حيٌّ بين الجثامين… قصة مواجهة مثيرة مع الموت

أحمد عمر خوجلي
بدأ الوعي يعود إليه بشكل تدريجي، كان يظن أنه صحا من النوم بسبب كابوس مزعج، رغم الإرهاق وعدم القدرة على الاستيقاظ الكامل، حاول مدثر أن يفتح عينيه بشكل أوسع ويدير رأسه على المكان حوله، عندما نجح في ذلك دخل في كابوس جديد ونوبة من الصراخ الهستيري بسبب أنه وجد نفسه وحيداً بين عشرات الجثث ملقاة على ظهرها من النساء والرجال والأطفال. وجوه الجثث كانت تعبِّر عن حالة الفزع التي عبَّرت عنها صرخات في جنح الظلام. فقد كانت هي صرخات معظم أصحاب الجثث الذين عندما فاق من غيبوبته وجد نفسه وسطهم وهو على قيد الحياة لا يزال .
التحرُّك
تحرَّكت العبارة بشكل سريع، لم أكن أتوقعه، بلا مشاكل أو مراقبة أمنية، تجاوزنا مرحلة الخطر، كان ذلك في يوم الأربعاء الحادي والعشرين من سبتمبر 2016م، العدد التقريبي لرفاق الرحلة قرابة الستمائة شخص، الغالبية العظمى أطفال، والباقي شباب في أعمار مختلفة، جنسيات مختلفة ولغات ولهجات مختلفة، لكن الجميع اتفقوا على الوجهة ومتوحدين في الحلم، حلم العبور إلى حياة أفضل، كنت مهتماً بالتصوير والتوثيق طوال المحاولات السابقة لا زلت حتى في هذا اليوم الذي بدأت فيه رحلتنا هذه. أنا كما ذكرت اتخذت موقعاً في مؤخرة العبارة، الأضواء التي تخرج من أجهزة الموبايلات خافتة هنا وهناك تشق ظلمة السطح، مستلقياً على ظهري واضعاً حقيبتي وسترة النجاة وسادة، المكان دافئ في المؤخرة، الجو بارداً، لكن محرِّكات العبارة تجلب لي الدفء والشعور بالطمأنينة، في الأثناء تعرَّفت على معاوية، من السودان وقبيل المفاجأة التي حدثت قال لي: هل تجيد السباحة؟ فقلت له: لا، فقال: أنا سباح ماهر، قلت له: (لو حصل شيء عليك الله أنقذني). في نفسي لم أكن أتوقع إطلاقاً حدوث شيء ليس في الحسبان، فقط صرت أفكِّر في العبور إلى أوربا الذي لم يعد يفصلني بينها وبيني سوى النجاح في تجاوز الشاطئ من هناك كلاجئ له، يجد الاهتمام والاحترام وتنفتح أمامه فرص تستحق ما خضته من مغامرات، وأحقق حلمي بدراسة هندسة الطيران وأن أعيش في وضع أفضل من بلدي.
عطل مفاجئ
بعد مرور نحو ساعة من الزمن في وجهتنا إلى سواحل اليونان – كما أخبرنا أحد أفراد الطاقم مع بداية التحرك – حدث عطل مفاجئ، حقيقة في بداية الأمر لم يشعر به أحد خصوصاً من هم في مؤخرة العبارة. العطل سببه اصطدام العبارة بشبكة صيد ضخمة مغمورة في المياه أصابت الدفة الرئيسة الشيء الذي أدى إلى عدم استقرار العبارة. مع مرور الوقت وازياد تأرجح العبارة بدأنا نشعر بقليل من القلق، الطاقم أرسل نداء استغاثة لخفر السواحل، كان في ذلك في الحادية عشر ليلاً، أي بعد ثلاث ساعات، من تحركنا الأول. حتى ذلك الوقت كانت الأمور عادية، لم يصل رد للنداء الأول، بعد ساعة -تقريباً- تم إرسال نداء ثانٍ للاستغاثة. التأرجح صار أكثر ظهوراً.
اتصال بالهاتف
بعد فقدان الأمل في وصول نداء الاستغاثة التقط شاب مصري شبكة الاتصال بأهله وأخبرهم بالوضع والخطر الذي بات ظاهراً، علمنا -لاحقاً- أن بعض الأهالي القريبين وصولوا إلى الشاطئ وأبلغوا خفر السواحل هناك، لكنهم رفضوا التحرُّك بحجة أنهم لم يتسلموا أي إشارة، تم إرسال إشارة أخيرة، رفاق الرحلة بدأوا يتحرَّكون في قلق عندما تميل العبارة إلى اتجاه يهرعون إلى الجانب الآخر بشكل جماعي مما حوَّل القلق إلى صراخ وجلبة وأسئلة. وفجأة صرنا نعلق الآمال على وصول الإغاثة بدلاً من العبور إلى أوربا. المياه صارت تغمر المياه بسبب تعطل موتور فكلما مالت العبارة رجعت بالكثير من المياه في الوقت الذي لا يوجد فيه تفريغ لتوقف المحرِّك الذي جعل كلما يحدث في ظلام دامس .
