المحارب.. رواية.. 16

فى انداية كلتوم الدلالية..
اواخر يونيو من العام 2001 وامسية زانها القمر الذى توسط قبة السماء، امسية لا تاتى فى العمر الا مرة واحدة، قال اشرف بصوت خافت وهو يتملى وجه حنان الذى يضاهى القمر ضياء: لم اتصور ان حلمى بالفوز بك سوف يصبح حقيقة.
ردت حنان هامسة بحياء والنسيم يتلاعب بخصلة تدلت على جبينها: وانا لم اصدق ان مجرد صدفة يمكنها ان تمنح انسان اغلى ما تمناه فى حياته.
– هل افهم من حديثك اننى اغلى ما تمنيتى ؟ قالها اشرف وهو ينظر الى القمر الذى انفلت برشاقة من سحابة حاولت ان تغطى وجهه..
– ان انسى فلن انسى تلك الليلة التى رايتك فيها وانت تقف وسط الحلبة كالطود، وسوط العريس يلهب ظهرك، وسط زغاريد النساء اللائى اطلقن لعقيراتهن العنان احتفاء واعجابا بثباتك الذى حير كل الحاضرين.
– عرس من كان ذلك؟.
– عرس الهميم ود الضو.. احسست يومها بشيء اعتمل بين ضلوعى.. شيء لم ادر كنهه، ولم اتبين ملامحه حينئذ لاسميه، كان يمنحنى ذلك الشيء طاقة ونشوة وسعادة فائقة وانا ابنة الاثنتى عشرة عاما، كبر معى ذلك الاحساس مع الايام والسنين، فادركت اننى وقعت فى شراك الغرام، كان كلما رايتك ازداد غرامى بك وتمدد.. كنت اسعد واشقى به فى آن، اسعد عندما احلق باجنحة خيالى فى فضائك الرحب، فكم تمثلت فى احلامى فارس ياتينى على ظهر حصان فيخطفنى لاسافر معه الى عالمه الذى شدته قصور من نور.. كنت اسعد ايما سعادة حينما اغرق فى تلكم الاحلام، واشد ما كان يسعدنى رؤياك وانت جالس على حافة النهر تمارس هوايتك التى احببتها لاجلك.. لم تكن الاسرة بحوجة لخدمتى بالسقيا ولكننى كنت اتحايل عليها كى اراك، وكنت احزن عندما لا تاتى، واشد ما كان يحزننى عدم احساسك بى.
مسح جبينها بمودة والقمر يمرق كالسهم من بين فكى سحابة كانت قد رمت بسترها عليه، وطبع قبلة على خدها الاملس ثم سأل فى ذهول: وهل كنت طوال تلك السنين تكابدين آلام الجوى لوحدك؟
نظرت الى عينيه النبيلتين وهى تتحسس شعره باصابعها، فاحست بان الاضطراب الذى يصيب كل عروسة فى ليلة زفافها قد بدأ يتلاشى، وان صدره العارى هذا بما يحويه من حب وحنان والذى جعلت منه وسادة اتكأت عليها، قد بدد مخاوفها تماما كما يبدد البدر ركام الغيوم، فقالت بمكر غريزى وهى تمشط شعر رأسه باطراف أناملها التى تضاهى المخمل نعومة: هل فكرت فى غيرى؟
– لم افكر فى الزواج البتة الى ان سرقت فؤادى ذات اصيل حورية نزلت الى الارض من الفردوس..
ابتسمت فى دلال وتشابكت ايديهما وتاها فى قبلة طويلة والقمر يرسل نوره مباركا ونسمة خريفية تهب على مخدع العروسين، واشرف مع شهرزاده كانه فى ليلة من ليالى الف ليلة وليلة.
لو وضعوا سعادة كل الناس منذ بدء الخليقة فى كفة، وسعادته فى أخرى لرجحت كفة سعادته لحظتئذٍ، فحوريته الآن بين يديه يبثها وتبثه لواعج الغرام.. يضمها بشغف الواله.. ويغرق فى لجج عينيها الساحرتين، ويسكره نشرها الذى يضوع من بين سبائب شعرها الاسود الفاحم.. يتناجيان.. يتسامران.. قال لها منتشيا وحرارة انفاسه تكاد تحرق وجهها القمرى: احس بان الحياة منحتنى اكثر مما استحق.
