الخليفة أبو العباس

د. محمد عبد الستار البدري
تناولنا في مقال الأسبوع الماضي الأسس التي قامت عليها الدولة العباسية، ورأينا كيف ألقى القدر على الخليفة أبي العباس الملقب بـ«السفاح» مهمة من أصعب المهام السياسية في التاريخ، فالرجل خرج بأهل داره مهرولا إلى الكوفة بعدما فضح أمرهم، وتم إلقاء القبض على أخيه إبراهيم من قبل عمال مروان بن محمد، فعقد الرجل الأمر لأبي العباس الذي وجد نفسه في الكوفة ضيفا على أبي سلمة الخلال، رجله الذي كان يدير الشبكة السياسية العنقودية ضد الدولة الأموية، وبات جيش أبي مسلم الخراساني الذي قاد الثورة شرقا ضد الأمويين معسكرا في الكوفة، والجميع ينتظر ما ستسفر عنه الأحداث بما في ذلك السفاح نفسه.

لقد كان أبو العباس في مقتبل عمره عندما آلت إليه الأمور، وكان الرجل قانعا حليما لا يعرف عنه إلا الميل للكرم والتعبد والزهد، حتى جاء له الأمر من بعد أخيه إبراهيم بن عبد الله، وقد تحول أبو العباس إلى رجل دولة بأسرع من المتوقع، فسلوكه كقائد سياسي يعكس نضجا سياسيا واضحا لا يمكن إلا أن يكون خلفه بعض الخبرة التي اكتسبها في كنف أخيه وأبيه ممن كانوا يقومون على الدعوة كما سنرى، وقيادته كانت حكيمة ورؤيته ثاقبة وتوازنه السياسي دقيقا، فكان بحق رجل دولة بكل ما تعنيه الكلمة.

لقد كان أبو سلمة الخلال مسيطرا على مقاليد الأمور، فأسكن أبا العباس وذويه مكانا معزولا بالكوفة، وكذلك جند خراسان، ولكنه لم يسع لتعريف كل طرف بالطرف الآخر، وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن الخلال لم يتعجل الأمر في الدعوة لأبي العباس لتولي الخلافة، بل إنه قام بإرسال الرسل إلى ثلاثة من قادة الحركة الشيعية، منهم جعفر الصادق وعبد الله بن المحض بن الحسن، ولكنه لم يصله منهم أي ردود، وذلك في الوقت الذي اكتشف جند خراسان وجود العباسيين في الكوفة، فذهبوا لهم وبايعوا أبا العباس خليفة للمسلمين وهم معزولون، ثم جاء الخلال مهرولا يبايع الخليفة بعدما كشف أمره، ولكن أبا العباس لم ير في استعدائه استفادة، رافضا إضافة عدو إلى قائمة الأعداء، فاحتضنه بحكمة سياسية بالغة قائلا له: «سابقتكم في دولتنا مشكورة وزلتكم مغفورة».

وبمجرد أن بايع أهل الكوفة وخراسان أبا العباس الذي كان المرض قد داهمه، خرج الرجل إلى المسجد وخطب فيهم خطبته الشهيرة التي لقب من بعدها بـ«السفاح»، فقال ضمن ما قال: «… أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا، وأنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم، حتى أدركتم زماننا وحباكم الله بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم فاستعدوا لحمل الأمانة.. أنا السفاح المبيح والثائر المبيد».

لقد عكست خطبة السفاح حقائق جديدة حول الدولة وحاكمها الجديد، فلقد جذب تعاطف أهل الكوفة بالمال والعطايا جزاء ما صنعوه لاحتضان الدعوة، كما أنه وضع الشرعية الجديدة ممثلة فيه وفي الدولة التي أكرم الله بها الكوفيين بعد بطش الأمويين، كما أنه وصف نفسه بالثائر والسفاح، الأولى كنية عن القوة والجبروت، والثانية يقال إنها كنية عن الكرم المادي أو التحذير بالقتل، فالأمر قد يحمل المعنيين.

