السّماء من نافذتي الصّغيرة

بروين حبيب
تستيقظ صباحا بمزاجك الخاص. ثمة أوجاع في ذاكرتك، وأخرى في قلبك وأخرى أعمق، تكاد تراها مثل الطحالب اللاصقة بروحك، تنظر للسماء فترى مزاجها الجميل. كل يوم يختلف عن سابقه، كل لحظة تختلف عن سابقتها.
شكل الغيمات يتغيّر، ألوانها، حركتها، وكل تلك الصور التي ترسمها مع هبوب الهواء.. لا شيء أجمل من تلك اللوحات المتعاقبة وهي تصنع فرجتنا اليومية، حتى الزرقة ليست دوما نفسها. لقد أحببت دوما زرقة سماء البحرين واعتبرته الأزرق الحقيقي الذي يحمل معنى الكلمة. غيري يرى أزرق بلاده أكثر صدقا من الحقائق كلها. يحدث طبعا، فعيوننا لا ترى الأشياء كما تراها الكاميرا، ولهذا فالصورة الواحدة لها مئات الألوان والأشكال والقراءات، تماما كالسّماء التي نطل عليها يوميا قبل بدء أيامنا. مزاج السّماء فيه سر القصيدة التي قد ترسل جيشا بأكمله للقتال، كما يمكنها أن تكسر رجالا بحجم ناطحات السحاب، أو تصنع فرحا بحجم كرنفال. يمكن أن يكون الكلام مجرّد وجهة نظر، لكن أليس منا من يكتئب حين تتلبد السماء بالغيوم؟ فيما آخرون يبتهجون؟ أليست السّماء عصا سحرية تتحكم في أمزجة النّاس حسب تركيباتهم المختلفة؟ السر الأجمل هو أن النظر للسماء ليلا حين تكون مرصّعة بالنجوم علاج سحري للاكتئاب وأنواع الإحباط التي يعاني منها كثيرون.
تماما كما في ليالي الصيف التي كنا نقضيها على سطوح البيوت طلبا للنسائم التي تلطف الجو، علينا أن نتسطّح على ظهورنا ونسترخي لنتأمل عظمة الخالق في ما خلقه من كواكب ونجوم?
طريقة التأمل تلك، مع سيول الأسئلة المستحيلة التي تتدفق على أدمغتنا لن تكون سوى الوسيلة الأنجع للابتعاد عن دوامتنا الحياتية اليومية التي تجعلنا نعلق في فخاخ صغيرة وتافهة. السّماء ضخمة، ولشدة عظمة حجمها، تجعلنا نشعر بحجمنا الحقيقي في ملكوت الله، وأمام تلك العظمة واتساع الصورة أمامنا، نزداد إيمانا بأننا بين أيدي الخالق ولسنا نردا ضائعا.
السّماء المرصّعة بالنجوم، قصيدة أخرى.. ليست لأنها فائقة الجمال، بل لأنها تفجّر الكلام الجميل فينا، والمشاعر الأجمل في قلوبنا. بالطبع كل ما يحيط بنا من مكونات الطبيعة يحرّك فينا أوتار العزف كلها، لكن تحديدا نحن نصبح أكثر هشاشة حين ننظر إلى السماء. نعتقد بكل اللغات والديانات والمعتقدات المتزنة منها وغير المتزنة، أن عرش الخالق هناك في السماء.
نرفع رؤوسنا ونناجيه، وثمة سر يجعلنا نفعل ذلك، فنحن أمّة مثلا تعلمت السجود لله، لكننا نشعر بأننا أقرب لله حين نرفع أيدينا وأعيننا نحو السماء. ما السر في تلك الزرقة؟ ما السر في ذلك الظلام المزين بالأنوار اللامتناهية في العدد؟ لا تفسير لكل تلك المشاهد الأخّاذة حتى ونحن نقرأ ما يقوله العلم. كل الأقاويل الأكاديمية تموت أمام فطرتنا البشرية، إذ لا أعتقد أن عالم فلك حقيقيا قد يقف أمام مشهد سماء بنفسجية في الشتاء لامباليا، بكل أكوام تفسيراته العلمية، تبقى عظمة مزج الألوان بتلك اللحظة سرا لا تفسير له.
