مقالات سياسية

الحرب الأوكرانية .. والثورة السودانية! (2)

عبدالمنعم عثمان
انتهينا في الموضوع الأول إلى افتراض أخير بانتصار الطرف الروسي مواكبًا انتصار الثورة السودانية، الذي هو في اعتقادي الاحتمال الأقرب إلى التحقق ما لم يذهب الشطط بأمريكا إلى اعتماد طلب الرئيس الأوكراني بتأمين الفضاء الأوكراني ضد الهجمات الروسية. إذ أن هذه الحالة ستقود بلا شك إلى حرب ثالثة تجعل الحروب بعدها، إذا تبقى من البشر من يقوم بها، تعود إلى استخدام الأسلحة الحجرية ربما! وبالتالي يصبح الحديث بلا معنى عن كامل الأمر. ولعله يكون من العاقلين في اجتماع الناتو بعد أيام قلائل وبحضور الرئيس الأمريكي، أقول لعله يكون هناك عاقل يوقف مثل هذا العبث الأناني. وعليه فسنستمر في افتراض أن الدنيا بتركيبتها الجديدة إلى حد ما ستظل موجودة. وبناء على هذا الافتراض ماذا نتوقع للعلاقات الروسية السودانية؟
أولًا: التركيبة الجديدة المفترضة تعني نهاية السيطرة الأمريكية كقطب واحد يتحكم في مصير الدنيا ويعطى الأوامر في كل الاتجاهات لتنفذ دون اعتراض. وقد بدأ بالفعل هذا التحول بدرجات متفاوتة: بعض الدول، التي كانت تعتبر موالية تمامًا لأمريكا، بل وتعتمد في الحماية ضد الاعداء عليها، نفضت يدها تمامًا من تلك السيطرة لدرجة أن مسؤوليها رفضوا مجرد الرد على اتصالات أمريكية عالية وذهب بعضهم الآخر إلى الوصول إلى عاصمة الكرملين الآن والحرب لا تزال مستمرة ليؤكدوا استمرار تحالف (أوبك +) في شأن التحكم بالإمداد البترولي. وحتى في أوروبا الناتو هناك من لا يمكن عمليًا أن يلتزم إملاءات الولايات المتحدة في الشأن الاقتصادي الذي يؤثر بشكل كبير عليها وليس بنسبة قريبة حتى من تأثر أمريكا بالعقوبات التي تصر على إنجازها بالحرف من قبل حلفائها. فأمريكا لا تعترف بالحكمة العربية القائلة (إذا أردت ان تطاع فأمر بما يستطاع)، بل تأمر بعض اعدائها، مثل الصين للامتثال وفي هذه الحالة لا تسمع غير الرد المتوقع، بل والمحتم من الصين، وهي المنازع الأول لأمريكا في الصراع على المركز الاقتصادي الأول. وهكذا تجد أمريكا نفسها في موقف لا تحسد عليه، وهو موقف من الممكن أن يؤدى إلى الانهيار، خصوصًا إذا استطاعت روسيا أن توسع من تحالفها مع الصين إلى دول اخرى، ذلك التحالف الذي يضع على رأس أولوياته التخلص من عبء التعامل بالدولار الذي، باعتراف أهله لم يعد يساوى إلا سنتات قليلة. “في هذا يقول أحد الخبراء بأن ورقة المئة دولار لا تساوي غير ثلاثة عشر سنتًا، هي تكلفة طباعتها”، غير أن البترول المقيم في أغلبه بالدولار يساوي اليوم أكثر من 130 دولارًا وقيمتها في واقع الحال لا تزيد عن حوالى سبعة عشر سنتًا بحسب الخبير المذكور! ومع ذلك فأن هناك من الأصدقاء، مدفوعًا بابتعاده مؤخرًا من الاتحاد الأوروبي إلى جانب ضعف تأثره بتنفيذ أوامر امريكا بوقف التعامل مع مصدر الطاقة الروسي، وأعنى بريطانيا، من يفوقها حماسًا في تنفيذ طلباتها، برغم أن أحد مسئوليها قد أكد أن خسائرها خلال الأسبوعين الماضيين من الحرب قد فاقت المئة مليار إسترليني! وعليه، إذا حدث ما هو محتمل من ابتعاد الكثير من الحلفاء عنها نتيجة لتردي الأوضاع الاقتصادية فيها بقدر سيكون بالتأكيد أكبر من ما وقع في بريطانيا، فليس من المستبعد أن تتخذ أمريكا قرارًا انتحاريًا بتوسيع مدى الحرب على الطريقة الشمسونية، خصوصًا وعند ذلك يكون الهدف الرئيس وراء الحرب، الذي هو تدمير الاقتصاد الروسي من خلال منع المكاسب التي يحققها تصدير الطاقة إلى أوروبا، قد فشل. فإذا لم يحدث هذا القرار الشمسونى، يكون الحلف الروسي الصيني قد سجل عدة أهداف بمساعدة الفريق المناوئ، إضافة إلى ما قد يحدث إذا استمر التحالف الخليجي الروسي الصيني في وضع اللمسات الأخيرة في مشروع ذبح الثور الأمريكي!
