في رحاب الله….. الناظر عبد الباقي محمد

وما كان قيسٌ هلكهُ هلكُ واحدٍ * ولكنهُ بنيانُ قومٍ تهدما
إذا ذكر اسم الناظر عبد الباقي محمد ، هكذا، عرف الجميع من المقصود؛ ذلك لأن من أشتهر به رجل فذ، ومعلم فاضل تخرجت على يديه أجيال متعاقبة من العباقرة والقادة وكبار المفكرين، بل إن من طلابه من كان رئيساً للسودان مثل المشير جعفر نميري، والرئيس عمر البشير، والشيخ الدكتور حسن الترابي، والأستاذ علي عثمان، ووزراء كثر. ولكن ريب المنون لا تترك أحداً على ظهر هذه الفانية، فقد رحل عن دنيانا أستاذ الأجيال عبد الباقي محمد، صبيحة الجمعة، الموافق الحادي والثلاثين من شهر يناير2014، ألا رحمه الله رحمة واسعة، بقدر ما قدّم لأبناء هذا البلد من نصح وإرشاد وتعليم وتربية. وقد نعاه طلابه المنتشرون في بقاع الدنيا، فها هو البروفسور عثمان الحسن يقول في مجلس العزاء، وهو يكفكف دمعة حرى سالت على خديه وقد خنقته العبرة حزناً: ( لقد كان الناظر عبد الباقي محمد مثالاً للأمانة والاستقامة والإخلاص والصرامة). أما سعادة السفير أسامة محجوب، أحد طلابة بمدرسة خور عمر الثانوية فيدلي بقوله:( لقد جادت لنا الأيام برجل نادر علمنا الجد والإجتهاد والإعتدال والأخلاق الحميدة والتعاون، فقد كان يتميز بالخلق النبيل وحب الوطن والإخلاص في عمله ورسالته؛ فتخرج في ذلك الصرح العظيم، رجال أكارم تربوا على يدي الناظر عبد الباقي محمد، وها نحن نرفع أكف الضراعة ونبتهل إلى الله أن يجعل منزلته في أعلى عليين، مع الصديقين والشهداء والنبيين وحسن أولئك رفيقاً). ويقول عنه د.الريح دفع الله (مر بخاطري سمته وهو يرشدنا ويهدينا في حصة الإرشاد التي كان يخص بها أبناء الصفين الأول والثالث. وتسمية الحصة بحصة الإرشاد غاية في الدقة والروعة؛ لأننا قد كنا ولا نزال بحاجة ماسة لعلمه وإرشاده. كان يخاطب فينا المستقبل بخبرته وحنكته وإخلاصه؛ فهو بلا شك الشخصية الأسطورية التي أمسكت بتلابيب الماضي لتنير الحاضر وتبني المستقبل بالعلم والبصيرة اللتان حباه الله بهما، وهذه الصفات قلّما تجتمع وتتوفر لدى شخص واحد عبر الزمان.(
من جانبها كانت نهلة حسن مهدي العوني، أم أحفاده، تنتحب وقد راعها الهول وهزتها المصيبة، وهي تقول لي بالحرف الواحد: ( لقد رحل خالي يا أبا حسن وترك ثلمة يصعب سدها، فقد كان في آخر إتصال معه يوصيني بأولادي خيراً وهو يقول: علميهم وربيهم فهم رصيدك). يا إلاهي! كم أعجب لهذا الرجل وحرصه على التربية والتعليم لدرجة أنه يوصي بهما وهو على فراش الموت، وهذا مؤشر ودليل، بل هو سر نجاحه في تجربته التربوية الثرة، فقد كان النجاح حليفه أينما حل في مدرسة، معلماً أو ناظراً، فقد عمل في حنتوب ومما يحكى عنه أنه أمر بترحيل قرية كانت بجوار المدرسة عندما علم أن طالباً قد عاقر الخمر هناك، فما كان من سلطات المديرية إلا أن استجابت لأمره، ومن يا ترى يعصي أمراً للناظر عبد الباقي محمد. كما عمل بخور طقت وما زالت ذكراه خالدة في أذهان من عاصروه في هذا الطود العظيم. ثم نقل ناظراً إلى الفاشر الثانوية، وقد كانت مدرسة مستحدثة خاملة الذكر، فحكى لي كيف استطاع خلال فترة وجيزة أن يجد لها مكانة بين كبريات المدارس العريقة في السودان؛ حتى تخرج فيها أدباء وشعراء ومعلمون حملوا لواء المعرفة في ذلك الجزء الغالي من بلادنا الحبيبة. ومن قبل عمل الناظر عبد الباقي بوادي سيدنا الثانوية وكانت له فيها أيام لها إيقاع خالد إذ لم يزل طلابه الذين تخرجوا منها يشغلون مراكز متقدمة في الدولة، في المجالات كافة التنفيذية والسياسية، وفي سلك التعليم الجامعي والعام.
لقد كان الناظر الراحل يؤمن بنظرية تجمع بين التعليم الكمي والنوعي حتى تتاح الفرصة لأكبر عدد من الطلاب مع إعطائهم قدراً كافياً من التعليم والتربية التي تقوم على أساس متين من الفكر والقيم والوطنية. ولا غرو في ذلك إذ ينتمي أستاذنا الراحل إلى جيل العمالقة من التربويين الذين وضعوا لبانات راسخة للتعليم في السودان، ولو أننا سرنا على دربهم وخطاهم لما أشتكى أحد من تدهور في مخرجات التعليم، ولكننا تنكبنا ذلك الطريق الذي خطه الأولون فلا نلوم إلا أنفسنا! فلم نعد نسمع عن خورطقت ولا حنتوب ولا الفاشر الثانوية أو وادي سيدنا وخور عمر، فقد صارت كلهاجزءاً من التاريخ، فأصاب التعليم ما أصابه.
لقد كنت أمني نفسي بأن أوثق لحياة هذا الرجل العظيم؛ ففي آخر زيارة له للرياض إتفقنا أكثر من مرة مع ابنه التجاني على تسجيل حلقات توثيقية، إلا أن ظروف الأستاذ الصحية قد حالت دون تحقيق ذلكم الحلم الكبير، بالرغم من أنه كان حاضر الذاكرة مع تقدم السن، فقد كان يحكي لنا عن أيام صباه الباكر وهو يشق طريقه نحو رفاعة الأولية ومنها إلى كلية غردون، مع العلم أن والده كان يريد له أن يصبح شيخاً يعلم القرآن في مسيد جده الذي سمي عليه. عموماً، لم يبتعد الراحل عن أمنية والده، بل كان قدره أن يكون أكثر نفعاً، حتى وصل خيره وعلمه إلى كثير من ابناء السودان في الشرق والغرب والوسط.
سيادة الناظر سنظل نذكرك كلما تحدث مجلس عن التعليم، وسيبكي لفراقك كل أهل السودان من المندرة والهلالية وبرنكو شرقاً، إلى الأبيض وبارا والبشيري غرباً، مروراً بشمبات في الوسط؛ فقد كنت علماً على رأسه نار، وأضأت الطريق لكثيرين من أبناء بلدك الذين نهلوا من عذب موردك تعليماً وتربية ونصحاً وإرشاداً. وأخيراً نقول لمن يعرفون الناظر عبد الباقي محمد: (نوحوا وأبكوا عليه زين وأربكوا) فهذا رجل قلّ أن يجود الزمان بمثله، وإنا لفراقه لمحزونون ولكنا لا نقول إلا ما يرضي الله، وعزاؤنا موصول لأبنائه الكرام ولطلابه، سائلين الله له الرحمة والمغفرة ، وإنا لله وإنا إليه راجعون، فكل نفس ذائقة الموت.

