شرف العائلة

د. ابتهال عبدالعزيز الخطيب

جديرة بالاهتمام والتحليل هي ظاهرة شخصية الارتباط بين المسلم والدين الإسلامي، وأقصد بذلك شعور المسلم بأنه يمتلك الدين بشكل شخصي وأن أي انتقاد لهذا الدين أو محاولة لتطوير مفاهيمه هو انتقاد شخصي لهذا المسلم ومساس بكرامته ومحاولة لتغيير مفاهيم خاصة جداً به. هل هي طبيعة التدين الإسلامي التي صنعت شخصانية التملك الديني هذه أم هي طبيعة بشرية قديمة لم يستطع المسلمون التخلص منها رغم مرور الزمن وتطور المفاهيم؟
بنظرة سريعة لتواريخ الأديان، نجد أن أتباع معظمها حملوا مثل هذا الشعور بالمسؤولية الشخصية تجاه الدين والارتباط المباشر للكرامة والسمعة به. كان النقد للمسيحية يهيج المشاعر الشخصية ويثير الحروب ويريق الدماء، وكذا كان النقد لليهودية وغيرها حتى من الأديان القديمة الفلسفية التي تمركزت في شرق آسيا، أمريكا الجنوبية والجنوب الأفريقي. الا أن المناطق التي خرجت الى الحضارة الحديثة بعد القرن التاسع عشر ودخولاً الى القرن العشرين، وبعد أن تعلمت القاسي من الدروس الدينية في هذه القرون السابقة وحتى مطلع التاسع عشر ثم السياسية منذ بدايات الى أواسط القرن العشرين، هذه المناطق فصلت الشعور الشخصي عن الديني في الحيز العام، بمعنى أنها دربت أفرادها على أن النقد الديني لا يعتبر نقداً شخصياً، لا يمثل إهانة فردية، لا يمس كرامة أو يمرغ سمعة، هو نقد لفلسفة أو رؤيا أو ثيولوجيا عامة، لا يملكها أحد، ويملكها كل أحد، لا يحق لأحد أن يحكم نهائياً عليها فرضاً على الآخرين، ويحق لكل أحد أن يحكم عليها ويقيمها لنفسه وطواعية للآخرين. كان الوصول الى هذه المرحلة شائكاً ممرغاً بالدماء، الا أن الغرب وصل وخلفنا خلفه، نلعق جراح النقد ونُثار بوخزات التساؤل ونُجرح ونُهان لأي ومضة تشكيك أو رفض.
فما الذي لا يزال يبقينا في حيزنا الأثري القديم، من أين نتحصل على صكوك الملكية الدينية التي تجعل أي حديث عن الدين مساساً شخصياً وإصابة «لشرف العيلة»؟
لماذا تجرح كرامة المسلم العربي تحديداً اذا ما نقد الآخرون ديناً يدين به أكثر من مليار ونصف مليار انسان، ديناً عمره ألف وخمسمئة سنة، ديناً لا يملكه أحد وهو ملك للناس جميعاً المسلم منهم وغير المسلم؟ بل لماذا يستثار الإنسان المسلم، والعربي منهم تحديداً، اذا ما أعلن آخر عدم ايمانه بفكره الإله والخلق أًصلاً؟
كيف تتحول نظرية فلسفية وثيولوجية بحتة يبحث فيها الإنسان منذ وجد على هذه الأرض، قبل كل ظهور للأديان القديمة منها والحديثة، إلى قضية شخصية، وكيف يتحول الرب إلى ملكية شخصية تتطلب الحماية وتستنخي الذود والدفاع؟ لربما هي حقيقة أن الهوية الدينية هي الهوية الوحيدة الباقية في حياتنا بعد أن ضاعت الهويات القومية، وفُقدت الإيمانيات بالأنظمة السياسية، وبيعت القضايا المصيرية، لربما الدين هو كل ما بقي للإنسان العربي ليرثه ويورثه، هو النجاح والقوة في الماضي، هو العزاء والسلوى في الحاضر، وهو الوعد بالنصر المبين في المستقبل، هو المكون الأوحد لوجود فقدت بقية مقاديره فماع طعمه وفقدت نكهته وبات مهدداً بالذوبان والاختفاء.
فعلى الرغم من كثافة التعاليم الدينية الإسلامية التي تدعو المسلم للترويج للدين والذود عنه، إلا أنها ليست بالتعاليم الغريبة على الأديان الأخرى، خصوصاً الحديثة منها، تلك المبادئ التي واءمها أصحابها اليوم مع مفاهيم حرية العقيدة وحرية الرأي والنقد وخصوصية المفاهيم الدينية كاعتناق وممارسة وعمومية فلسفتها كفكر قابل للنقد. استطاع هؤلاء الخروج من دائرة الملكية «الكراماتية» للدين الى حيز الإيمان الشخصي والممارسة الخاصة مع الإبقاء على الدين في المساحة العامة للدراسة والتفكير والنقد وحتى التشكيك والرفض.
أما المسلم، العربي تحديداً مـــــرة أخرى، فــــلا يزال يحمل الدين عبئاً يحتاج للحماية عن كونه مصدر راحة واشباع نفسي واستكمال روحاني، لا يزال يتعامل معــــه وكأنه ملكية خاصة لا يحق لآخر أن يأتي على سيرتها، كأنه شــرف بيته وكرامة عائلته لا يمكن تناولهما سوى بالمديح، وأي نقد أو إشارة لخلل أو ضعف هما مساس لا يغسله سوى الدم.
قبليون نحن حتى في تعاملنا مع الدين في حين أن الدين فلسفة فسيحة لا يمكنها أن تكون حكراً على عائلة أو تصغر وتنكمش لمساحة كرامة شخصية أو شرف بشري. متى نستوعب هذه الحقيقة فنريح ونستريح؟

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..