خطوتان للخلف..!!

حيدر إبراهيم علي

يلاحظ المتابع لتاريخ السودان المعاصر تدهورا غريبا في تراجع كل ما هو سوداني.وكثيرا ما أسأل نفسي: ما المعضلة هل ترك السودانيون مستقبلهم خلفهم؟ هل قرر السودانيون أن يكونوا أمة بلا غد؟ ولماذا تراجع السودانيون الذين كانوا يبشرون بالاشتراكية والدولة الإسلامية وبالسودان جسر التواصل بين افريقيا والعرب وبين الإسلام وبقية أديان أفريقيا ؟

فهو يقدم الآن نموذجا للصراع القبلي الحديث ويشغل العالم بالمسيرية والدينكا ـ نيقوك.ولأول مرة في تاريخ الدبلوماسية الحديثة يتم تحكيم دولي بين قبيلتين محليتين في وطن واحد بلاهاي، وقبل ذلك خصصت اتفاقية دولية هي اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) 2005 بندا يحدد نصيب قبيلتي المسيرية والدينكا نقوك من دخل النفط.فقد نصت المادة (3) من الفصل الرابع على تخصيص اثنين في المئة (2%) من صافي عائدات البترول المستخرج من منطقة ابيي خلال الفترة الانتقالية، لإقليم بحر الغزال ولغرب كردفان ودينكا نقوك وشعب المسيرية ويعادل في مجمله8% من الايرادات العامة.

هذا تكريس فاضح للانشقاقات والصراعات القبلية أقرته اتفاقية شهد عليها وضمنها اغلب العالم بالذات الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وهولندة وفرنسا والدول الاسكندنافية بالإضافة لدول الايقاد وجامعة الدول العربية.

هناك سؤال ظل قائما بلا إجابة، وهو طالما اكتسب هذا الاتفاق صفة الشامل واخذ هذا الوقت الطويل، فلماذا تم استثناء في بروتوكول خاص منطقة ابيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق؟ هذه من الانتقادات الهامة التي وجهت للاتفاق ولكن كانت هناك قوى في عجلة من أمرها كانت تريد إغلاق هذا الملف سريعا لكي تتفرغ للعراق وأفغانستان.

وسوف يتبين أن اتفاق نيفاشا هو احد أخطاء الاستراتيجية الأميركية الكبرى في المنطقة.فقد شجعت أميركا ثنائية الاتفاق وكأنها كافأت حملة السلاح في الصراع السوداني كما ساهمت في اختزال الصراع شمال جنوب بينما هو الأزمة السودانية الشاملة. ورغم محاولة الاتفاق أن يتسع لمشكلات الأزمة السودانية حين أقر بضرورة التحول الديمقراطي وتقسيم السلطة والثروة، ولكنه اخطأ في تحديد الوسائل حين حصر السلطة خلال الفترة الانتقالية في يد الشريكين، المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير ثم استطاع المؤتمر الوطني احتكار السلطة فعليا وبقيت الحركة الشعبية شريكا رمزيا.

واكتفى الاتفاق بوقف الحرب والقتال دون أن يذهب بعيدا لانجاز التحول الديمقراطي ولكن الغرب وعلى رأسه أميركا رضي بهذا القدر.وتحول الاتفاق إلى إجراءات شكلية خاوية المضمون وهذا يفسر قبول الغرب نتائج انتخابات ابريل الماضي رغم كل العيوب والخروقات طالما سوف تمهد الانتخابات للاستفتاء والذي توحي كل المؤشرات انه لن يقل سوءاً عن الانتخابات الماضية.

رغم انني ارفض بلا تحفظ نظرية المؤامرة في تفسير التاريخ والأحداث، إلا أن التطور الحالي لازمة ابيي ولما فيها من الافتعال وقصر النظر وسوء التقدير، يحس بقدر كبير من الخبث وسوء الطوية وان الأمور لا تسير على طبيعتها.فقد ظلت ابيي طوال تاريخها تمثل الأمل في نموذج للتعايش السلمي والمصالح المشتركة والوحدة الوطنية.

ولكن الآن يدور الحديث عن«كشمير سودانية»،والقنبلة الموقوتة.ويتعمد الإعلام ان يقرن حديثة عن ابيي بترداد صفة :الغنية بالنفط،وكأنه يذكر ضمنا اسباب الصراع.وهذا تزييف للوعي وتمرير لمعلومة مضللة، اذ أن كن إنتاج ابيي من النفط حاليا لا يتعدي 2500 (ألفان وخمسمائة برميلا) ومستمر في النضوب والنقصان.والاهم من ذلك لا يتعرض الكثيرون إلى تاريخ منطقة ابيي ولا إلى كيف كانت العلاقة بين المسيرية والدينكا نقوك منذ قرون؟وهذه محاولة البعض كتابة تاريخ جديد للعلاقة يهدف إلى تعميق الخلاف وتبرير العداوة المتزايدة راهنا وغمر ذلك التاريخ المضئ.

