كيف يفكر الأصولي؟… قراءة في فكر الاختلاف

كيف يفكر الأصولي؟… الوسائل لا تقتصر على العنف بمعناه المباشر، ثمة تكتيكات أخرى يعتمد عليها الأصولي تستكمل استراتيجيات الهيمنة، أهمها استبداد الوضوح، وسهولة المحتوى، وجهل المتلقي.
كتب الخبر: نذير الماجد

الأصولية ? هذا الوباء الذي ليس له مذهب ولا وطن- لا تنبت إلا في أرض مجدبة فكريا، لا تعبأ بالمجاز، ولا بصور الفكر التي تحرره من أغلال الأصول أو العادات أو الافتراضات أو الأحكام المسبقة التي يتعين أن تتخذ صيغة المفرد، كان علي أن أقول: أصل، عادة، افتراض، حكم مسبق، لكي تنسجم أكثر مع مركزية دون انزياح، المركزية الحاضنة لجرثومة التفكير الأحادي التي تتسلل، بمجرد توافر الاستعداد، إلى كل مجتمع فتفتك به وبأفراده ومؤسساته وتعليمه. كل شيء مهدد بالانكماش لصالح المد الأصولي، الذي يكتسح، بإخصائه للعقل، كل إمكانية للتفكير.
هو لا يقرأ، وحتى لو قرأ فإن حاجزا فولاذيا يحول دون تجاوبه مع النص، الأصولي أعمى ولا يريد لغيره أن يبصر. من هنا نفهم حجم الإجفال من كل وافد فكري بذريعة الخصوصية أو البدعة أو الضلال. اللجوء إلى ما تم تسويغه في ما مضى بتحويله إلى فكر مؤسس هو الأسلم للعقل الأصولي النموذجي. فتاوى التحريم للكتب الضالة تأتي في هذا السياق، إنه إجراء احتياطي ناجم عما يمكنني أن أسميه فوبيا الأفكار.

شح الأفكار

ليس الأصولي إلا مريضا بشح الأفكار. تستقر الفكرة ليس لقوتها بل لأنها ببساطة لا تحوز منافسا. الفكرة الأصولية فكرة يتيمة لِأَصلٍ يستبد بقطعانه. يوجد ضمور أوديبي في السيكولوجية الأصولية، مما يجعله وفيا لمصدر عطبه الفكري. ولكي يحمي فكرته اليتيمة سيقيم مناعة سيكولوجية، مناعة صلبة تفرغ كل جديد على مستوى الفكر والأسلوب والأدوات من مضمونه ومحتواه، وتحيل عملية التجديد إلى خطيئة، والإبداع إلى اتباع أو اجترار للأصل ذاته.
تنمو الأفكار باحتكاكها، بتجديلها وتصادمها، الفكر عملية تراكمية لكنه أيضا معشوقة متمنعة، يقول نيتشه: «الفكرة تتقدم: تغدو أكثر رقة، أكثر دهشة، عصية على القبض- فكرة تغدو امرأة»… ثمة ديالكتيك هنا، كل فكرة وافدة تدشين جديد لصراع متصاعد، كل فكرة هي وعد بالانزياح، لا تترسخ الفكرة السابقة إلا حين ترغم ذاتها على الاحتكاك بوافد جديد يثير زوبعة من الأسئلة، الفكر حركة تنتج دائما سيكولوجية قلقة.
لذلك يحثنا ابن عربي على الحيرة. الفيلسوف أو المؤمن بوصفه إنسانا نموذجيا هو دائما كائن قلق وحائر، «أشدكم إيمانا أكثركم حيرة» كما يشير الشيخ الأكبر. ذلك يعني أن اشتداد الحيرة بمثابة علامة سراطية على طريق النجاة والخلاص. بخلاف ما يلوح للإنسان الأصولي الذي يجد ذاته مطمئنا سعيدا بفكرته المعششة في دماغه. لكن هذه السعادة وهم من شأنه أن يتحول دائما إلى عنف، فالأصولي السعيد هو ذاته النرجسي العنيف الذي يمتهن الشطب. الأصولية «سيرورة إلغاء» لكل مختلف ومغاير، إنها الأمل في توحيد قهري.
نتفق على أن هذه الوحدة مرجوة، ونختلف في أنها مرجأة، أما الأصولي بوصفه كائنا مستعجلا فإنه يتعالى على الاختلاف والإرجاء الدائم بإحالته التبعثر والتشظي إلى حقيقة أحادية بالقوة. وهنا تحديدا تكمن الخطورة، فليس بوسع الأصولي أن يغفر للآخر آخريته. الآخر أو المختلف مدان فقط لأنه كذلك. يعتبر الآخر تهديدا وجوديا فيتوجب نفيه، وحينئذ يتخذ العنف شكل تصفية جسدية، حيث تبلغ خطورة الأصولي ذروتها فتصبح تهديدا للمجتمع ذاته.

