويمكن بيان ذلك بمثال غير علمي ولكنه شارح. ثلاثة أفدنة من الأرض يمكن لشخص واحد زراعتها دون صعوبة وسيكفي انتاجها لعدد محدود من الناس ? حسب المزروع ? بينما اذا شيّد في هذه الأرض مصنعاً فسيوظف عشرات الناس. ليس ذلك فحسب، بل إن الماكينات في هذا المصنع ستحتاج إلى مصانع أخرى لصناعتها وهذه بدورها ستحتاج لأخرى وكلها وظائف للناس.
    لا أريد أن يفهم من قولي هذا أنّ على السودان التخلي عن طموحه الزراعي، على العكس، السودان عليه أن يستغل إمكاناته الزراعية إلى مداها فهذا بمثابة شرط للنجاح كأمّة ولكنه ليس كافياً للتفوق وتوفير العيش الطيب للناس، فالذي ينشد الدرجات العلى من الجنان لن يكتفي باداء الفرائض. والناظر في الفكرة السائدة لدى كثير من الناس أن الزراعة هي مخرج السودانيين من الشقاء الى الرخاء لا يملك الا أن يلوم أولي الأمر إما لجهلهم بما وجب علمه أو لدسّ الحقائق عن الناس ونشر الأباطيل.
    ذات الأمر ينطبق على البترول، وأحسب أنّي كنت سأحتاج إلى مرافعة أخرى لأبين بطلان خرافة الحل البترولي ولكن انفصال الجنوب قد كفاني ذلك، ولكن دعوني أشير إلى حجم الضلال الذي كنا نعيشه. دولة مثل مصر لا نسمع ضجيجاً أنها دولة نفطية رغم أن انتاجها يتفوق على انتاج السودان قبل الانفصال بالربع ولو احتج احدهم بتعداد مصر السكاني العالي، فإن سوريا تتفوق على السودان (أيضاً قبل الانفصال!)في نسبة انتاج النفط الى عدد السكان وكذلك فهم أقل تباهياً بكونهم نفطيون. السودان لم ولن يكون دولة نفطية ? وهذه ليست حسرة لو يعلمون – رغم ذلك فلا زال بعض الناس يتمسكون بسرابه حيث تجدهم يكثرون الحديث عن استكشافات جديدة في الشمال باعتبارها مصدر الخلاص.
    ثم لم يلبث الناس بعد أن أفاقوا من الحلم البترولي أن غاصوا في حلم الذهب. إنه لمن المؤسف أن تظل آمال الناس دائماً معلقة بالموارد الطبيعية وكنوز الأرض فهي دلالة على قلة الهمّة والعزيمة الواهنة، إضافة إلى أن الموارد الطبيعية لن تنهض بأمّة وذلك لأسباب يطول شرحها تبدأ من كونها ? ببساطة ? نافدة مهما كثرت واستهلاكها لصالح أجيال دون أخرى جريمة، كما أن قدرة الموارد على خلق الوظائف ودفع الناس إلى العمل والإنتاج ضعيفة، فهم كمن يخرج الأموال من الأرض ليشتري بها كل شيْ من بسيط الطعام حتى ثقيل العتاد، حتى إذا نفد المال، نفدت الحيلة!
    علينا أن ندرك أنه في سبيل إحداث نهضة إقتصادية حقيقية فلا بدّ من أن يكون الهدف هو الإكتفاء الذاتي من كل شيء، فإن لم يكن ذلك، فالقدرة على الإكتفاء الذاتي، والفرق بين الأمرين هو ما يسميه الاقتصاديون ب"الميزة النسبية" وهي باختصار أن يستغني البلد عن صناعة المنسوجات ? مثلاً ? رغم قدرته عليها ليوظف طاقاته في صناعة السيارات فيقوم بتصدير السيارات إلى البلد الذي سيستورد منه المنسوجات باعتبار أن ذلك أنفع إقتصادياً. المقصود أن السودان عليه أن ينفخ الروح في كل قطاعات الاقتصاد خصوصاً الصناعة لما لها من قدرات في سرعة النمو وخلق الوظائف، دون تراخ في سعي البلاد للنهوض بالزراعة واستغلال الموارد الطبيعية. أما الخدمات فتعتمد إلى حد كبير على نهضة الصناعة والزراعة.