ردت هامسة وهى تلثمه بشغف: بل انا التى منحتنى اكثر مما استحق، فهذه الاحضان كم سهرت وانا اتحرق توقا الى دفئها وذلك عندما اغرق فى خضم احلامى واتخيل نفسى بين يديك فارفع بيدىّ واضمها لاجد نفسى اختضن الفراغ.. اشرف انا التى يجب ان اقول ما قلته انت.
ضمها اليه حتى كاد ان يهشم ضلوعها وهو يسمع اسمه تنطقه لاول مرة، والقمر يرسل نوره بعد ان كسب معركته ضد السحب التى سافرت اشلاءها منهزمة الى الافق، ونسيم يونية الناعم الذى ياتى من الجنوب حاملا رائحة التراب الذى مزجته امطار (الرُّشاش ) تدفق على البيوت التى اتكأت على سكون الليل فنامت بعد ان ارهقها ضجيج النهار الصاخب.
ظلا على ذلك الحال يتناجيان ويتاسمران ويتبادلان القبل حتى بلغا قمة ما ينتهى اليه زوجان فى الليلة الاولى من زواجهما، تحسس جبينها برفق وقال لها برقة فى محاولة منه لكفكفة دموعها، وتخفيف حدة الالم الذى ظهرت آثاره على قسمات وجهها الفاتن: لم اكن لاجرؤ لو لم احس بذلك الشغف الذى ابرقت به عيناك عندما تعانقنا طويلا، مضى فى اعتذاره قائلا وقد قطب جبينه وعقد ما بين حاجبيه وعلت صوته نبرة اسف: لقد اغرانى تجاوبك وسكوتك بالمضى قدما حتى وجدتنى كالثور الهائج فى مستودع الخزف.
همست فى اغراء مصطنع لتدارى نوبة الالم الذى الم بها: لو لم تفعل لاتهمت قلبى بالعمى، وللمته على سوء الاختيار، فأنت اول وآخر رجل طرق بابه، واستطردت فى دلال وغنج وهى تتملى وسامته المثيرة: لقد فعلت ما كان يجب فعله.
زادت كلماتها من رغبته، وتفجر فى نفسه بركان من الشبق، وهم بان يعود ثانية ليخمد ثائرة الشهوة البهيمية التى تمكنت من عقله، الا ان سور الالم التى ظهرت على قسمات وجهها، وعشقه الجنونى لها، حالا بينه وبين ما اشتهت نفسه، مما حدا به ان يكبح من جماح رغبته، ويكتفى بضمها الى صدره بكل ما اوتى من حنان، وهو يتذكر وصية صاحبه الهميم ود الضو محذرا اياه من الوقوع فى مغبة العنف، ولكن بعد فوات الأوان.
تحدث الهميم ود الضو حديث العارف المجرب وهو يوصيه، وكان آخر المغادرين من الذين ذهبوا مع اشرف فى سيرته ? زفته- التى ضمت كل شباب وشابات قريته التى احتفلت بزواجه كما لم تحتفل بزواج احد من قبل: ترفق بعروستك وتلطف بها ما استطعت، واياك ان تتسرع فى عملية الايلاج، كما يجب ان تتجنب العنف والا لرغبت عنك زوجك، استطرد الهميم بنبرة حميمية وهو يحملق فى عينى اشرف التين اتسعتا حدقتاهما حتى كادتا تخرجان عن محجريهما وهى تبرق شهوة، وتلهفا، وحيرة، وتوترا: ارجو ان تضع كلامى هذا نصب عينيك، فانت بتولٌ لم تقرب النساء من قبل، قال الهميم عبارته الاخيرة بنبرة ساخرة، ثم واصل حديثه فى جدية وهو يصف لصديقه اماكن الاثارة فى المرأة، وكيفية تفجير مكامن هذه الاثارة اذا اراد ان يصل مع عروسته الى جماع ممتع ومثالى وفاعل حتى يسعدا بزواجهما.. كان اشرفا كما قال الهميم ود الضو، لم يقرب فى حياته امرأة قط، دعاه متوكل ذات نزوة لمرافقتهما هو وصديقهما الهميم الى الانداية التى كانا يترددان عليها مع الكثير ممن استهوتهم حياة الهلس والمجون من اهل القرية، كان ذلك قبل شهور من قصة حبس متوكلوف وتعذيبه من قبل جهاز الامن والتى قرر بعدها السفر الى اسمرا والانضمام لصفوف المعارضة، وهذه قصة اخرى سنفسح لها المجال فى مكان آخر عندما ناتى الى الحديث عن الصداقة التى جمعت اشرف بالهميم ود الضو، ومتوكلوف.