خضع الشرق لأبي العباس، ولكن الخليفة الأموي مروان بن محمد كان يستعد لملاقاة هذه القوة الجديدة بينما عسكر جيش آخر في منطقة أخرى بالعراق تحت إمرة زيد بن عمر بن هبيرة، أحد صناديد العرب وقوادها العظام، وعلى الفور استنفر السفاح ووزع القيادة الجديدة على أهله وأعمامه، وهو أمر معروف في الثورات، حيث يتم تثبيت أهل الثقة ورفعهم فوق أهل الخبرة، خاصة في المسائل العسكرية، وإذا ما كان بقاء الدولة على المحك، فأمر عمه عبد الله بن علي لمواجهة مروان بن محمد، بينما بعث أخاه أبا جعفر المنصور ليتولى قيادة الجيش المحاصر لقوات ابن هبيرة في واسط بالعراق، وبالفعل هزم الخليفة الأموي في معركة «الزاب» على ضفاف أحد روافد نهر دجلة، واستمرت جيوش أبي العباس تستولي على مدن الشام الواحدة تلو الأخرى، وهزم مروان مرة أخرى في معركة «بوصير» في بني سويف بمصر، وقطع رأسه وأرسلت للخليفة، وبموته انتهت الدولة الأموية رسميا واستتب الأمر لأبي العباس. وفي واسط رأى ابن هبيرة عدم جدوى استمرار القتال بعد موت مروان بن محمد وانقضاء الدولة الأموية، وبالفعل جرت المفاوضات بينه وبين المنصور حتى كتب له الخليفة صلحا عظيما، ولكنه نقض العهد بعد ذلك وأجبر المنصور على التخلص منه، فغرروا به ووضعوا له المكيدة وقتلوه وهو ساجد، فالرجل لم يكن على استعداد لأن يترك لفلول الأمويين ذيولا، رغم أنه كتب لهم العهد، ولكن عند تشييد الدول كثيرا ما تحدث مثل هذه الأمور للأعداء والحلفاء على حد سواء، غير أن هذه لم تكن شيمة أبي العباس إلا لمن توجس فيهم الخطر، فالرجل لم يغفر لأبي سلمة الخلال خيانته له، فبعث لسيف دولته أبي مسلم الخراساني رسالة تضمنت ضرورة القضاء على الرجل؛ لأنه لم يعد مصدر ثقة، ويمكن أن يهدد سلطان الدولة الناشئة، ومرة أخرى نقض أبو العباس عهده في سبيل دولته، فقتل الخلال وعلق دمه على الخوارج.

تورد بعض المصادر التاريخية أن عمال أبي العباس تفننوا في القضاء على من تبقي من بني أمية، بل يورد المؤرخ ابن الأثير أن عمه عبد الله أحضر ما يقرب من تسعين أمويا وأمر بقتلهم، فغطاهم وجلس يأكل غداءه على جثثهم وبعضهم لا يزال تزهق روحه، حتى إن الشعراء كانوا يخرجون بأبيات شعر تؤيد هذه المجازر، منها قول أحد الشعراء:

جرد السيف وارفع العفو حتى لا ترى فوق ظهرها أمويا ومن الطريف وجود شخصيتين بالاسم نفسه كان لهما أثرهما الكبير على مستقبل أبي العباس ذاته، الأولى هي شخصية أبي سلمة الخلال الذي سبق ذكره، ولكن الثانية هي أم سلمة زوجته التي ترجع أصولها إلى بني مخزوم أحد أعرق بطون قريش نسبا، فهي التي رأته وأعجبت به وتزوجته، بل يقال إنها هي التي دفعت مهرها له لأنه كان فقيرا، وقد ظل الرجل قريبا منها إلى أن مات ولم يتزوج عليها أو يعاشر الجواري الحسان برغم وجود من كان يسعى لدفعه في هذا الاتجاه، وقد كانت شخصية قوية جدا، وكان لها تأثيرها الكبير عليه كما ذكرت كتب التاريخ، بل إنه قد لا يستبعد أن تكون أم سلمة أكبر منه سنا.

لم يدم حكم أبي العباس إلا أربع سنوات فقط، حيث وافته المنية وهو في مدينة الأنبار وهو في الثانية والثلاثين بسبب مرض ما أصابه، ولكنه ترك دولة جديدة فتية واضعا لبناتها الأولى بشكل دقيق للغاية، كما أنه لم يشذ عن سلوك بني أمية، فعقد البيعة لأخيه المنصور من بعده لأن أولاده كانوا صغارا، فلم يكن الرجل على استعداد لتعريضهم للقتل على أيدي أعمامه وإخوته، خاصة أن أخاه المنصور كان من أقرب الناس إليه، وهكذا بدأت الدولة العباسية، ولكنها كانت بحاجة إلى رجل قوي يستطيع أن يثبت دعائهما ويقوي بنيانها، فكان هذا الرجل هو أبا جعفر المنصور كما سنرى.

الشرق الاوسط

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..