السّماء جميلة حتى حين ترعد وتبرق وتمطر.. ويقال إن الدعاء يكون مقبولا حين تكون الأمطار منهمرة. إلى أي مدى هذا الكلام صحيح؟ هذا ما يبدو منطقيا للبعض وغير منطقي للبعض الآخر، لكن الجميع متفقون على أنّ الدعاء يصعد إلى السماء ولا ينزل لأعماق الأرض، نؤمن بذلك مع أننا في الغالب ومنذ سن مبكرة نجحنا في دروس الجغرافيا، ونعرف جيدا أن الأرض كرة تجري في الفضاء، وأنها تدور وتدور وتدور? وأن السماء حولها من كل الجهات، وأن حياتنا وكل الحيوات التي نجهلها تدور في هذه السماء التي تبتلعنا من كل جانب. هل يبدو غريبا أن أطرح معكم موضوعا كهذا؟ فقد عشت في الفترة الأخيرة ظروفا جعلتني أتعلّق بالسماء طيلة الوقت.. كأنني أكتشف شيئا جديدا لم أنتبه له في ما سبق. مع أني يوميا كنت أنظر للسماء لأقرر ما سأرتديه من ثياب. السماء قبلة لقلوبنا حين تنهكنا الحياة أو حين تصفعنا فجأة وترمي بنا على الأرض بدون حيلة، مجردين من قوانا، الجارة في الشقة المقابلة يهمها حال السماء لتنشر غسيلها، تتابع كل ليلة النشرة الجوية من أجل «مستقبل» غسيلها، أصحاب الأراضي المزروعة لا يحبون الزرقة الدائمة، والشمس التي تتربع عليها،
يستنجدون بالله إن جاءت مواسم الزرع والسماء في عطلة صيفية ممددة، صلاة استسقاء، ودعوات ورؤوس وراحات أيدي وأعين توجه للسماء لطلب الغيث. نحن لا نفهم مزاج السماء. ولكننا نتأثر به. لا يمكننا تغيير حالها، لكنها تغير أحوالنا بشكل غريب. بعض هذه التغيرات قد تكون قاتلة، كثير من المطر أيضا يجعل القصيدة تتحوّل إلى نشاز، نعم قد تكون جميلة في أغلب الأوقات، لكن قد تتحول إلى «شبح» مخيف أحيانا.
تقول صديقة لي أن سماء قريتها هي الأجمل لأنها مسرح لأنواع كثيرة من الطيور. وقد سألتها أيهما تحبين إذن الطيور أم سماء قريتك؟ فأجابتني أنّ السّماء التي تخلو من الطيور مثل الجدران الخالية من اللوحات، مثل البيوت الخالية من الأثاث، قالت أيضا إن سماء بدون طيور سماء عارية! وقد فهمت ما تعنيه ولم أفهم، لأن العبارة في حدّ ذاتها تليق بالشعر أكثر، وتعني أن السّماء تعني لنا الكثير حسب ما ألفناه.
لا يتشابه أبناء الصحارى بأبناء الجبال حين ينظرون للسماء.. ولا أبناء الساحل بأبناء الداخل، كلٌّ له أفق رؤية يختلف عن الآخر. لا تتساوى ملايين العيون في انعكاسة السماء عليها، أحيانا هذه السماء تبدو مثل حوت النبي يونس، تبتلعنا دفعة واحدة، لتبقينا داخل قفص.
المحبطون لا يرون لا الشمس ولا القمر، ولا النجوم ولا خطوط الفجر ولا تدرّجات الأزرق.. يصبح اللالون هو ما يملأ الفضاء الأعلى لرؤوسهم، حياتهم في الغالب ثقيلة على أرض بدون سماء، أصفها هكذا لأني عشتها في أوقات متقطعة مضت، وكنت أتساءل حينها لماذا الشمس باهتة؟ فيما أحيانا أشعر بأن الشمس انطفأت.
تقول الحكمة إن ألوان قوس قزح لا نراها إلا إذا أمطرت وسطعت الشمس، والنجوم لا نراها إلا إذا حلّ الظلام، وهذا يعني أن تركيبة الحياة غريبة، إنها مزيج من ملح الدموع وشهقات الفرح.
والآن لا أدري إن قلت شيئا ذا معنى. لقد أردت أن أفرغ جيوب قلبي وخزائن متاعبي من حمولة ثقيلة، فوجدتني وحيدة رغم كل الدفء الذي يحيط بي، ووجدتني يوميا أسلّم وجهي للسماء وأسهو. أجلس لفترات طويلة غارقة في أبعاد الأزرق من دون أن أفهم هل أطلب النجدة لإنقاذي وإنقاذ من أحب مما نحن فيه، أم أنّ الأمر فطري في كل البشر، كلما تعثر أحدهم بمصاب ما رفع رأسه للسماء?
ترانا مبرمجون لذلك؟
الآن وأنا مسترخية أمام نافذتي أتأمل سماء دبي البراقة، أعرف أن كل من ينظر لهذه النجوم يشاركني مشاعري، وأعرف أيضا أن العينين اللتين أردتهما أن تنيرا وجهي ببريقهما تتقاسمان معي النجمة نفسها. إنه شعور يشبه الوقوع في الحب، إنّه وهج الشعر وإبداع المخيلة حين تصبح تفاصيل الحياة أحيانا أكثر من كئيبة.
إعلامية وشاعرة من البحرين
القدس العربي