تعليق واحد

  1. شكرا على المقال ولكن ينقصه جوانب توثيقية كثيرة مثلا إسمه الثلاثي وأين ولد ونشأ ؟ وأين تقلب في مراحل تعليمه المختلفة؟ وماذا كان يعمل في مدينة الرياض؟

  2. شكرا على المقال ولكن ينقصه جوانب توثيقية كثيرة مثلا إسمه الثلاثي وأين ولد ونشأ ؟ وأين تقلب في مراحل تعليمه المختلفة؟ وماذا كان يعمل في مدينة الرياض؟

  3. لهم الرحمة وللاخ التجاني والدكتور محمد حسن العزاء فقد عظيم لرجل عظيم فارقنا ولكن ترك لنا ارث كبير من العلم . العزاء موصول لطلابه في الفاشر وحنوب وخور عمر الذي كان احد الاركان المؤسسين لها . نسال الله ان يتغمده برحمتة ويدخله فسيح جناته مع الصديقين والشهداء . شكرا ود الناظر ولكن زي ماذكر الاخ جاكوزي الامر يحتاج لمزيد من التوثيق

  4. رحم الله الشيخ الجليل الدكتور عبد الباقي رحمة واسعه واسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا فقد قدم للبلاد والعباد سلسلة متعاقبة من العلماء والرواد في شتى ضروب العلم والمعرفة والتعزية موصولة لأبنائه حملة مشاعل العلم والمعرفة الاستاذ الصحفي التجاني عبد الباقي واخوانه حفظهم الله ولأحفاده وطلابه المنتشرين في اصقاع الدنيا .

  5. شكرا على الإهتمام والتنوير يا أخ ناير Nayer تغمد الله الفقيد بواسع رحمته وأدخله فسيح جناته على ما أعطى من علم نافع يستفاد به

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..