جولة من خلال النقد والأدب والرواية والواقع

د. صابر عابدين أحمد

إعـتدال الفـصـول
و”إعتدال الفصول” مقولة خالدة ، وخلدها الغجري الإسطوري مليكاديس ، احد شخوص ملحمة الكاتب العملاق غابرييل غارسيا ماركيز ، (مائة عام من العزلة) ، وهنا نتوقف مع هذه الجملة مع الغجري الحكيم ، إذ كان كثيراً ما يرددها في حركة حياته ونشاطه اليومي “إعتدال الفصول” ، وهو الرجل صاحب التجارب والخبرات المتراكمة وهو صاحب السنون والتي زادت عن المائة وعشرين ، والذي جاب الأرض من أقصاها إلى أقصاها ، متجولاً يحمل سحره ومغنطيسه ، وتجده يقول أيضاً: لقد مت من الحمى في مستنقعات سنغافورة ?- وهكذا وعلى ذات المنوال تأتي هذه الجملة (إعتدال الفصول) فماذا يا ترى كان يقصد مليكاديس بها ؟ وهل كان يقصد الأجواء والمناخات والطقس ؟ والطبيعة ام يقصد الاهواء والمزاجات والنفس البشرية ؟ ام يقصد تأثير الأولى على الثانية ؟ ?
وغالباً ما كان يرمي (مليكاديس) من وراء الجملة الى إعتدال المزاج الإنساني ، ولحظة صفائه ، وقمة نبوغه وإلهامه ، وقدرة الكائن البشرى على إختراق قوانين الطبيعة وترويضها ، بسلاح المعرفة ، ففي إيماءة من إيماءاته المثيرة والصاخبة يقول ماركيز عن مليكاديس وعشيرته حينما انقطعوا عن الحضور لقرية “ماكوندو” مسقط رأس العقيد الثوري “اورليانو بوينديا” ، وكان مليكاديس وأهله من الغجر مترددي الحضور لها ؟ .
يقول ماركيز نقلاً عن الغجر الآخرين (لكن أهل الرحلات رووا ان قبيلة مليكاديس زالت عن وجه الأرض لأنها تجاوزت حدود المعرفة الإنسانية) .
وإعتدال الفصول ، او إعتدال المزاج للإنسان وكذلك يشمل كل الاحياء ، إنما هو حالة تعتري الكائن الحي متى ما كان الطقس معتدلاً والمناخ لائقاً مع الوجدان البشري وملبياً إحتياجات الجسد البيولوجية ، وتتوفر فيه كل العناصر الداعمة للحياة والنشاط وانتفت العناصر المثبطة والمحبطة ، فيبدو الكائن مندغماً مع هذه الحالة ، ويمكن لاي فرد ان يحس بهذه متى ما كان الجو ربيعاً ومعتدلاً ، لا هو بالحرارة المرتفعة ولا بالبرودة الشديدة ، وإنما سمته وطابعه الاعتدال والصفاء مشبعاً بالأكسجين المنعش والمغذي للروح والجسد ، وصار اكثر جاهزية للإبداع والعمل والحيوية ، وصار منتجاً وفاعلاً لحدوث النمو والتطور بل يتوقع الطفرات والقفزات الهائلة في حركة الحياة والكون .
لو نظرنا لحالنا وواقعنا الماثل والراهن في سوداننا الحبيب ، ونسبةً لتأثير الطقس ، وارتفاع درجة الحرارة وسطوع الشمس ، نجد الكثير من النرفزة وشد الأعصاب ، والتوتر والقلق ، هنا بالإضافة إلى ضغط المعيشة اليومي وتدهور الخدمات وتردي بيئة العمل وتتبدى هذه العصبية والتي تصل درجة الحماقة ، أول مما تتبدى في الشارع العام وفي المواصلات ، واكثر ما نلحظها لدى سائقي الملاكي ، وكمية المشاحنات التي تحدث فيها بينهم ، وعادى ان تشاهد كمية العربات المتوقفة على طول الشارع وعدد البشر الواقفين في الشكلة والسخط والسب من شاكلة (يا اخي الشارع دا انت مشتريه ) أو (أيوة الشارع دا حق أبوي ) .