الإنقلاب
في اللحظات الأخيرة صار الخطر شاخصاً وقريباً إلى حد كبير، وفقد الكثيرون أعصابهم وصرت أسمع صوت البكاء والصراخ. سمعت أحد أفراد الطاقم في آخر كلمة سمعتها أن العبارة لن تعود بعد الميلة القادمة ستنكفي وتبدأ في الغرق، وقد كان. أنا بلا سترة نجاة فقد كنت أتوسدها، لم يعفني الوقت حتى لأن أتذكرها. وقفت وتشهدت ثلاث مرات، بصوت عالٍ في هذه اللحظة لم أتذكر أحد سوى والدتي وكيف سيتم توصيل الخبر لها إذا مت؟ قفزت إلى الناحية الأخرى ومن حسن حظي وقع جسمي على حقيبة من حقائق رفاق الرحلة كان فيها قوارير مياه فارغة فظللت على سطح المياه الباردة والأمواج المتلاطمة. بعد مرور دقيقتين أو ثلاث، سكت كل شيء والظلام كما قلت يسيطر على الوضع وكان كل الرفاق أطفال وشباب نساء ورجال خارج العبارة يواجهون مصير الغرق المحتوم. أما أنا فقد حرصت على أن أتمسَّك بحقيبة القوارير المعدنية وظلت على السطح متأرجحاً مع الموج. تذكرت حلقة من برنامج (ناشونال جغرافي) تنالوت كيفية التحكم في الأعصاب وقت الخطر وشعرت بالطمأنينة إذا غرقت فهو يومي المكتوب وإذا نجوت الحمد لله. في هذا الوقت بدأت أنوار الفجر تشكف لي ما حولي، كنت بعيداً لأنني قذفت في الاتجاه المعاكس للزحام. عندما انكشف المنظر صعقت من الصدمة أكوام من الجثث على سطح المياه. رأيت شخصاً أسمر اقتربت منه قلت له سوداني؟ فأجابني: نعم،. سترته ممزقة من محاولات بعض الغرقى التمسُّك به هلعاً ورغبة في الحياة. اسمه محمد إبراهيم، فجأة أصابه الإعياء والإحباط لدرجة التفكير في الغرق ولا ينتظر الإغاثة. قلت: انظر إلى ناحية الشاطئ هناك الأسكندرية لا تيأس نحن قريبين من الحياة. ظللنا نحو ثماني ساعات، منتظرين على السطح بين حركتي المد والجزر تفرقنا كثيراً وصار النجاح في أن تظل فوق الماء وليس تحته.
بشارة الإنقاذ
عند انكشف الضوء أكثر ظهرت عدد من مراكب الصيد الكبيرة بدأت في إنقاذ الأحياء، من سوء حظي كنت بعيداً عن تجمعات الناجين وبلغ الإرهاق مني مبلغاً جعلني لا أقوى حتى على رفع صوتي أو يدي. كنت كمن هو في حالة إغماء بعدها لم أشعر بشيء .
صرخة
بدأ الوعي يعود إليَّ بشكل تدريجي كنت أظن أنني أصحو من حلم مزعج، رغم الإرهاق وعدم القدرة على الاستيقاظ الكامل، حاولت أن أفتح عيينيَّ بشكل أوسع وأدير رأسي لأتفحص المكان من حولي، عندما نجحت في ذلك دخلت في كابوس جديد وحقيقة أعقبته نوبة من الصراخ الهستيري بسبب أنني وجدت نفسي وحيداً بين عشرات الجثث ملقاة على ظهرها من النساء والرجال والأطفال وجوه الجثث كانت تعبِّر عن حالة الفزع التي عبَّرت عنها تلك الصرخات في جنح الظلام. فقد كانت هي صرخات معظم أصحاب الجثث الذين عندما فقت من غيبوبتي وجدت نفسي وسطهم، الشيء الوحيد أنني تأكدت من أني لا زلت على قيد الحياة. لكنني لم أسكت عن الصراخ، أحد طاقم مركب الصيد اقترب مني وأمسك بيدي. هل أنت مسلم ؟ فقلت: نعم، من السودان؟ فأجبته -أيضاً- بنعم، بدأ يقرأ عليَّ صورة (يس) وأنا أردد معه حتى بدأت الطمأنينة تعود إليَّ بشكل تدريجي. وصلنا إلى الشاطئ ومنها مباشرة إلى المستشفى عن طريق الإسعاف لتلقي العلاج. وهناك وجدنا تجمعات كثيرة من الناس خصوصاً المصريين هرعوا إلى الشاطئ ليعرفوا مصير أولادهم. وأسرعوا لنا بالطعام والملابس، ثم طلبتنا السلطات لإجراء تحقيق حول الحادثة وإحصاء الموتى ومعرفتهم. نحن السودانيين الأحياء وجدنا عددنا 26 شخصاً، جاءنا القنصل د. محمد صغيرون، للاطمئنان علينا ومعه بعض الملابس، ووعدنا باستخراج وسائق السفر. تم بعد ذلك تحويلنا إلى برج رشيد حيث أقمنا برعاية الأمم المتحدة وفي تطور مفاجئ تم ترحيلنا إلى السودان.
الغواصون
نحن السودانيين الناجين الـ 26 أصبحنا في تواصل وإخاء. نلتقي في المناسبات المختلفة نجتر ذكرى الحادثة والحكايات والروايات في كل لقاء. أنشأنا (قروب واتساب) أطلقنا عليه (الغواصون).
التيار