    أهمية التصنيع:
    اذا جاز لنا أن نضع قاعدة لتلخيص الفقرات السابقة فلتكن: "اذا أردت شيئاً فاصنعه بنفسك"، وتكون هذه القاعدة هي الضابط إما لمستوى العيش الطيب أوللقدرة الانتاجية في البلاد، ولنضرب لذلك مثلاً: لنفترض أن الأسرة المتوسطة في السودان تأكل الخبز والخضروات و ? أحياناً ? الفاكهة واللحوم، وتركب سيارة صغيرة مستخدمة وتسكن في بيت ايجار به ثلاجة وتلفاز و أدوات كهربائية ومنزلية مما هو شائع في البيوت متوسطة الحال في السودان. اذا أردنا أن نطبق قاعدة الإعتماد على النفس على مستوى المعاش لهذه الأسرة باعتباره ما ارتضته كعيش طيب فسيكون علينا أن نصنع في السودان كل ما سبق ذكره من مستخدمات هذه الأسرة، ولنأخذ على سبيل المثال ? وتجنباً للأطالة ? أبسط الأشياء وهو الخبز.
    سيكون على السودان أن يزرع كل القمح الذي يحتاجه السودانيون، ستكون البذور والأسمدة والمبيدات انتاج سوداني، ستكون كل آليات العملية الزراعية من تركتورات وحاصدات ومعدات السقي وغيرها سودانية الصنع كاملة (ليست تجميعاً)، ستكون طلمبات الري صناعة سودانية كما الأمر لقطع الغيار والمواسير والأنابيب، حتى المعاول ستكون من حديد وخشب سوداني، سيكون المهندسون والزراعيون والمزارعون كلهم سودانيون مايعني أن الأبحاث ودراسات التطوير وتحسين الأنتاج ستكون في جامعات سودانية، ستكون وسائل نقل القمح الى الصوامع سيارات سودانية (ليست تجميع) تمشي على طرق مشيدة بمعدات سودانية، ستكون الصوامع قد شيّدت بأيدي سودانية، مهندسين وفنيين وعمال، ستكون ماكينات المطاحن واختبار الجودة والتعبئة كلها صناعة سودانية خالصة، وعلى نفس النسق ستكون المخابز بماكيناتها ومعداتها وعمالها سودانية خالصة، هذا باختصار شديد!
    كل هذا يجب أن يتم حتى تأكل الأسرة السودانية خبزاً لم تدخل عليه يد غير سودانية منذ أن كان بذرة قمح وحتى وصل إليها من المخبز. العبرة من هذا المثال ليست اثبات استحالة الاعتماد على الذات فغيرنا فعلها، ولكن أن ننظر في كم عدد الوظائف التي ستنشأ لإيصال حبة القمح الى أفواه الناس خبزاً، واقرأ أيها القارئ الكريم المثال السابق ثانية وتأمل. لاشك أن نسبة البطالة الموضوعة في 19% ستنخفض بقدر ملحوظ فقط مقابل صناعة (رغيف سوداني) خالص! وسأترك لكم اكمال (سودنة) بقية مطلوبات أسرة سودانية متوسطة لتعيش عيشاً طيباً.
    هذا اذا أردنا أن نرتفع بالإنتاج لمقابلة مستوى العيش الطيب. في المقابل ? وهو السيناريو الآخر ? لو أردنا أن ننخفض بمستوى العيش الطيب ليقابل مستوى الانتاج الفعلي اليوم في السودان فما علينا إلا أن نتخيل أسرة لا تستخدم في حياتها اليومية الا ما كان منتجاً في سودان اليوم، وسنعود بهذه الأسرة لا شك مئات السنين في التاريخ!