قلنا ان اشرفا دعى من قبل صديقه وكان ذلك بايعاز من الهميم الذى عجز عن اقناع اشرف بالسير فى هذا الطريق الذى سلكاه هو ومتوكلوف منذ ان كانا تلاميذا بالمرحلة الثانوية، رفض اشرف الدعوة بكل ما اوتى من عزيمة، الح عليه صديقه حاثا اياه على التخلى عن تزمته ومثاليته التى اقعدته عن التمتع بمباهج الدنيا، ومزينا له باطل ما كان يصنعانه هو والهميم من معاقرة للخمر، ومعاشرة للنساء وخلافه من المجون، مضى متوكلوف الذى لا يجد حرجا فى الافصاح عن ما يفعله من ضلال، والمتعة التى ينشدها فى اشباع غرائزه البهيمية- مضى فى محاولاته اقناع صديقه قائلا؛ ان سويعاتنا هذه التى نحياها فى دنيانا ينبغى ان نعيشها كما يحلو لنا، وان نطلق لانفسنا العنان، ونتركها على سجاياها، ولا نلجمها عن ما يعنّ لها من فعل قد يكون سببا فى اسعادها، استطرد متوكلوف بنبرة ظهرت فيها شهوانيته بصورة جلية: علينا ان نشبع رغباتنا ولا نحرم انفسنا من الملذات والمتع الحسية والتى هى جزء اصيل فى تكويننا السايكولوجى.. كان متوكل ينسج حول اشـــرف احابيلــــــه الشيطانية بكلامه المعسول، وعباراته الرنانة تلك، فمتوكلوف بالاضافة الى شهوانيته التى لا يستطيع كبحها، اشتهر بقوة الحجة وامتلاكه ناصية البيان ومقدرته العجيبة على الاقناع وان كان بالباطل نفسه، لذلك كان يخشاه طلاب المؤتمر الوطنى بالجامعة ويتحاشون جداله فى اركان النقاش، فمنذ دخوله الجامعة وحتى تخرجه لم يفز منسوبى المؤتمر الوطنى بمقعد واحد من مقاعد الاتحاد، كان اشرفا شديد المراس، فقد اصر على موقفه مفندا كل المسوغات الفارغة التى ساقها متوكلوف، ليس ذلك فحسب، بل اغلظ لصديقيه القول لاثنائهما عن طيشهما النزق، ومذكرا اياهما بتحريم القرآن للخمر والزنا صراحة، وان اخلاقه وما تربى عليه من قيم ومثل لا يسمحان له بفعل ما يقومان به وما يودان القيام به الآن، تدخل الهميم بعد ان عيل صبره، فصاح مغاضبا، وكان اذا غضب ارتعش الجزء السفلى من جانبى شاربه الكث الذى يتدلى الى ما تحت الشفة السفلى، وضاقت مؤخر عيناه الواسعتان التى ورثها عن خاله عبد القادر الشيخ حتى تبدّى للناظر اليه كانه احوصا، وفاحت من ابطيه رائحة كرائحة مبيد الروجر النفاذة؛ الى متى ستظل على تعنتك هذا؟ الحياة ليس كلها لهث وكدح واشغال، من الحواشة الى الكارو ثم الى البيت والعكس، اخرج الى العالم من حولك لترى كيف يعيش الشباب حياتهم، قال الهميم كلامه هذا بنفاد صبر، واردف فى حنق حقيقى؛ كن رجلا كالرجال، ودع عنك هذا الذى لا يصح الا للنساء، ومضى فى حديثه المستفز قائلا وهو ينظر فى عينى صديقه؛ انزع هذه الطاقية عن رأسك وضع مكانها طرحة او خمارا، فانها اليق بك وبامثالك، قال عبارته الاخيرة فقط ليستفزه، فهو يعلم ان صديقه ليس له صنو من الشباب الذين فى سنه، لا فى نخوته، ولا فى شجاعته، ولا فى صبره على الشدائد، فهو كما يقول اهل الوسط (زول حارّة ) اى رجل مواقف، مضى الهميم فى محاولاته اليائسة وقد اشاح ببصره عن عينى صاحبه التان بدأ يتطاير منهما الشرر، وأحس بانه قد بالغ فى استفزازه ، الامر الذى ربما ادى لاثارة حفيظته، فتراجع عن حدته قليلا وقال بنبرة رقيقة: صديقنا دعانا لنحتفل معه بتخرجه على طريقته، وابسط ما نقدمه له هو ان نلبى دعوته، لا