ليتدخل رجل المرور ويعمل “جودية” لحل المشكلة- يتم كل هذا دون مراعاة لحق الآخرين والذين لا علاقة لهم من بعيد او قريب بالمشكلة ، كل ذنبهم انهم كانوا خلف أحد الحمقى -، هذا إذا لم تصبهم “بونية” أو “شلوت” او “منفلة” عربة طايرة بالخطأ، يحدث هذا كله ولنا قانون عتيق للحركة والمرور ? .
وعلى ذات الشاكلة نجد الكاتب الروائي الليبي إبراهيم الكوني في رائعته “المجوس” والتي يذهب فيها في وصف الصحراء وساكنيها من قبائل “الطوارق” عبر عمل إبداعي متميز ، والرواية مكونة من ثلاثة أجزاء ، يركز فيها على عادات وطباع هذه القوميات ، وبصورة أخص مجموعات “التبو” أو “القرعان” ، وعاداتهم الطقسية والتراثية ، والكاتب إبراهيم الكوني يمتاز بالوصف الدقيق والنقل الحي للمشاهد وتصويرها تصويراً رائعاً مدهشاً ، عندما تقرأ له لا تحس بمتعة القراءة فقط ، وإنما كأنك تشاهد فيلماً روائياً أمامك من شدة دقته في نقل الوقائع المعاشة ، ولبراعته في نقل صور الحياة الصحراوية ، وإرتباطاتها بحركة الطبيعة ، والمناخ من حيث الجفاف والمطر ، وحيث تمثل “الماء” الإعتدال هنا ، فمتى ما توفر اخضرت الأرض وأثمرت وابتهجت ويقول في مقطع من المجوس الجزء الثاني : (كلما نالت الحمادة أمطاراً في الخريف ، وأخرى في الشتاء ، بكر الربيع بالحضور وأحس آده ، في هذه البقعة الإلهية ، انه قريب من باب السماء ، ومن يستطيع ان يقول ما عجز ان يقوله دائماً : الشعر ! ) .
فالشعر هو غذاء الروح في الصحراء ، ولذا فهو رديف الإعتدال الربيعي ، ولذا ربطه الكوني بموسم الأمطار والرخاء – إبراهيم الكوني وصف الصحراء ، وتعلقت كل كتاباته حولها ، وعندما يصف الصحراء ، تشعر أنت بحرارتها ، ورملها الحارق ، والعرق ينزف منك ، وتحس بالظمأ يجتاحك ، والكوني كان يعيش في المنفى أيام العقيد القذافي ولا أدري أين هو الآن بعد الثورة الليبية ؟ وتحدث عن الصراعات الثقافية في منطقة الصحراء وحزام السافنا ، بين قبائل البدو الطوارق على حافة الصحراء والقبائل الزنجية من بامبارا وغيرها . وعن مدينة “تمبكتو” المعروفة بمدينة الذهب والتي كما وصفها الكوني بانها تعرضت للغزو من الحلف الثلاثي الزنوج وبني أوى والجن أو (الإنس ، الجن ، الحيوان) ، وسبب الغزو انه وبسبب نقص المجموعات المسيطرة على تمبكتو ومدن الشمال للاتفاق الموقع مع الجن بشأن عدم التعامل بالذهب ، ولكن اهل تمبكتو حنثوا العهد واقاموا المناجم ومشاغل لصياغة وحدادة الذهب ، الرواية توضح بجلاء الصراع بين القوميات والمعتقدات ، وحتى المفاهيم السائدة وبينما تسيطر الصوفية وخاصة الطريقة التيجانية على المشهد ، ولكن يأتي بين الحين والآخر دعاة الآيديولوجيا ومن يدعون الحكم باسم الله ، وينصبون انفسهم ظلاً لله تعالى على الارض ، وما حدث في الآونة الاخيرة بجمهورية مالي، إنما كانت بداياته في سرد ورواية الكوني “المجوس” وكيف لجأت المجموعات الأصولية السلفية المتشددة بتدمير الاضرحة الصوفية وحرق كتب علماء الدين الإسلامي ، وولت الأدبار أمام الآلة العسكرية الكافرة ، ولقد تمنيت ان يكون الكاتب إبراهيم الكوني مشاركاً في أيام جائزة الطيب صالح العالمية .