    الاعتماد على النفس يحمل ضمنياً في طياته أسباب العيش الطيب وهذه هي الوصفة السحرية للشعوب الناهضة. اذا سعى الناس لنيل عيش حسن سيحصلون باعتمادهم على أنفسهم لنيل ذلك العيش على عيش أحسن. فالصناعة تخلق الوظائف والاقتصاد المثالي هو الذي يكفل لكل شخص عملاً يكسب منه الرزق. كما ان الصناعة مع الزراعة تحفظ سيادة الشعوب وتكسبها الاستغناء عن غيرها.
    اذا ? وشرط (اذا) هنا دونه خرط القتاد! ? نجح السودان في استنهاض طاقاته نحو الصناعة فإن أول عقبة ستواجهه هي صديقه المفضل اليوم- الصين.
    الصين اليوم هي مصنع العالم الكبير، ولتشغيل هذا المصنع العملاق نشرت الصين أياديها الأخطبوطية في كل الكوكب بحثاً عن الطاقة والمعادن والموارد الطبيعية بكل أشكالها، وهذا هو سر صداقتنا الحالية، وستظل هذه العلاقة على حالها ما دام الامتصاص مستمراً ? وقد اضطرب كثيراً بعد انفصال الجنوب ? أما اذا قرر السودان استخدام ما لديه من موارد للصناعة والاعتماد على الذات فالعلاقة مع الصين لا بد ستأخذ شكلاً مغايراً. لكن للأسف فالنظرة الرسمية والانطباع الشعبي العام لايرى العلاقة على هذا الاساس النفعي ? والواقعي ? البحت، إنما يزين العلاقة بشيئ من السذاجة السياسية ربما رغبة في الاستقواء بالصين في مواجهة الغرب. صحيح أن هذا النوع من الموالاة قد تفرضه الظروف السياسية والاقتصادية للبلد بشكل مؤقت، ولكن ما دفعني لانتقاد هذا التصور هو الاحساس بأن الصداقة مع الصين قد تسربت إليها بعض بساطتنا الشعبية حيث أتصور أنه اذا ? وهذه اذا السابقة نفسها ? جدّ الجد، ربما يحجم السودان عن ايقاف الواردات الصينية أو تصدير الموارد الطبيعية إليها خوفاً من إثارة سخط التنين.
    كيف سينهض السودان اذا لم ندرك أن الناصر الدائم هو الله، وأنّ ما سوى ذلك فصداقات تدور مع المصالح (استثني الشعوب المسلمة). علينا أن ندرك أن كل خطوة نخطوها إلى الأمام ستكون خصماً على تقدم شعوب أخرى، وكل درجة نصعدها في سبيل النهضة ستكون إزاحة أو مضايقة لغيرنا. إذا قررنا أن نأكل خبزاً سودانياً سيكون ذلك على حساب شعوب كانت تطعمنا هذا الخبز بثمن وكانت لها من ذلك أيادٍ تعمل وبيوت مفتوحة. أما إذا قررنا ? بعد أن نكتفي من قمحنا ? أن نصدر منه إلى غيرنا فهذا لا شك سيكون مزاحمة اضافية لآخرين، وهكذا الأمر في الصناعة و الخدمات. هذه هي طبيعة العالم الذي نعيش فيه اليوم، إما أن تنتج فتستغني عن غيرك،و تنتج المزيد فيحتاج غيرك إليك، أو لا تنتج فترهن أمرك إلى غيرك، إن شاؤوا أعطوك وأن شاؤوا منعوك.