ففي مذكرات بابو نمر زعيم المسيرية والتي كتبها فرانسيس دينق الدينكاوي، ولهذه المسألة قصة تظهر المودة والتقدير بين الطرفين.فيقول فرانسيس انه أثناء إجراء مقابلة مع بابو نمر لكتاب عن والده دينق ماجوك.قال له بابو نمر: «أنت يريد كتابة قصة أبيك، فمن الذي سيكتب قصتي أنا؟» فأجبت فورا سأفعل الاثنين، وأنني سأبدأ حقيقة بكتاب عنه.

ونظرا لعلاقته مع والدي وللصلات الأبوية التي نمت بيني وبينه، قصد الناظر بابو أن يجعلني أدرك أنه يعتبرني مثل ابنه.وهذا تنصيص لكلام الرجل الذي يشارك في وضع السياسة الأميركية تجاه السودان. فماذا دهى السودانيون؟ ويتساءل فرانسيس دينق حائرا قي مقدمة الكتاب: «ولكن، هل فات الأوان لكي يسترد دينكا نقوك وعرب الحمر صلات الجوار الطيبة، أو هل يستطيعون العودة إلى عهود الناظر بابو نمر ودينق ماجوك الذهبية؟(…) مقابلة مع كبار رجال الدينكا حول ماضي وحاضر ومستقبل شعبهم كنت أقول ـ على سبيل المجاز ـ بأن الشجرة،ذات الجذور العميقة، يمكنها أن تقاوم حتى الرياح العاتية، بينما الشجرة ذات الجذور الضحلة تسقط بسهولة أمام الرياح العادية».

بدأ المتعلمون من الدينكا والعرب يضيقون من تقليدية وتخلف العلاقة، ولكن بابو نمر يخاطبهم بحكمة أعمق من تعليمهم، يحكي: «.. أنا في مؤتمر كادوقلي لمن أنا بتكلم مع أولادنا، بقول ليهم… نحن ابهاتنا خلو لينا بيت ظليل ودخلنا فيه. ولكن كان في ضي متل ده، وانتم تعلمتم تسدوه واللا تشتتوا البيت تشلعوه فوقنا؟ انتم أولادنا اللي تعلمتم، نحن داير كان في خلل تسدوه لينا. لان البيت ظليل.بنوه جدودنا وبنوه ابهاتنا، ونحن لقيناه وقعدنا فوقه.فالعلاقة قديمة» (ص42)

كانت القاعدة هي تعايش المجموعتين بل في بعض الأحيان فضل ديتق ماجوك البقاء مع العرب في الشمال وكانا مع بابو نمر يتبادلان مقعد المجلس المحلي.ولكن التاريخ ليس ثابتا ولايعيد نفسه والأكيد انه يتقدم للأمام. والوضع الحالي فيه كثيرا من المفارقات والتناقضات التي تجبر المرء على التساؤل: هل يتقدم ويتراجعون سريعا إلى الخلف؟ ففي خلال هذا الأسبوع تجمع «أعيان منطقة ابيي من عشائر الدينكا نقوك» وهددوا بمنع رعاة قبيلة المسيرية العربية من دخول ابيي والبقاء فيها.

وأصدروا توصيات هي اقرب إلى الإنذارات. جاء فيها: «امهال الشريكين حتى نهاية هذا الشهر من اجل التوصل إلى حل نهائي ينهي معضلة ابيي. وان الفشل في التسوية سيدفع بقيادات البلدة إلى تنظيم استفتاء آحادي الجانب».كما قرر المؤتمر عدم السماح لرعاة المسيرية ابتداء من الصيف الرعي في مناطق الدينكا. واعتبرت التوصيات أن الحديث عن التعايش يعبّر عن ضعف الدينكا، وأكدت استعدادهم لتحمل تبعات منع المسيرية واستعدادهم لأي تطورات.

تعد هذه السنوات من التعليم والاحتكاك بالعالم وكسب العارف، تتصرف النخب في الشمال والجنوب بكثير من الحماقة.بينما يقول لنا التاريخ كيف كان يتصرف أجدادنا بحكمة فائقة فابقوا الوطن موحدا. والآن يرقص الجميع رقصات الحرب والانفصال ولكن الغريب أن ليس بينهم من يملك شجاعة تحمل المسؤولية التاريخية والأخلاقية لما هو قادم. واقبل بعضهم على بعض يتلاومون.

أبيي ـ السودان.. خطوتان للخلف

البيان الاماراتية

تعليق واحد

  1. انت يا دكتور حيد وكثير من المثقفين امثالك جزء من الازمة السودانية وانت انسان عنصري بغيض

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..