سيما واننا لم نحضر حفل التخرج الذى اقامته جامعته.. لم يكن اشرف بحاجة لان تذكره باستقامته، فقد شب على السير على الطريق المستقيم، إذ لم تحدثه نفسه فى يوم من الايام على الانحراف عن الجادة رغم الحاح صديقيه واغرائهما الدائم له، كانا يتمنيا ان يسلك معهما طريقهما الذى اختاراه منذ زمان ليس بالقصير، فقد دأبا على الحديث معه عن لياليهما الحمراء ومغامراتمها النسائية كلما وجدا سانحة ليلهبا خياله حتى يستجيب لاغرائهما، بيد انه كان دائم الزجر لهما، ولكن هيهات ان يزدجر من اسلم لجام نفسه للشيطان، لقد ادمن صديقاه شرب الخمر ومعاشرة النساء، والغريب فى الامر انه قد اعتاد منهما ذلك، فلم يؤثر ضلالهما الذى كانا يُرسفان فى قيوده على صداقته بهما، فكان إن قبلهما على علاتهما، فهما صديقا الطفولة وزميلا الدراسة الذيْنِ رافقاه فى جميع المراحل الدراسية، ويحملان فى جوفيهما قلبان كقلوب الاطفال فى بياضها ونقائها، كانا رغم طيشهما وضلالهما، بسيطان، مرحان، كريمان، وفوق هذا وذاك كانا موطآ الاكناف يألفهما كل من عرفهما عن قرب، وليس هناك ما يعيبهما البتة غير هذا الطيش الذى يرجو ان يكفا عنه ذات يوم عندما يعرفا طريقهما الى المسئولية، ولان اشرفا يعلم سماحة نفسيهما التان تنطويان على كنوزمن الطيبة والاصالة ونكران الذات، فقد توقع ان يثوبا الى رشدهما ان امتد بهما الاجل.. والغريب ان حدسه صدق بالنسبة للهميم، فآخر كاس من الخمور البلدية التى كان يعبُّ منها بغير ما حساب، دخل جوفه الذى كل ما امتلأ صاح هل من مزيد، وآخر امرأة شاركها مخدعها بالحرام، كان قبل يوم واحد من عقد قرانه، فقد اقلع عن تعاطى الخمر ومعاشرة النساء وودع نزقه الى غير رجعة، ومن يومها لم يُعرف عن الهميم ود الضو ارتدادا حتى لحظة كتابة هذه السطور، اما متوكلوف فقد انقطعت اخباره تماما ولا احد من اهل قريته يعلم عنه شيئا.
كان اشرفا رغم تزمته -كما يرى ويدعى صديقيه- ورغم زجره الدائم لهما، الا انه ما برح يستمتع ايما متعة بمؤانستهما، ولا يجد ابدا حرجا فى الاستماع والانصات الى قصصهما الشائقة، ذلك انه يجد متعة ولذة فائقتين فى متابعة تفاصيلها المثيرة، لا سيما حينما يكون الحديث عن نزواتهما، فقد كانا بارعان فى وصف ممارساتهما الدنيئة -كما يرى اشرف- لذلك كان يستمتع بمجالستهما ويتمنى فى قرارة نفسه ان لا يكفا عن الحديث عن مغامراتهما العاطفية، وليس ذلك لانه يعيش بين الناس باكثر من قناع، ولا يعود ذلك لاضطراب فى سلوكه، او ازدواجية تنطوى عليها شخصيته، كلا، ولكنه ربما وجد فى تلك القصص متنفسا لرغباته المكبوتة، فهو كاى رجل لديه مشاعره وميوله تجاه الجنس الآخر، ولديه نزواته وما توسوس به نفسه من امنيات ملحة فى اشباع تلك النزوات، ولو لا استقامة فطرية نشأ عليها، وحياؤه، وايمانه، لانقاد وراء تلك الوساوس التى اوردت صديقاه موارد الهلس واللهو والمجون، نعم كان يستمتع لدرجة الثمالة بمؤانسة صديقيه، بيد انه لم يظهر ذلك حتى لا يغريهما ذلك فى اغوائه اكثر مما كانا يفعلان، قال ضاحكا وقد كمم انفه وفاه ليغيظ صاحبه الذى فاحت من اردانه رائحة مبيد الروجر النفاذة: ساذهب معكما، ولكن بشرط ان اكون متفرجا فقط.
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..