ولقد شهدنا إحتفالات شركة زين للاتصالات باحتفالات الجائزة ، وحضور عدد من الكتاب والأدباء العرب الذين أثروا المهرجان الذي اقامته زين ، احتفاءاً واحتفالاً بجائزة الكاتب السوداني الراحل الطيب صالح ، وفي الحقيقة أصبحت “زين” تلعب دوراً كبيراً في العمل الثقافي ، بل ونجد ان هناك مؤسسات عريقة تحسب على العمل المعارض ، صار من المعتاد ان تجد عبارة (زين ترعى الثقافة) تزين امسياتهم ، وزين بدأت تلعب دوراً اكبر في غياب مؤسسات الدولة الرسمية وعلى رأسها وزارة الثقافة ، فالاحتفال بالعلماء والأدباء والشعراء والفنانين والمبدعين السودانيين وحتى تكريم “الطيب صالح” أو “محمد عبدالحي” هو من صميم أعمال وزارة الثقافة السودانية ، وزين شركة تعنى بالاتصالات وليس من مهامها العمل الثقافي ، فهي غير متخصصة ، وعلى كل حال لها أجر المجتهد ، هناك آراء كثيرة حول شكل التحكيم وطريقة إدارته وتكوينه ، وحتى شكل الجائزة ومشاركة الولايات غير ولاية الخرطوم والجزيرة ، ففي كل هذه المكونات نجد ان هناك إجحافاً في حق الأديب السوداني وفي حق الشباب السوداني ، وخير مثال لما نقول ما حدث في جائزة النقد والترجمة فلقد شكل النقاد السودانيون غياباً عن جائزة النقد ، والنقاد الفائزون اغلبهم من المغرب العربي وهم متقدمون علينا في هذا المجال ولقد قدموا أعمالاً رائعة ونالوا الجائزة بلا شك.
ولكن هنا يبرز سؤال هل الأعمال المقدمة لنيل الجائزة هي أعمال تقدم لأول مرة ام انهم نالوا بها شهادات أكاديمية ماجستير ودكتوراة من قبل جامعات بلادهم ؟ لأنه حسب علمي المتواضع من شروط الجائزة ان تكون الاعمال المقدمة لم تقـدم من قبل – هذا يقودنا لضرورة قيام لجنة فنية مهمتها تقصي وفحص صحة الأوراق والأعمال المقدمة ، لان هناك كتاباً سودانيين ونقاداً لهم أعمال نالوا بها شهادات أكاديمية ولذا لم يقدموها للجائزة ، والنقطة الثانية هي ان صاحب الجائزة سوداني الأصل ، والمكان الذي تقام به الاحتفالية هو السودان ، وعلى ما اعتقد ان أموال الجوائز كذلك سودانية جمعت من الذين ينامون بلا عشاء حتى يكون لديهم رصيد في موبايلاتهم وغيره فلماذا لا يكون هناك تمييز وتشجيع للشباب والشابات السودانيات . والنقطة الاخيرة هي انه لابد من الاعتراف بخصوصية العروبة في السودان ولا داعي للشطط والإفراط في مقولة نحن عرب العرب ، والحديث المعتدل هو ان لعروبة أهل السودان “خصوصية” تميزه عن غيره ، وهذا يقودنا إلى المناهج واللغة المستخدمة ، وليس بالضرورة ان تكون لغتنا مثل لغة أية مجموعة عربية تعتبر مرجعية ، وإن عاميتنا السودانية تميزنا عن غيرنا ، وينبغي ألا تصيبنا أية عقدة جراء ذلك أو إحساس بالدونية ، إنما بالعكس ان يعترينا إحساس بالفخر والإعزاز.

الصحافة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..