حفلة دموية

فتش عن الأصولي في كل حفلة دموية أو رقص على الأشلاء، الذي قتل محمد شحادة في القاهرة اليوم هو نفسه الذي قتل حسين مروة أو غيره بالأمس، ظاهرة القتل على الهوية صناعة أصولية، هناك دائما هوس أو نزوع سلطوي لتعويض الخواء الداخلي، فالتعطش الدائم للاستحواذ والتملك ناجم في جوهره عن رغبة تعويضية، ليتحول الإنكماش الفكري إلى هيمنة: ضمور في الداخل وانتشار عنيف في الخارج.
ما حدث لمحمد شحادة أو غيره من ضحايا القتل العشوائي أو القتل على الهوية ليس عودة لأكلة لحوم البشر، فهؤلاء لم ينقرضوا يوما… بشاعة القتل الخاطئ والسحل تعيدنا إلى مبتدأ التفسير، السبب -ببساطة- يكمن في النقاء المزعوم الناجم عن كل احتضان للحقيقة المطلقة، إنها الأصولية في أجلى صورة لمتوحش بدائي، والتي لا تعني شيئا آخر غير تلك السذاجة التي لا تتسامح، فالبيئة الطاردة للتسامح جاذبة للبشاعة، بيئة خصبة لإمكانية النفي، إنها الحيز النقي لخديعة البصر: رغم الثراء اللوني لا يجد القاتل إلا ذاته وهي تستحوذ، وتمارس وصايتها إما بالطرد المعنوي أو بالقنبلة!
كان الفيلسوف الألماني الشهير هابرماس يحيل العقل إلى حصيلة مناقشة، العقلاني في نظره هو من يحاور، أما الأصولي فهو ذلك الذي يأمر، متوسلا في ذلك بسطوة الأصل أو العبوة الناسفة، وإذا كان الفيلسوف هو أيضا ديناميت كما يحلو لنيتشه أن يقول، فهو ديناميت معنوي، لا يهدف إلا لتفجير المعنى. أعمل نيتشه مطرقته في تهشيم الأوثان بهدف تحرير المعنى. الديناميت النيتشوي يراوح منطقة المجاز، أما الأصولية السادنة الوفية للمعنى الثابت والمستقر والأصلي فهي خطاب لإنتاج وصناعة العنف الذي ينفلت أحيانا ليغدو ديناميت حقيقي.
كيف يفكر الأصولي؟ الوسائل لا تقتصر على العنف بمعناه المباشر، ثمة تكتيكات أخرى يعتمد عليها الأصولي تستكمل استراتيجيات الهيمنة، أهمها استبداد الوضوح، وسهولة المحتوى، وجهل المتلقي، وترسيخ الشبه. أما المغايرة، فشذوذ ينبغي اجتثاثه على طريقة الحجاج، الأصولي لن يرضى بصفته وصيا إلا بالشبيه أو الرؤوس المقطوعة. فكيف يفكر إذن؟ إنه لا يفكر، حين يفكر، إلا بنفي التفكير والأحزمة الناسفة!

الجريدة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..