    إن تجربة التصنيع الحربي وجياد كان ينبغي أن تكون هي البداية لنهضة صناعية كبرى في السودان. فكثير من الدول نشأت نهضتها الصناعية في أوقات الحروب نتيجة الحاجة إلى التفوق العسكري على العدو، ولكن لا أدري ماذا أصاب هذه المؤسسات فانغرست أقدامها في وحل الادارة الضعيفة أو الارادة الضعيفة. فتجميع السيارات كان ينبغي أن يكون مرحلة موقوتة قبل التدرج نحو التصنيع الكامل ولكن مؤسساتنا أراها تراوح مكانها لأكثر من خمسة عشر عاماً أو تعود القهقرى، ولازلنا نبجث عن تجربة تنجح ويستمر نجاحها، لا كمحاولاتنا التي تفور بنجاح هش حتى تطفئ نارها بفورانها فتخمد إلى الأبد.
    والعجيب أن الطبول الصامتة كالقبور في موضوع الصناعة وأهميتها، تهدر هدراً تزين للناس أن الفقر ستكون نهايته على يد التمويل الأصغر كما زينت للناس أن نهضة السودان ستكون على أكتاف الزراعة، وهو نهج في الإفراط في الترويج لأمر مطلوب حتى يحترق من شدة الإضاءة عليه (كما فعلنا في "الوحدة الجاذبة"!).
    لو أن مائة من أصحاب التمويل الأصغر جُمعت أموالهم هذه وموِّل بها مصنع واحد وظّف هؤلاء المائة لكان حظه أفضل من حظوظ هؤلاء المائة متفرقين بأموالهم على أعمال هامشية أو حادوا بها عن أغراضها. إنه ذات الخلل حيث تسمّى الأشياء بغير أسمائها، فالزراعة قطاع ضروري للنهضة ولكنه شديد القصور، وكذلك التمويل الأصغر أداة ضرورية ولكنها محدودة الأثر جداً في تقليل الفقر على مستوى البلد. وإن كان هذا معلوماً، فإن العجب يكون من الطاقات الضخمة ? مالاً وبشراً وإعلاماً ? المبذولة تجاه هذه المواضيع بما لا يتناسب ودورها في نهضة البلاد الاقتصادية بينما القطاعات الأخرى لا تجد نصيبها ولا بعضاً منه من هذه الجهود.
    قبل أن أختم مقالي هذا أود أن أعيد الأشارة إلى تلك الفجوة بين الإنتاج الفعلي في السودان ومستوى العيش الطيب المنشود في المجتمع السوداني، وأشير إلى ذلك بمثال:
    كم منا يقبل أن يعيش اليوم في قصر الحمراء بما كان عليه وقت بنائه؟ حدائق غنّاء وأعمدة رخامية ونقوش وزخارف بديعة وأنواع من الطعام الوفير، ولكن، لا تلفاز ولا ثلاجة ولا مكيفات هواء ولا كهرباء ولا مظهر من مظاهر الحياة غير تلك المعهودة في القرن الثالث عشر الميلادي. يعيش دون هذه الأشياء بعد أن جربّها ومع توفرها لغيره. أحسب أن غالب الناس سيفضلون شقة صغيرة عصرية على قصر في العصور الوسطى، وهنا الشاهد من المثال.
    بإمكان السودان اليوم أن يوفر بإنتاجه الحالي حياة توازي ما كان متاحاً لملوك العصور الوسطى ولكنه سيعجز عن توفير حياة أجير في القرن العشرين! وكل ذلك مردّه إلى الصناعة التي أعادت صياغة مفهوم العيش الطيب عند الناس. والعلاقة الثنائية التي باتت واضحة الآن حيث لا يستقيم العيش الطيب الا بالإعتماد على الذات، تصير ثلاثية في عصرنا هذا حيث لا يستقيم الإعتماد على الذات إلا بالصناعة، أما الزراعة فصارت من نافلة القول. هذه المعادلة هي الفارقة بين الشعوب المنتجة والشعوب المستهلكة، وحال الأخيرة ليست حال مستقرة، فلا بدّ وأن يأتي زمان ينفد فيه مالها الموروث فلا يبقى لها الا التسول لإشباع رغباتها كمدمن الخمر، وذلك هو الخسران المبين.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..