علاقة الثورة السودانية بتحقق هذا السيناريو:
في حالة تحقق هذا السيناريو متوافقًا مع انتصار الثورة السودانية بمعنى تحقق كافة شعاراتها، التي تعني تحررًا كاملًا من كل ما أقعد السودان عن الاستغلال الكامل لإمكاناته المادية والبشرية والجيوسياسية… الخ ..الخ لصالح شعوبه مع ما يتطلب ذلك من تحرر من تبعات التكتلات الخارجية التي لا تخدم مصالح شعوبه، فأن ذلك يعنى أنه قد أصبح مؤهلًا ليس فقط لبناء ما ظلت تحلم به تلك الشعوب من بعد الاستقلال، وإننا أيضًا ليصبح من قيادات ما أشرت إليه في مقال سابق من ضرورة إحياء ما كان يعرف منذ ستينات القرن الماضي بكتلة عدم الانحياز، التي وقفت بين المعسكرين بصورة جعلت بعض القادة يحصلون على بعض مكاسب هامة لشعوبهم باستغلال التناقضات القائمة بين المعسكرين. ولكن مع تفكك المعسكر الاشتراكي وبقاء جزر معزولة هنا وهناك تدعو بصور مختلفة لمبادئ ذلك المعسكر الذي إنهار بسبب مفارقته لجل تلك المبادئ، إضافة إلى تخلف بلدان عدم الانحياز عن تقديم الدعم اللازم له ضد محاولات المعسكر الرأسمالي البائنة لتفكيكه بقيادة الولايات المتحدة، أقول نتيجة لهذا التغير الحادث في الوضع العالمي، فلا بد من تكوين جديد يأخذ في اعتباره هذه المتغيرات الكبرى. وفي اعتقادي أنه يمكن أن يتم الأمر على مرحلتين:
الأولى: مرحلة التحالف الدولي العام للقضاء على الرأسمالية الموصوفة من الكثيرين بالمتوحشة والتي يتكون رأس رمحها من ترويكا الولايات المتحدة واليابان وأوروبا. ومن رأيي أن هذا الرأس قد تبرع بوضع نفسه في المقصلة كما حاولنا التوضيح في الفقرات السابقة: من تمرد حلفاء واحتمال لحاق أخرين حتى من جماعة الناتو بذلك التمرد من خلال الضغوط الاقتصادية التي بدأت بآثار الكوفيد وتتفاقم الآن بسبب الحرب والإملاءات الأمريكية البليدة. وفى هذه المرحلة سيضم التحالف دولًا ربما تختلف توجهاتها الفكرية والأيديولوجية ولكن تجمعها المصلحة المشتركة في القضاء على رأس الرمح الذي أصبح تاريخيًا يمثل الشكل النهائي للرأسمالية.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة يعتمد استمرار وجود بعض المساهمين فيها من دول المرحلة السابقة، على تطورات يصعب الجزم بها في هذه المرحلة، إذ أنها تعتمد على تحقق افتراضات إضافية تخص الوضع في روسيا والصين، وقد ذكرنا أنهما يتصرفان كجزء من معسكر رأس المال تجاه دول العالم الثالث ولا ندري إن كان انتصارهما على الرأس المتوحش سيجعلهما يعيدا النظر في توجهاتهما أم لا. وكذلك الأمر بالنسبة لبعض آخر من الحلفاء، وخصوصًا الذين يمثلون بعدًا إقليميا للسودان، الذين قد تتغير اتجاهاتهم مع تحقق المصالح الآنية في المرحلة الأولى! وفى هذه الحالة قد لا يبقى من التحالف إلا الدول الساعية إلى إعادة رسم الخريطة الدولية بإيجاد تحالف شعوبي من أجل البناء الديموقراطي بجناحيه السياسي والاجتماعي. وفى هذه المرحلة، التي ارى فيها دورًا قياديًا لثورة ديسمبر السودانية ذات الأثر البين إقليميًا ودوليًا حتى هذه اللحظة من تاريخها القصير، وقبل أن آتى إلى طبيعة وتفاصيل ذلك الدور، أرى أيضًا أنه لا بد من تبيان بعض الجوانب الهامة لإيجاد الرابط بين الثورة والتحالف المقترح في مرحلته الثانية. وهنا أسمحوا لي بإيراد هذا المقتطف من مؤلفي بعنوان (هل للماركسية مستقبل؟):
(… في عالم اليوم، مع الرأسمالية المعولمة المتوحشة، لا يمكن النظر لاقتصاد كل بلد على حدة. والدليل في ما سبق عن تأثير النمو الصيني على مجمل اقتصاد العالم، وبالتالي لا بد من النظر إليه في ضوء التطورات العالمية والآثار الإقليمية. والحقيقة أن هذا الوضع قد كان منذ تحول الرأسمالية إلى الاستعمار..) وفي فقرة تالية:
(… لا بد لكل هذا أن يرتبط بما يسميه الدكتور سمير أمين الطريق الطويل نحو الاشتراكية، الذي يجب أن يمر عبر النضال ضد الرأسمالية المتوحشة، حيث تشارك البلدان الساعية إلى الاشتراكية وبلدان العالم الثالث التي تسعى لتحقيق تنمية معتمدة على الذات وحتى شعوب بعض البلدان الرأسمالية خارج إطار الترويكا ” المتوحشة”.. في تحالف يشمل هؤلاء بالإضافة إلى المناضلين من أجل البيئة وضد الحروب ومن أجل حقوق المرأة والطفل… الخ)
وإلى المقالة القادمة، حيث نواصل الحديث بتفاصيل الدور الذي يمكن أن تلعبه الثورة السودانية في إطار هذا التحالف. ولعل تطور أحداث الحرب وما تلقيه من ظلال على مختلف المواقع ما يعطينا المزيد من الضوء لتحليل يقوم على الوقائع أكثر منه على الافتراضات مهما قاربت الواقع.
الميدان
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..